nindex.php?page=treesubj&link=28973 ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون )
[ ص: 151 ] في الناس المنادون هنا وجهان :
أحدهما : أنهم الذين يقولون : آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ذلك الإيمان الذي يملك القلب ويصرف النفس في الأعمال ، وهو المقبول عند الله تعالى ، وإنما هم آخذون بتقاليد ظاهرية ليس لها ذلك الأثر الصالح في أخلاقهم وأعمالهم ، فهم يخادعون الله تعالى بالتلبس ببعض صور العبادات والأقوال و ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918611إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) ) والكلام على هذا لا يزال في الصنف الرابع من أصناف البشر المخاطبين بالقرآن كما تقدم ، فلا حاجة إلى بيان وجه الاتصال بين الآيات .
( الوجه الثاني ) : - وهو الراجح - أن الخطاب عام للناس كافة ، ووجه الاتصال بين الآيات على هذا أنه لما بين تعالى في أصناف الناس هذا الصنف الذي احتقر أفراده نعم الله تعالى عليهم ، واستعظموها وأكبروها على من قبلهم ، فحرموا أنفسهم من أجل المزايا الإنسانية ، وأجلوا سلفهم حتى رفعوهم إلى مرتبة الربوبية ، خاطب الناس عامة بأن يعبدوه ملاحظين معنى الربوبية والخالقية التي تشملهم ومن قبلهم من السلف ، فتنظمهم جميعا في سلك العبودية للخالق تعالى شأنه ، ولا يكون كذلك الصنف الخاسر الكفور بنعم المشاعر والعقل وهداية الدين ، إذا لم يستعملوا عقولهم في فهم ما أنزل عليهم ، بل اكتفوا بتقليد بعض رؤسائهم وعلمائهم ، زاعمين أنه لا يقوى على فهم كتاب الله تعالى غيرهم ، كأن الله تعالى أنزل كتبه وخاطب بها نفرا معدودين في وقت محدود ولم يجعله هداية عامة للأمة ، وإنما ألزم سائر الناس في سائر الأوقات الاكتفاء باتباع أولئك الرؤساء وأتباعهم وأتباع أتباعهم وهلم جرا ، ثم تركوا أتباعهم اتكالا على شفاعتهم ، واكتفاء بالانتساب إليهم ، وزعما أن الله أعطاهم ما لا يعطي مثله لأحد سواهم وإن عملوا مثل عملهم ، تعالى الله عن الظلم والمحاباة ، وهو ذو الرحمة التي لا تنتهي وذو الفضل العظيم .
هذا النداء الإلهي المشعر بأن نسبة الناس الأولين إلى الله تعالى كنسبة الآخرين واحدة ، هو الخالق وهم المخلوقون ، وهو المستحق للعبادة وهم المأمورون بها أجمعون ، حجة علينا وعلى جميع من استن بسنة ذلك الصنف من قبلنا .
[ ص: 152 ] ( قال شيخنا ) : وأخص طلاب علوم الدين بالذكر ،
nindex.php?page=treesubj&link=18494_20356فينبغي للطالب أن يوجه نفسه إلى فهم القرآن ، ويحملها على الاهتداء به ، فإذا هو فعل ذلك تظهر عليه آداب الإسلام التي أشار إليها الرسول - عليه الصلاة والسلام - بقوله : ( (
أدبني ربي فأحسن تأديبي ) ) وإنما كان أدبه القرآن ، ومن اشتغل بهذا حق الاشتغال ، وصل إلى معرفة أمراض المسلمين الحاضرة ، ومنابع البدع التي فشت فيهم ، ومثارات الفتن التي فرقتهم ، ويعرف علاج ذلك ، وأن من ذاق حلاوة القرآن لا ينظر في كتاب ولا يتلقى علما ، إلا ما يفتح له باب الفهم في القرآن أو ما يفتح له بابه القرآن فيجده مرآته ، وما عدا ذلك مبعد عنه ، والبعد عن القرآن هو عين البعد عن الله تعالى ، وذلك هو الضلال البعيد .
كل ما أمرنا به القرآن وأرشدنا إلى النظر فيه فالاشتغال به اشتغال بالقرآن ، فإذا قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) فذلك تنبيه وإرشاد إلى الاعتبار بما في خلقنا من الحكم والأسرار ، وينبغي لنا البحث عنها كما قال في آية أخرى :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=20وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) ( 51 : 20 ، 21 ) وإلى الاعتبار بتاريخ من قبلنا ، كما قال في آية أخرى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=42قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ) ( 30 : 42 ) وأمثال ذلك كثير .
لا يتعظ الإنسان بالقرآن فتطمئن نفسه بوعده ، وتخشع لوعيده ، إلا إذا عرف معانيه ، وذاق حلاوة أساليبه ، ولا يأتي هذا إلا بمزاولة الكلام العربي البليغ مع النظر في بعض النحو ، كنحو ابن هشام وبعض فنون البلاغة كبلاغة عبد القاهر ، وبعد ذلك يكون له ذوق
[ ص: 153 ] في فهم اللغة يؤهله لفهم القرآن . قال الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12604أبو بكر الباقلاني : من زعم أنه يمكنه أن يفهم شيئا من بلاغة القرآن بدون أن يمارس البلاغة بنفسه فهو كاذب مبطل .
فهل يصلح لمسلم بلغ ورشد وطلب العلم ألا يجعل القرآن إمامه ويتخذه نورا يمشي به في الناس ، ويهتدي به في ظلمات البدع ؟ .
أمامنا عقبتان كئودان لا نرتقي عما نحن فيه إلا باقتحامهما ، وهما الكسل وتسجيل القصور على أنفسنا بجهل قيمة نعم الله تعالى علينا . وصاحب هاتين الخلتين يمقت كل من يرشده إلى الخير ويهديه للحق ؛ لأنه يكلفه ضد طبعه ، فلا يرى مهربا من الاعتراف بضلاله وغيه ، إلا بالقدح في مرشده وناصحه .
على كل منا أن ينظر في نفسه وينظر في القرآن العظيم ، ويزن به ما هو عليه من العقائد والأخلاق والأعمال . فإن رجح به ميزانه فهو مسلم حقيقي فليحمد الله تعالى . وإلا فليسع فيما يكون به الرجحان .
لا بد لنا من النظر الطويل والفكر القويم فيما نحن فيه ، فمن لم يتفكر لم يهتد إلى الحق .
ومن لم يهتد إليه فهو ضال . فماذا بعد الحق إلا الضلال !
هذا ما تذكرناه من التنبيه الذي قلنا إن الأستاذ قفى به على تفسير الآيات التي وردت في صنفي المنافقين ومرضى القلوب بإزاء القرآن ، ووصل به بينها وبين قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21ياأيها الناس اعبدوا ربكم ) الآيات . وهاك تفسيرها بالتفصيل .
nindex.php?page=treesubj&link=28973 ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21ياأيها الناس اعبدوا ربكم ) أقول : إن الله تعالى قد افتتح هذه السورة بذكر كتابه القرآن وكونه حقا لا ريب فيه . وذكر بعد ذلك أصناف البشر تجاهه من المهتدين به بالقوة وبالفعل ، ومن الكافرين الذين فقدوا الاستعداد للهدى ، ومن المنافقين المذبذبين بين المؤمنين والكافرين ، وفيه ما يفهم منه أن هؤلاء متفاوتون ، منهم المستعد للإخلاص في الإيمان ومن فقد الاستعداد له ، وحكمة بيان حال الميئوس من إيمانهم أنهم ليسوا حجة على هداية القرآن بل هو حجة عليهم .
بعد هذا التمهيد جاءت هذه الآية والآيات الأربع بعدها مصرحات بدعوة جميع الناس إلى دين الله تعالى الحق ببيان أصوله وأسسه وهي :
( 1 ) توحيد الألوهية بعبادة الله تعالى وحده . مع ملاحظة توحيد الربوبية .
( 2 ) القرآن آيته الكبرى ودينه التفصيلي .
( 3 ) نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - المرسل بهذا القرآن .
( 4 ) الجزاء في الآخرة على الكفر وأعماله بالنار . وعلى الإيمان وأعماله بالجنة .
[ ص: 154 ] تقدم تحقيق معنى العبادة ومعنى الرب في تفسير سورة الفاتحة .
nindex.php?page=treesubj&link=32022وبدء الدعوة بالأمر بعبادة الله تعالى وحده هو سنة جميع المرسلين قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=36ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) ( 16 : 36 ) فكان كل رسول يبدأ دعوته بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=59ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) وذلك أن جميع تلك الأمم كانت تؤمن بأن الله خالق الخلق ، هو ربهم ومدبر أمورهم ، وإنما كان كفرهم الأعظم بعبادة غير الله تعالى بالدعاء الذي هو ركن العبادة الأعظم في وجدان جميع البشر ، وبغير الدعاء والاستغاثة من العبادات العرفية ، كالتقرب إلى المعبود بالنذور وذبح القرابين أو الطواف والتمسح به إن كان جسما أو تمثالا لملك أو بشر أو حيوان أو قبرا لإنسان ، ومنهم من كان ينكر البعث أيضا ، ولما كان المخاطبون بالدعوة هنا أولا وبالذات في ضمن الدعوة العامة ، وهم
اليهود والعرب في المدينة وما حولها يؤمنون برب العالمين ووحدانيته ويعبدون غيره إما بدعائه مع الله أو من دون الله ، وإما بجعله شارعا يتبعونه فيما يصدره من أحكام التعبد أو الحرام والحلال - لما كانوا كذلك ، احتج على دعوتهم إلى توحيد الله تعالى بالتعبير بلفظ " رب " مضافا إليهم فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21اعبدوا ربكم ) ووصفه بما يدل على انفراده بالربوبية من الصفات المسلمة عندهم وهي الخلق والتكوين والرزق فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21الذي خلقكم والذين من قبلكم ) إلى آخر الآية التالية - أي إذا كان ربكم هو الذي خلقكم وخلق من قبلكم ، وهو الذي سخر لكم السماء والأرض لرزقكم ومنافعكم ، فيجب أن تعبدوه وحده ولا تشركوا بعبادته أحدا من خلقه فتجعلونه مساويا له ، وتفضلونه على أنفسكم تفضيلا من نوع تفضيل الخالق على المخلوق والرب على المربوب . وهاك تفصيل ذلك بما كتبته من سياق درس شيخنا مفصلا له تفصيلا :
يقول تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21ياأيها الناس ) الذين يدعون الإيمان بالله قولا بأفواههم ولم يمس الإيمان الحق سواد قلوبهم ، ولا كان له سلطان على أرواحهم ، ويدعون الإيمان باليوم الآخر ولم يستعدوا له بتهذيب أنفسهم وإصلاح أعمالهم ، وإنما يأتون ببعض صور العبادات بحكم العادات الموروثة . وقلوبهم مشغولة عن الله الذي لا تفيد العبادة عنده إلا بالتوجه إليه وابتغاء مرضاته ، والشعور بعظمته وجلاله ، فهم يخادعون الله بهذه الظواهر التي لا معنى لها ، والصور التي لا روح فيها ، وإنما يخدعون في الحقيقة أنفسهم ؛ لأن أعمالهم هذه لا تفيدهم في الدنيا عزة وسعادة ولا تنجيهم في الآخرة .
ويا أيها الناس الذين لم يرزءوا بهذا الخذلان ، ولم يبتلوا بهذا الافتتان ، سواء كانوا من أهل الكفر أو من أهل الإيمان ،
nindex.php?page=treesubj&link=28973_29428_29530 ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21اعبدوا ربكم ) جميعا عبادة خشوع وإخلاص وأدب وحضور ، كأنكم تنظرون إليه وترونه ، فإن لم تكونوا ترونه فإنه يراكم ، وينظر دائما إلى محل الإخلاص منكم وهو قلوبكم ، واستعينوا على إشعار نفوسكم هذا الخشوع والحضور
[ ص: 155 ] والإخلاص في العبادة باستحضار معنى الربوبية ، فإنه هو ربكم الذي أنشأكم فيما لا تعلمون (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=78وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) ( 16 : 78 ) وغذاكم بنعمه ، ونماكم بكرمه ، كما فعل مثل ذلك بسلفكم الصالح فشكروه وعبدوه وحده مقرين بهذه التربية ، ومعظمين لهذه المنة ، فليدع ذلك الصنف احتقار النعم التي هو فيها والاقتصار على تعظيم نعمة الله على السلف فقط . فإن هذا الرب العظيم ( الذي خلقكم ) و ( خلق الذين من قبلكم ) قد رباكم كما ربى سلفكم ، ووهبكم من الهدايات مثلما وهبهم ، فمن شكر منهم ومنكم زاده نعما ، ومن كفر بهذه النعم جعلها عليه نقما ، ليكون عبرة ومثلا للآخرين ، وذلك من رحمته بالعالمين ، وقد أقسم تعالى على ذلك في كتابه المجيد فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=7لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) ( 14 : 7 ) وفي القصاص حياة لأولي الألباب ، وما يتذكر إلا من أناب .
هكذا
nindex.php?page=treesubj&link=29428أمر الله تعالى عباده أجمعين بأن يعبدوه وحده مخلصين له الدين ، وأرشدهم بإعلامه إياهم أنه ساوى بينهم وبين من قبلهم في المواهب الخلقية إلى الاستقلال بالعمل وقدر نعمته عليهم قدرها ، ليعلموا أن كل النعم التي تكتسب بالشكر - وهي ما عدا النبوة - مقدورة لهم ، كما كانت مقدورة لمن قبلهم ، وأنهم إذا زادوا على سلفهم شكرا يزادون نعما ، وما الشكر إلا استعمال المواهب والنعم فيما وهبت لأجله ، فالذين يقولون : إننا لا نقدر على فهم الدين بأنفسنا من الكتاب والسنة لأن عقولنا وأفهامنا ضعيفة ، وإنما علينا أن نأخذ بقول من قبلنا من آبائنا ؛ لأن عقولهم كانت أقوى ، وكانوا على فهم الدين أقدر ، بل لا يمكن أن يفهمه غيرهم ، أولئك كافرون بنعمة العقل ، وغير مهتدين بهذه الآية الناطقة بالمساواة في المواهب وسعة الرحمة والفضل ، وكذلك الذين يتخذون وسطاء بينهم وبين الله تعالى لأجل التقريب إليه زلفى بغير ما شرعه لهم من الدين ، وما جاء به الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ، وهم الوسائل في الهداية والإرشاد ، أو لأجل الشفاعة لهم عنده لينالوا جزاء ما شرعه من الدين ، من غير طريق العمل به واتباع المرسلين - قد احتقروا نعم الله تعالى ولم يهتدوا بهذه الآية ، لأنهم قد جعلوا لله أندادا يبغون أن ينالوا بأشخاصهم ما حكم الله بأن يطلبه الناس بإيمانهم وأعمالهم ، فجعلوا هؤلاء الأنداد شركاء لله يغنونهم عن شريعته ، شعروا بذلك أم لم يشعروا .
يقول تعالى لجميع عباده ما معناه : اعبدوني ملاحظين معنى الربوبية والمساواة في المواهب الخلقية التي تؤهلكم للسعادة الحقيقية (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21لعلكم تتقون ) فإن العبادة على هذا الوجه هي التي تعدكم للتقوى ، ويرجى بها بلوغ الكمال القصوى .
قال الأستاذ : الشائع أن " لعل " للترجي في ذاتها ، وإذا وقعت في كلام الله تعالى يكون معناها التحقيق ، وغرض القائلين بهذا
nindex.php?page=treesubj&link=18267تنزيه الله سبحانه عن الترجي بمعناه اللغوي [ ص: 156 ] الآتي ، ولكنه رمي للكلام بدون بيان ، وحقيقته أن " لعل " للترجي ولكنها تستعمل للإعداد والتهيئة للشيء وفي هذا معنى الترجي ، فحيث وقعت " لعل " في القرآن فالمراد بها هذا المعنى الأخير كما فسرناهما به آنفا ، وهو يستلزم التحقيق ( لأن الإعداد بما تأتي " لعل " بعده أمر محقق لا ريبة فيه ) فإن العبادة على الوجه الذي أرشدت إليه الآية من ملاحظة معنى الربوبية إلخ ما تقدم شرحه ، تطبع في النفس ملكة خشية الله وتعظيمه ومراقبته ، وتعلي همة العابد وتقوي عزيمته وإرادته ، فتزكو نفسه وتنفر من المعاصي والرذائل ، وتألف الطاعات والفضائل ، وهذه هي التقوى . وإذا قلنا : إن الرجاء متعلق بالناس فالإعداد فيه ظاهر ومتحقق ، إذ لو لم يخلقهم مستعدين للتقوى لما اتقاه منهم أحد .
