الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير .

[ ص: 262 ] هذا تقرير لما أفاده قوله يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض ، وتخلص للمقصود منه على وجه التصريح بأن الذين أشركوا بالله قد كفروا بنعمته وبخلقهم ، زيادة على جحدهم دلائل تنزهه تعالى عن النقص الذي اعتقدوه له . ولذلك قدم ( فمنكم كافر ) على ( ومنكم مؤمن ) لأن الشق الأول هو المقصود بهذا الكلام تعريضا وتصريحا .

وأفاد تعريف الجزأين من جملة هو الذي خلقكم قصر صفة الخالقية على الله تعالى ، وهو قصر حقيقي قصد به الإشارة بالكناية بالرد على المشركين إذ عمدوا إلى عبادة أصنام يعلمون أنها لم تخلقهم فما كانت مستحقة لأن تعبد ، لأن العبادة شكر . قال تعالى أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون .

والخطاب في قوله خلقكم لجميع الناس الذين يدعوهم القرآن بقرينة قوله فمنكم كافر ومنكم مؤمن ، فإن الناس لا يعدون هذين القسمين .

والفاء في فمنكم كافر عاطفة على جملة هو الذي خلقكم وليست عاطفة على فعل ( خلقكم ) وهي للتفريع في الوقوع دون تسبب .

ونظيره قوله ( وجعلنا في ذريتهما النبوءة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ) ومثل هذا التفريع يستتبع التعجيب من جري أحوال بعض الناس على غير ما يقتضيه الطبع وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون فجملة فمنكم كافر هي المقصود من التفريع ، وهو تفريع في الحصول . وقدم ذكر الكافر لأنه الأهم في هذا المقام كما يشير إليه قوله تعالى في ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل .

وجملة ومنكم مؤمن تتميم وتنويه بشأن أهل الإيمان ومضادة حالهم لحال أهل الكفر ومقابلة الحال بالحال .

وقوله والله بما تعملون بصير تتميم واحتراس واستطراد ، فهو تتميم لما يكمل المقصود من تقسيمهم إلى فريقين لإبداء الفرق بين الفريقين في الخير والشر وهو عليم بذلك وعليم بأنه يقع وليس الله مغلوبا على وقوعه ولكن حكمته وعلمه اقتضيا ذلك . ودون تفصيل ، هذا تطويل نخصه بتأليف في معنى القدر وجريان أعمال الناس في الدنيا إن شاء الله . ونقتصر هنا على أن نقول : خلق الله الناس [ ص: 263 ] وأودع فيهم العقول التي تتوصل بالنظر السليم من التقصير وشوائب الهوى وغشاوات العناد إلى معرفة الله على الوصف اللائق به وخلق فيهم القدرة على الأعمال الصالحة وغيرها المسماة عند الأشعري بالكسب وعند المعتزلة بقدرة العبد ( والخلاف في التعبير ) . وأرشدهم إلى الصلاح وحذرهم من الفساد ، والله عالم بما يكتسبه كل أحد ولو شاء لصرف مقترف الفساد عن فعله ولكنه أوجد نظما مرتبطا بعضها ببعض ومنتشرة فقضت حكمته بالحفاظ على تلك النظم الكثيرة بأن لا يعوق سيرها في طرائقها ولا يعطل عملها لأجل إصلاح أشخاص هم جزء من كل لأن النظم العامة أعم فالحفاظ على اطرادها أصلح وأرجح ، فلا تتنازل إرادة الله وقدرته إلى التدخل فيما سمي بالكسب على أصولنا أو بالقدوة الحادثة على أصول المعتزلة ، بل جعل بحكمته بين الخلق والكسب حاجزا هو نظام تكوين الإنسان بما فيه من إرادة وإدراك وقدرة ، وقد أشار إلى هذا قوله والله بما تعملون بصير أي هو بصير به من قبل أن تعملوه ، وبعد أن عملتموه .

فالبصير : أريد به العالم علم انكشاف لا يقبل الخفاء فهو كعلم المشاهدة وهذا إطلاق شائع في القرآن لا سيما إذا أفردت صفة ( بصير ) بالذكر ولم تذكر معها صفة ( سميع ) .

واصطلح بعض المتكلمين على أن صفة البصيرة : العالم بالمرئيات . وقال بعضهم : هي تعلق العلم الإلهي بالأمور عند وقوعها . والحق أنها استعمالات مختلفة . وبهذا يتضح وجه الجمع بين ما يبدو من تعارض بين آيات القرآن وإخبار من السنة فاجعلوه مثالا يحتذى ، وقولوا هكذا . هكذا .

وهو احتراس من أن يتوهم من تقسيمهم إلى فريقين أن ذلك رضى بالحالين كما حكي عن المشركين وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم .

وهو استطراد بطريق الكناية به عن الوعد والوعيد .

وشمل قوله بما تعملون أعمال القلوب كالإيمان وهي المقصود ابتداء هنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية