الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                378 [ ص: 264 ] 23 - باب

                                السجود على الثوب في شدة الحر

                                وقال الحسن: كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة، ويداه في كمه.

                                التالي السابق


                                روى ابن أبي شيبة : ثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن الحسن ، أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل منهم على عمامته.

                                فقد تضمن ما قاله الحسن في هذا مسألتين:

                                إحداهما:

                                سجود المصلي ويداه في كمه، أو في ثوبه، وقد حكى عن الصحابة أنهم كانوا يفعلونه.

                                وروى أبو نعيم ووكيع في " كتابيهما " عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال: كانوا يصلون في برانسهم ومساتقهم وطيالستهم، لا يخرجون أيديهم.

                                وروى وكيع ، عن الأعمش ، عن محارب - أو وبرة - قال: كان ابن عمر يلتحف بالملحفة، ثم يسجد فيها، لا يخرج يديه.

                                والصحيح عن ابن عمر : ما رواه مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان إذا سجد يضع كفيه على الذي يضع عليه وجهه. قال: ولقد رأيته في يوم شديد البرد ويخرج يديه من تحت برنس له .

                                [ ص: 265 ] وممن كان يسجد ويداه في ثوبه لا يخرجهما: سعيد بن جبير ، وعلقمة ، ومسروق ، والأسود .

                                وحكى ابن المنذر ، عن عمر الرخصة في السجود على الثوب في الحر، وعن عطاء وطاوس . قال: ورخص فيه للحر والبرد النخعي والشعبي ، وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، ورخص الشافعي في وضع اليدين على الثوب في الحر والبرد. انتهى.

                                ونقل ابن منصور ، عن أحمد وإسحاق : لا يسجد ويداه في ثوبه، إلا من برد أو علة، وكذا نقل غير واحد عن أحمد : أنه لا يفعل ذلك إلا من علة، ولا يفعله من غير علة.

                                وروى عنه جماعة من أصحابه: أنه لا بأس بذلك، ولم يقيده بالعلة، فيحتمل أن يكون ذلك رواية عنه بعدم الكراهة مطلقا، ويحتمل أن تحمل رواياته المطلقة على رواياته المقيدة، وكلام أكثر أصحابنا يدل على ذلك، وفيه نظر.

                                وبكل حال: فيجرئ السجود وإن لم يباشر الأرض بيديه، رواية واحدة، ولا يصح عن أحمد خلاف ذلك البتة، وإنما أصل نقل الخلاف في ذلك عن أحمد مأخوذ من كتب مجهولة لا يعرف أصحابها، فلا يعتمد عليها.

                                ومذهب مالك : أنه إن كان حر أو برد جاز له أن يبسط ثوبا يسجد عليه، ويجعل عليه كفيه، مع قوله: يكره السجود على الثياب من غير عذر، كما سبق.

                                وللشافعي قولان في وجوب السجود على الكفين.

                                وعلى قوله بالوجوب: فهل يجب كشفهما أو يجوز السجود عليهما وهما في كمه؟ على قولين له - أيضا - أصحهما: أنه يجوز.

                                [ ص: 266 ] وعلى القول الآخر، فإنما يجب كشف أدنى جزء منهما، لا كشف جميعهما.

                                المسألة الثانية:

                                سجود الرجل على كور عمامته وعلى قلنسوته ، وقد حكى الحسن عن الصحابة أنهم كانوا يفعلونه.

                                وممن روي عنه أنه كان يسجد على كور عمامته : عبد الله بن أبي أوفى ، لكن من وجه فيه ضعف.

                                وروى عبد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان يسجد على كور عمامته.

                                وقد خالفه من هو أحفظ منه كما سيأتي.

                                وروي عن عبد الله بن يزيد الأنصاري ومسروق وشريح السجود على كور العمامة والبرنس.

                                ورخص فيه ابن المسيب والحسن ومكحول والزهري والثوري والأوزاعي وإسحاق .

                                وكان عبد الرحمن بن يزيد يسجد على كور عمامة له غليظة، تحول بينه وبين الأرض.

                                وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يفعله، من وجوه كلها باطلة، لا يصح منها شيء -: قاله البيهقي وغيره.

                                [ ص: 267 ] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنه، من وجوه مرسلة، وفيها ضعف - أيضا.

                                وروي عن علي ، قال: إذا صلى أحدكم فليحسر العمامة عن جبهته.

                                وكان عبادة بن الصامت يفعله.

                                وروى أيوب ، عن نافع ، أن ابن عمر كان لا يسجد على كور العمامة.

                                وروى عبيد الله ، عن نافع ، أن ابن عمر كان يحسر عن جبهته كور العمامة إذا سجد، ويخرج يديه، ويقول: إن اليدين تسجدان مع الوجه.

                                وكره ابن سيرين السجود على كور العمامة.

                                وعن عمر بن عبد العزيز ما يدل على ذلك.

                                وقال النخعي وميمون بن مهران : أبرز جبيني أحب إلي.

                                وقال عروة : يمكن جبهته من الأرض.

                                وقال مالك : من صلى على كور العمامة كرهته، ولا يعيد، وأحب إلي أن يرفع عن بعض جبهته حتى تمس الأرض بذلك -: نقله صاحب " تهذيب المدونة ".

                                ومذهب الشافعي : لا يجزئه أن يسجد على كور عمامته، ولا على طرف ثوبه وما هو متصل به، حتى يكشف عن بعض محل سجوده فيباشر به المصلى.

                                [ ص: 268 ] وكره أحمد السجود على كور العمامة، إلا لعلة من حر أو برد يؤذيه، فلم يكرهه كذلك.

                                وقال - في رواية صالح -: لا بأس بالسجود على كور العمامة، وأعجب إلي أن يبرز جبهته ويسجد عليها.

                                وقال - في رواية أبي داود -: لا يسجد على كور العمامة، ولا على القلنسوة. قيل له: فمن صلى هكذا يعيد؟ قال: لا، ولكن لا يسجد عليها.

                                ولم يذكر القاضي أبو يعلى في " الجامع الكبير " وغيره من كتبه في صحة صلاته على كور العمامة ونحوها خلافا.

                                وحكى ابن أبي موسى رواية أخرى: أنه إذا سجد على كور عمامته لغير حر ولا برد أنه لا يجزئه.

                                ولم نجد بذلك نصا عنه صريحا بالإعادة، إنما النص عنه بكراهته والنهي عنه.

                                وقد نقل أبو داود النهي عنه مع الإجزاء.

                                ونهى أحمد ابنه عبد الله عن سجوده في الصلاة على كمه، ولم يأمره بالإعادة.

                                وأما من نقل رواية عن أحمد بالإعادة مطلقا بذلك فلا يصح نقله.

                                وقول ابن أبي موسى : إن سجد على قلنسوته لم يجزئه - قولا واحدا - لا يصح، ورواية أبي داود عن أحمد ترده.

                                ولو كان جبينه جريحا وعصبه بعصابة جاز السجود عليها عند الشافعي ، ولا إعادة عليه، ومن أصحابه من حكى وجها ضعيفا بالإعادة.

                                ولم يرخص عبيدة السلماني في السجود على العصابة للجرح، وهذا حرج شديد تأباه الشريعة السمحة.



                                الخدمات العلمية