ومعنى الترجي في أصل اللغة : توقع حصول الشيء القريب بحصول سببه والاستعداد له ، سواء كان الاستعداد كسبيا أو طبيعيا فاستعملنا " لعل " المعبرة عن التوقع في سببه وهو الاستعداد أو الإعداد الذي هو جعل المرء مستعدا ، والتعبير عن المسبب بلفظ السبب شائع في استعمال اللغة ، وقد عدوا الترجي والتمني من الأخبار وصيغهما صيغ إنشاء فقط .
وأقول : إن ما ذكره من الإعداد صحيح ولكنه غير مطرد ، والتحقيق أن الترجي عبارة عن كون الشيء مأمولا بما يذكر من سببه غير مقطوع به لذاته بل يتبع قوة أسبابه مع انتفاء الموانع ويتعلق تارة بالمتكلم ، وتارة بالمخاطب ، وتارة بالمتكلم عنه ، وتارة بغيرهما ، فتأمل قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=1لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) ( 65 : 1 ) وقوله حكاية عن قوم
موسى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=40لعلنا نتبع السحرة ) ( 26 : 40 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب ) ( 40 : 36 ) إلخ . وقوله
لموسى وهارون : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=44فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) ( 20 : 44 ) وقد علم أن هذا مقطوع بعدم وقوعه عند الله ، ولكن الرجاء فيه متعلق
بموسى وهارون أي (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=44فقولا له قولا لينا ) راجين به أن يتذكر أو يخشى لا قولا غليظا منفرا . وتأتي " لعل " للإشفاق وإفادة التحذير من أمر وقعت أسبابه فكان بها مظنة الوقوع كقوله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=6فلعلك باخع نفسك ) ( 18 : 6 ) الآية ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=12فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ) ( 11 : 12 ) الآية .
nindex.php?page=treesubj&link=28973 ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )
[ ص: 151 ] فِي النَّاسِ الْمُنَادُونَ هُنَا وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَمْلِكُ الْقَلْبَ وَيَصْرِفُ النَّفْسَ فِي الْأَعْمَالِ ، وَهُوَ الْمَقْبُولُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا هُمْ آخِذُونَ بِتَقَالِيدَ ظَاهِرِيَّةٍ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ الْأَثَرُ الصَّالِحُ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ ، فَهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِالتَّلَبُّسِ بِبَعْضِ صُوَرِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَقْوَالِ وَ ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918611إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ) ) وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا لَا يَزَالُ فِي الصِّنْفِ الرَّابِعِ مِنْ أَصْنَافِ الْبَشَرِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ .
( الْوَجْهُ الثَّانِي ) : - وَهُوَ الرَّاجِحُ - أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِلنَّاسِ كَافَّةً ، وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي أَصْنَافِ النَّاسِ هَذَا الصِّنْفَ الَّذِي احْتَقَرَ أَفْرَادُهُ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ، وَاسْتَعْظَمُوهَا وَأَكْبَرُوهَا عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ ، فَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَجَلِّ الْمَزَايَا الْإِنْسَانِيَّةِ ، وَأَجَّلُوا سَلَفَهُمْ حَتَّى رَفَعُوهُمْ إِلَى مَرْتَبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ، خَاطَبَ النَّاسَ عَامَّةً بِأَنْ يَعْبُدُوهُ مُلَاحَظِينَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْخَالِقِيَّةِ الَّتِي تَشْمَلُهُمْ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ السَّلَفِ ، فَتَنْظِمُهُمْ جَمِيعًا فِي سِلْكِ الْعُبُودِيَّةِ لِلْخَالِقِ تَعَالَى شَأْنُهُ ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ الصِّنْفُ الْخَاسِرُ الْكَفُورُ بِنِعَمِ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ ، إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ فِي فَهْمِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ ، بَلِ اكْتَفَوْا بِتَقْلِيدِ بَعْضِ رُؤَسَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى فَهْمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُهُمْ ، كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كُتُبَهُ وَخَاطَبَ بِهَا نَفَرًا مَعْدُودِينَ فِي وَقْتٍ مَحْدُودٍ وَلَمْ يَجْعَلْهُ هِدَايَةً عَامَّةً لِلْأُمَّةِ ، وَإِنَّمَا أَلْزَمَ سَائِرَ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ الِاكْتِفَاءَ بِاتِّبَاعِ أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِ أَتْبَاعِهِمْ وَهَلُمَّ جَرَّا ، ثُمَّ تَرَكُوا أَتْبَاعَهُمُ اتِّكَالًا عَلَى شَفَاعَتِهِمْ ، وَاكْتِفَاءً بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ ، وَزَعْمًا أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمْ مَا لَا يُعْطِي مِثْلَهُ لِأَحَدٍ سِوَاهُمْ وَإِنْ عَمِلُوا مِثْلَ عَمَلِهِمْ ، تَعَالَى اللَّهُ عَنِ الظُّلْمِ وَالْمُحَابَاةِ ، وَهُوَ ذُو الرَّحْمَةِ الَّتِي لَا تَنْتَهِي وَذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
هَذَا النِّدَاءُ الْإِلَهِيُّ الْمُشْعِرُ بِأَنَّ نِسْبَةَ النَّاسِ الْأَوَّلِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَنِسْبَةِ الْآخَرِينَ وَاحِدَةٌ ، هُوَ الْخَالِقُ وَهُمُ الْمَخْلُوقُونَ ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِهَا أَجْمَعُونَ ، حُجَّةٌ عَلَيْنَا وَعَلَى جَمِيعِ مَنِ اسْتَنَّ بِسُنَّةِ ذَلِكَ الصِّنْفِ مِنْ قَبْلِنَا .
[ ص: 152 ] ( قَالَ شَيْخُنَا ) : وَأَخُصُّ طُلَّابَ عُلُومِ الدِّينِ بِالذِّكْرِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=18494_20356فَيَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يُوَجِّهَ نَفْسَهُ إِلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ ، وَيَحْمِلَهَا عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ ، فَإِذَا هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ تَظْهَرُ عَلَيْهِ آدَابُ الْإِسْلَامِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ : ( (
أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي ) ) وَإِنَّمَا كَانَ أَدَبَهُ الْقُرْآنُ ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِهَذَا حَقَّ الِاشْتِغَالِ ، وَصَلَ إِلَى مَعْرِفَةِ أَمْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ الْحَاضِرَةِ ، وَمَنَابِعِ الْبِدَعِ الَّتِي فَشَتْ فِيهِمْ ، وَمَثَارَاتِ الْفِتَنِ الَّتِي فَرَّقَتْهُمْ ، وَيَعْرِفُ عِلَاجَ ذَلِكَ ، وَأَنَّ مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ الْقُرْآنِ لَا يَنْظُرُ فِي كِتَابٍ وَلَا يَتَلَقَّى عِلْمًا ، إِلَّا مَا يَفْتَحُ لَهُ بَابَ الْفَهْمِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ مَا يَفْتَحُ لَهُ بَابَهُ الْقُرْآنُ فَيَجِدُهُ مِرْآتَهُ ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مُبْعِدٌ عَنْهُ ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْقُرْآنِ هُوَ عَيْنُ الْبُعْدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ .
كُلُّ مَا أَمَرَنَا بِهِ الْقُرْآنُ وَأَرْشَدَنَا إِلَى النَّظَرِ فِيهِ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ اشْتِغَالٌ بِالْقُرْآنِ ، فَإِذَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) فَذَلِكَ تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا فِي خَلْقِنَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ ، وَيَنْبَغِي لَنَا الْبَحْثُ عَنْهَا كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=20وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) ( 51 : 20 ، 21 ) وَإِلَى الِاعْتِبَارِ بِتَارِيخِ مَنْ قَبْلَنَا ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=42قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ) ( 30 : 42 ) وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ .
لَا يَتَّعِظُ الْإِنْسَانُ بِالْقُرْآنِ فَتَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ بِوَعْدِهِ ، وَتَخْشَعَ لِوَعِيدِهِ ، إِلَّا إِذَا عَرَفَ مَعَانِيَهُ ، وَذَاقَ حَلَاوَةَ أَسَالِيبِهِ ، وَلَا يَأْتِي هَذَا إِلَّا بِمُزَاوَلَةِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ مَعَ النَّظَرِ فِي بَعْضِ النَّحْوِ ، كَنَحْوِ ابْنِ هِشَامٍ وَبَعْضِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ كَبَلَاغَةِ عَبْدِ الْقَاهِرِ ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لَهُ ذَوْقٌ
[ ص: 153 ] فِي فَهْمِ اللُّغَةِ يُؤَهِّلُهُ لِفَهْمِ الْقُرْآنِ . قَالَ الْإِمَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=12604أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ : مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْهَمَ شَيْئًا مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ بِدُونِ أَنْ يُمَارِسَ الْبَلَاغَةَ بِنَفْسِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُبْطِلٌ .
فَهَلْ يَصْلُحُ لِمُسْلِمٍ بَلَغَ وَرَشَدَ وَطَلَبَ الْعِلْمَ أَلَّا يَجْعَلَ الْقُرْآنَ إِمَامَهُ وَيَتَّخِذَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ، وَيَهْتَدِي بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبِدَعِ ؟ .
أَمَامَنَا عَقَبَتَانِ كَئُودَانِ لَا نَرْتَقِي عَمَّا نَحْنُ فِيهِ إِلَّا بِاقْتِحَامِهِمَا ، وَهُمَا الْكَسَلُ وَتَسْجِيلُ الْقُصُورِ عَلَى أَنْفُسِنَا بِجَهْلِ قِيمَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا . وَصَاحِبُ هَاتَيْنِ الْخُلَّتَيْنِ يَمْقُتُ كُلَّ مَنْ يُرْشِدُهُ إِلَى الْخَيْرِ وَيَهْدِيهِ لِلْحَقِّ ؛ لِأَنَّهُ يُكَلِّفُهُ ضِدَّ طَبْعِهِ ، فَلَا يَرَى مَهْرَبًا مِنَ الِاعْتِرَافِ بِضَلَالِهِ وَغَيِّهِ ، إِلَّا بِالْقَدْحِ فِي مُرْشِدِهِ وَنَاصِحِهِ .
عَلَى كُلٍّ مِنَّا أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِهِ وَيَنْظُرَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَيَزِنَ بِهِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ . فَإِنْ رَجَحَ بِهِ مِيزَانُهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ حَقِيقِيٌّ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ تَعَالَى . وَإِلَّا فَلْيَسْعَ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الرُّجْحَانُ .
لَا بُدَّ لَنَا مِنَ النَّظَرِ الطَّوِيلِ وَالْفِكْرِ الْقَوِيمِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَمَنْ لَمْ يَتَفَكَّرْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى الْحَقِّ .
وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ فَهُوَ ضَالٌّ . فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ !
هَذَا مَا تَذَكَّرْنَاهُ مِنَ التَّنْبِيهِ الَّذِي قُلْنَا إِنَّ الْأُسْتَاذَ قَفَّى بِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي صِنْفَيِ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ بِإِزَاءِ الْقُرْآنِ ، وَوَصَلَ بِهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) الْآيَاتِ . وَهَاكَ تَفْسِيرَهَا بِالتَّفْصِيلِ .
nindex.php?page=treesubj&link=28973 ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) أَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ افْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ كِتَابِهِ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ حَقًّا لَا رَيْبَ فِيهِ . وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَصْنَافَ الْبَشَرِ تُجَاهَهُ مِنَ الْمُهْتَدِينَ بِهِ بِالْقُوَّةِ وَبِالْفِعْلِ ، وَمِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْهُدَى ، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ ، وَفِيهِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُتَفَاوِتُونَ ، مِنْهُمُ الْمُسْتَعِدُّ لِلْإِخْلَاصِ فِي الْإِيمَانِ وَمَنْ فَقَدَ الِاسْتِعْدَادَ لَهُ ، وَحِكْمَةُ بَيَانِ حَالِ الْمَيْئُوسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا حُجَّةً عَلَى هِدَايَةِ الْقُرْآنِ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ .
بَعْدَ هَذَا التَّمْهِيدِ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَاتُ الْأَرْبَعُ بَعْدَهَا مُصَرِّحَاتٍ بِدَعْوَةِ جَمِيعِ النَّاسِ إِلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى الْحَقِّ بِبَيَانِ أُصُولِهِ وَأُسُسِهِ وَهِيَ :
( 1 ) تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ . مَعَ مُلَاحَظَةِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ .
( 2 ) الْقُرْآنُ آيَتُهُ الْكُبْرَى وَدِينُهُ التَّفْصِيلِيُّ .
( 3 ) نُبُوَّةُ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُرْسَلِ بِهَذَا الْقُرْآنِ .
( 4 ) الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ بِالنَّارِ . وَعَلَى الْإِيمَانِ وَأَعْمَالِهِ بِالْجَنَّةِ .
[ ص: 154 ] تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمَعْنَى الرَّبِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ .
nindex.php?page=treesubj&link=32022وَبَدْءُ الدَّعْوَةِ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ سُنَّةُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=36وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ( 16 : 36 ) فَكَانَ كُلُّ رَسُولٍ يَبْدَأُ دَعْوَتَهُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=59يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْأُمَمِ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقَ الْخَلْقِ ، هُوَ رَبُّهُمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ ، وَإِنَّمَا كَانَ كُفْرُهُمُ الْأَعْظَمُ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْعِبَادَةِ الْأَعْظَمِ فِي وِجْدَانِ جَمِيعِ الْبَشَرِ ، وَبِغَيْرِ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْعُرْفِيَّةِ ، كَالتَّقَرُّبِ إِلَى الْمَعْبُودِ بِالنُّذُورِ وَذَبْحِ الْقَرَابِينَ أَوِ الطَّوَافِ وَالتَّمَسُّحِ بِهِ إِنْ كَانَ جِسْمًا أَوْ تِمْثَالًا لِمَلِكٍ أَوْ بَشَرٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ قَبْرًا لِإِنْسَانٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُنْكِرُ الْبَعْثَ أَيْضًا ، وَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ بِالدَّعْوَةِ هُنَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ فِي ضِمْنِ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ ، وَهُمُ
الْيَهُودُ وَالْعَرَبُ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا يُؤْمِنُونَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ إِمَّا بِدُعَائِهِ مَعَ اللَّهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَإِمَّا بِجَعْلِهِ شَارِعًا يَتْبَعُونَهُ فِيمَا يُصْدِرُهُ مِنْ أَحْكَامِ التَّعَبُّدِ أَوِ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ - لَمَّا كَانُوا كَذَلِكَ ، احْتَجَّ عَلَى دَعْوَتِهِمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّعْبِيرِ بِلَفْظِ " رَبٍّ " مُضَافًا إِلَيْهِمْ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) وَوَصَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُسَلَّمَةِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ وَالرِّزْقُ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ - أَيْ إِذَا كَانَ رَبُّكُمْ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُمْ ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لِرِزْقِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ ، فَيَجِبُ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِعِبَادَتِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ فَتَجْعَلُونَهُ مُسَاوِيًا لَهُ ، وَتُفَضِّلُونَهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَفْضِيلًا مَنْ نَوْعِ تَفْضِيلِ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَالرَّبِّ عَلَى الْمَرْبُوبِ . وَهَاكَ تَفْصِيلَ ذَلِكَ بِمَا كَتَبْتُهُ مِنْ سِيَاقِ دَرْسِ شَيْخِنَا مُفَصِّلًا لَهُ تَفْصِيلًا :
يَقُولُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يَاأَيُّهَا النَّاسُ ) الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ قَوْلًا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ يَمَسَّ الْإِيمَانُ الْحَقُّ سَوَادَ قُلُوبِهِمْ ، وَلَا كَانَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ ، وَيَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَمْ يَسْتَعِدُّوا لَهُ بِتَهْذِيبِ أَنْفُسِهِمْ وَإِصْلَاحِ أَعْمَالِهِمْ ، وَإِنَّمَا يَأْتُونَ بِبَعْضِ صُوَرِ الْعِبَادَاتِ بِحُكْمِ الْعَادَاتِ الْمَوْرُوثَةِ . وَقُلُوبُهُمْ مَشْغُولَةٌ عَنِ اللَّهِ الَّذِي لَا تُفِيدُ الْعِبَادَةُ عِنْدَهُ إِلَّا بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ ، وَالشُّعُورِ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ ، فَهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّهَ بِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ الَّتِي لَا مَعْنَى لَهَا ، وَالصُّوَرِ الَّتِي لَا رُوحَ فِيهَا ، وَإِنَّمَا يَخْدَعُونَ فِي الْحَقِيقَةِ أَنْفُسَهُمْ ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ هَذِهِ لَا تُفِيدُهُمْ فِي الدُّنْيَا عَزَّةٌ وَسَعَادَةٌ وَلَا تُنْجِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ .
وَيَا أَيُّهَا النَّاسُ الَّذِينَ لَمْ يُرْزَءُوا بِهَذَا الْخِذْلَانِ ، وَلَمْ يُبْتَلَوْا بِهَذَا الِافْتِتَانِ ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28973_29428_29530 ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) جَمِيعًا عِبَادَةَ خُشُوعٍ وَإِخْلَاصٍ وَأَدَبٍ وَحُضُورٍ ، كَأَنَّكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَتَرَوْنَهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا تَرَوْنَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكُمْ ، وَيَنْظُرُ دَائِمًا إِلَى مَحَلِّ الْإِخْلَاصِ مِنْكُمْ وَهُوَ قُلُوبُكُمْ ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى إِشْعَارِ نُفُوسِكُمْ هَذَا الْخُشُوعَ وَالْحُضُورَ
[ ص: 155 ] وَالْإِخْلَاصَ فِي الْعِبَادَةِ بِاسْتِحْضَارِ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ ، فَإِنَّهُ هُوَ رَبُّكُمُ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ فِيمَا لَا تَعْلَمُونَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=78وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( 16 : 78 ) وَغَذَّاكُمْ بِنِعَمِهِ ، وَنَمَّاكُمْ بِكَرَمِهِ ، كَمَا فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِسَلَفِكُمُ الصَّالِحِ فَشَكَرُوهُ وَعَبَدُوهُ وَحْدَهُ مُقِرِّينَ بِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ ، وَمُعَظِّمِينَ لِهَذِهِ الْمِنَّةِ ، فَلْيَدَعْ ذَلِكَ الصِّنْفُ احْتِقَارَ النِّعَمِ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَالِاقْتِصَارُ عَلَى تَعْظِيمِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى السَّلَفِ فَقَطْ . فَإِنَّ هَذَا الرَّبَّ الْعَظِيمَ ( الَّذِي خَلَقَكُمْ ) وَ ( خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) قَدْ رَبَّاكُمْ كَمَا رَبَّى سَلَفَكُمْ ، وَوَهَبَكُمْ مِنَ الْهِدَايَاتِ مِثْلَمَا وَهَبَهُمْ ، فَمَنْ شَكَرَ مِنْهُمْ وَمِنْكُمْ زَادَهُ نِعَمًا ، وَمَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ النِّعَمِ جَعَلَهَا عَلَيْهِ نِقَمًا ، لِيَكُونَ عِبْرَةً وَمَثَلًا لِلْآخَرِينَ ، وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِالْعَالَمِينَ ، وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=7لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) ( 14 : 7 ) وَفِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ، وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ أَنَابَ .
هَكَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=29428أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ أَجْمَعِينَ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، وَأَرْشَدَهُمْ بِإِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ سَاوَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الْمَوَاهِبِ الْخَلْقِيَّةِ إِلَى الِاسْتِقْلَالِ بِالْعَمَلِ وَقَدَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ قَدْرَهَا ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ النِّعَمِ الَّتِي تُكْتَسَبُ بِالشُّكْرِ - وَهِيَ مَا عَدَا النُّبُوَّةَ - مَقْدُورَةٌ لَهُمْ ، كَمَا كَانَتْ مَقْدُورَةً لِمَنْ قَبْلَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ إِذَا زَادُوا عَلَى سَلَفِهِمْ شُكْرًا يُزَادُونَ نِعَمًا ، وَمَا الشُّكْرُ إِلَّا اسْتِعْمَالُ الْمَوَاهِبِ وَالنِّعَمِ فِيمَا وُهِبَتْ لِأَجْلِهِ ، فَالَّذِينَ يَقُولُونَ : إِنَّنَا لَا نَقْدِرُ عَلَى فَهْمِ الدِّينِ بِأَنْفُسِنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّ عُقُولَنَا وَأَفْهَامَنَا ضَعِيفَةٌ ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِقَوْلِ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ آبَائِنَا ؛ لِأَنَّ عُقُولَهُمْ كَانَتْ أَقْوَى ، وَكَانُوا عَلَى فَهْمِ الدِّينِ أَقْدَرَ ، بَلْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْهَمُهُ غَيْرُهُمْ ، أُولَئِكَ كَافِرُونَ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ ، وَغَيْرُ مُهْتَدِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ النَّاطِقَةِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ وَسِعَةِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ وُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّقْرِيبِ إِلَيْهِ زُلْفَى بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ، وَمَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ، وَهُمُ الْوَسَائِلُ فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ ، أَوْ لِأَجْلِ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ عِنْدَهُ لِيَنَالُوا جَزَاءَ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ ، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْعَمَلِ بِهِ وَاتِّبَاعِ الْمُرْسَلِينَ - قَدِ احْتَقَرُوا نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ ، لِأَنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا يَبْغُونَ أَنْ يَنَالُوا بِأَشْخَاصِهِمْ مَا حَكَمَ اللَّهُ بِأَنْ يَطْلُبَهُ النَّاسُ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ ، فَجَعَلُوا هَؤُلَاءِ الْأَنْدَادَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ يُغْنُونَهُمْ عَنْ شَرِيعَتِهِ ، شَعَرُوا بِذَلِكَ أَمْ لَمْ يَشْعُرُوا .
يَقُولُ تَعَالَى لِجَمِيعِ عِبَادِهِ مَا مَعْنَاهُ : اعْبُدُونِي مُلَاحِظِينَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ الْخَلْقِيَّةِ الَّتِي تُؤَهِّلُكُمْ لِلسَّعَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) فَإِنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هِيَ الَّتِي تُعِدُّكُمْ لِلتَّقْوَى ، وَيُرْجَى بِهَا بُلُوغُ الْكَمَالِ الْقُصْوَى .
قَالَ الْأُسْتَاذُ : الشَّائِعُ أَنَّ " لَعَلَّ " لِلتَّرَجِّي فِي ذَاتِهَا ، وَإِذَا وَقَعَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ مَعْنَاهَا التَّحْقِيقُ ، وَغَرَضُ الْقَائِلِينَ بِهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=18267تَنْزِيهُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنِ التَّرَجِّي بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ [ ص: 156 ] الْآتِي ، وَلَكِنَّهُ رَمْيٌ لِلْكَلَامِ بِدُونِ بَيَانٍ ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ " لَعَلَّ " لِلتَّرَجِّي وَلَكِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْإِعْدَادِ وَالتَّهْيِئَةِ لِلشَّيْءِ وَفِي هَذَا مَعْنَى التَّرَجِّي ، فَحَيْثُ وَقَعَتْ " لَعَلَّ " فِي الْقُرْآنِ فَالْمُرَادُ بِهَا هَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرُ كَمَا فَسَّرْنَاهُمَا بِهِ آنِفًا ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ التَّحْقِيقَ ( لِأَنَّ الْإِعْدَادَ بِمَا تَأْتِي " لَعَلَّ " بَعْدَهُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ لَا رِيبَةَ فِيهِ ) فَإِنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ مُلَاحَظَةِ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ إِلَخْ مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ ، تَطْبَعُ فِي النَّفْسِ مَلَكَةَ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتَعْظِيمَهُ وَمُرَاقَبَتَهُ ، وَتُعْلِي هِمَّةَ الْعَابِدِ وَتُقَوِّي عَزِيمَتَهُ وَإِرَادَتَهُ ، فَتَزْكُو نَفْسُهُ وَتَنْفِرُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ ، وَتَأْلَفُ الطَّاعَاتِ وَالْفَضَائِلَ ، وَهَذِهِ هِيَ التَّقْوَى . وَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ الرَّجَاءَ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّاسِ فَالْإِعْدَادُ فِيهِ ظَاهِرٌ وَمُتَحَقِّقٌ ، إِذْ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلتَّقْوَى لَمَا اتَّقَاهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ .
وَمَعْنَى التَّرَجِّي فِي أَصْلِ اللُّغَةِ : تَوَقُّعُ حُصُولِ الشَّيْءِ الْقَرِيبِ بِحُصُولِ سَبَبِهِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ الِاسْتِعْدَادُ كَسْبِيًّا أَوْ طَبِيعِيًّا فَاسْتَعْمَلْنَا " لَعَلَّ " الْمُعَبِّرَةَ عَنِ التَّوَقُّعِ فِي سَبَبِهِ وَهُوَ الِاسْتِعْدَادُ أَوِ الْإِعْدَادُ الَّذِي هُوَ جَعْلُ الْمَرْءِ مُسْتَعِدًّا ، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسَبَّبِ بِلَفْظِ السَّبَبِ شَائِعٌ فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ ، وَقَدْ عَدُّوا التَّرَجِّيَ وَالتَّمَنِّيَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَصِيَغُهُمَا صِيَغُ إِنْشَاءٍ فَقَطْ .
وَأَقُولُ : إِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِعْدَادِ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّرَجِّيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مَأْمُولًا بِمَا يُذْكَرُ مِنْ سَبَبِهِ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ لِذَاتِهِ بَلْ يَتْبَعُ قُوَّةَ أَسْبَابِهِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ وَيَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالْمُتَكَلِّمِ ، وَتَارَةً بِالْمُخَاطَبِ ، وَتَارَةً بِالْمُتَكَلَّمِ عَنْهُ ، وَتَارَةً بِغَيْرِهِمَا ، فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=1لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ) ( 65 : 1 ) وَقَوْلَهُ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ
مُوسَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=40لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ ) ( 26 : 40 ) وَقَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ) ( 40 : 36 ) إِلَخْ . وَقَوْلَهُ
لِمُوسَى وَهَارُونَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=44فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) ( 20 : 44 ) وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا مَقْطُوعٌ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ عِنْدَ اللَّهِ ، وَلَكِنَّ الرَّجَاءَ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ
بِمُوسَى وَهَارُونَ أَيْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=44فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ) رَاجِينَ بِهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ أَوْ يَخْشَى لَا قَوْلًا غَلِيظًا مُنَفِّرًا . وَتَأْتِي " لَعَلَّ " لِلْإِشْفَاقِ وَإِفَادَةِ التَّحْذِيرِ مِنْ أَمْرٍ وَقَعَتْ أَسْبَابُهُ فَكَانَ بِهَا مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=6فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ) ( 18 : 6 ) الْآيَةَ ، وَقَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=12فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ) ( 11 : 12 ) الْآيَةَ .