الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 356 ] إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير .

التفات من ذكر القصتين إلى موعظة من تعلقت بهما فهو استئناف خطاب وجهه الله إلى حفصة وعائشة لأن إنباء النبيء - صلى الله عليه وسلم - بعلمه بما أفشته القصد منه الموعظة والتحذير والإرشاد إلى رأب ما انثلم من واجبها نحو زوجها . وإذ قد كان ذلك إثما لأنه إضاعة لحقوق الزوج وخاصة بإفشاء سره ذكرها بواجب التوبة منه .

وخطاب التثنية عائد إلى المنبئة والمنبأة فأما المنبئة فمعادها مذكور في الكلام بقوله ( إلى بعض أزواجه ) .

وأما المنبأة فمعادها ضمني لأن فعل ( نبأت ) يقتضيه فأما المنبئة فأمرها بالتوبة ظاهر . وأما المذاع إليها فلأنها شريكة لها في تلقي الخبر السر ولأن المذيعة ما أذاعت به إليها إلا لعلمها بأنها ترغب في تطلع مثل ذلك فهاتان موعظتان لمذيع السر ومشاركة المذاع إليه في ذلك وكان عليها أن تنهاها عن ذلك أو أن تخبر زوجها بما أذاعته عنه ضرتها .

وصغت : مالت ، أي مالت إلى الخير وحق المعاشرة مع الزوج ، ومنه سمي سماع الكلام إصغاء لأن المستمع يميل سمعه إلى من يكلمه ، وتقدم عند قوله تعالى ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) في سورة الأنعام . وفيه إيماء إلى أن فيما فعلتاه انحرافا عن أدب المعاشرة الذي أمر الله به وأن عليهما أن تتوبا مما صنعتاه ليقع بذلك صلاح ما فسد من قلوبهما .

وهذان الأدبان الثامن والتاسع من الآداب التي اشتملت عليها هذه الآيات .

والتوبة : الندم على الذنب ، والعزم على عدم العودة إليه وسيأتي الكلام عليها في هذه السورة .

وإذ كان المخاطب مثنى كانت صيغة الجمع في قلوب مستعملة في الاثنين طلبا لخفة اللفظ عند إضافته إلى ضمير المثنى كراهية اجتماع مثنيين فإن صيغة التثنية ثقيلة لقلة دورانها في الكلام . فلما أمن اللبس ساغ التعبير بصيغة الجمع عن التثنية .

[ ص: 357 ] وهذا استعمال للعرب غير جار على القياس . وذلك في كل اسم مثنى أضيف إلى اسم مثنى فإن المضاف يصير جمعا كما في هذه الآية وقول خطام المجاشعي :

ومهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين

وأكثر استعمال العرب وأفصحه في ذلك أن يعبروا بلفظ الجمع مضافا إلى اسم المثنى لأن صيغة الجمع قد تطلق على الاثنين في الكلام فهما يتعاوران . ويقل أن يؤتى بلفظ المفرد مضافا إلى الاسم المثنى . وقال ابن عصفور : هو مقصور على السماع .

وذكر له أبو حيان شاهدا قول الشاعر :

حمامة بطن الواديين ترنمي     سقاك من الغر الغوادي مطيرها

وفي التسهيل ترجيح التعبير عن المثنى المضاف إلى مثنى باسم مفرد ، على التعبير عنه بلفظ المثنى . وقالأبو حيان في البحر المحيط إن ابن مالك غلط في ذلك . قلت : وزعم الجاحظ في كتاب البيان والتبيين ، أن قول القائل اشتر رأس كبشين يريد رأسي كبشين خطأ . قال : لأن ذلك لا يكون اهـ . وذلك يؤيد قول ابن عصفور بأن التعبير عن المضاف المثنى بلفظ الإفراد مقصور على السماع ، أي فلا يصار إليه . وقيد الزمخشري في المفصل هذا التعبير بقيد أن لا يكون اللفظان متصلين . فقال : ويجعل الاثنان على لفظ جمع إذا كانا متصلين كقوله ( فقد صغت قلوبكما ) ولم يقولوا في المنفصلين : أفراسهما ولا غلمانهما . وقد جاء وضعا رحالهما . فخالف إطلاق ابن مالك في التسهيل وطريقة صاحب المفصل أظهر .

وقوله ( وإن تظاهرا عليه ) هو ضد إن تتوبا ) أي وإن تصرا على العود إلى تألبكما عليه فإن الله مولاه إلخ .

والمظاهرة : التعاون ، يقال : ظاهره ، أي أيده وأعانه . قال تعالى ( ولم يظاهروا عليكم أحدا ) في سورة ( براءة ) . ولعل أفعال المظاهر ووصف ظهير كلها مشتقة من الاسم الجامد ، وهو الظهر لأن المعين والمؤيد كأنه يشد ظهر من يعينه ولذلك لم يسمع لهذه الأفعال الفرعية والأوصاف المتفرعة عنها فعل مجرد . وقريب من هذا فعل عضد لأنهم قالوا : شد عضده .

[ ص: 358 ] وأصل ( تظاهرا ) تتظاهرا فقلبت التاء ظاء لقرب مخرجيها وأدغمت في ظاء الكلمة وهي قراءة الجمهور . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي تظاهرا بتخفيف الظاء على حذف إحدى التاءين للتخفيف .

وصالح : مفرد أريد به معنى الفريق الصالح أو الجنس الصالح من المؤمنين كقوله تعالى ( فمنهم مهتد ) . والمراد ب ( صالح المؤمنين ) المؤمنون الخالصون من النفاق والتردد .

وجملة ( فإن الله هو مولاه ) قائمة من مقام جواب الشرط معنى لأنها تفيد معنى يتولى جزاءكما على المظاهرة عليه ، لأن الله مولاه . وفي هذا الحذف مجال تذهب فيه نفس السامع كل مذهب من التهويل .

وضمير الفصل في قوله ( هو مولاه ) يفيد القصر على تقدير حصول الشرط ، أي إن تظاهرتما متناصرتين عليه فإن الله هو ناصره لا أنتما ، أي وبطل نصركما الذي هو واجبكما إذ أخللتما به على هذا التقدير . وفي هذا تعريف بأن الله ناصر رسوله - صلى الله عليه وسلم - لئلا يقع أحد من بعد في محلولة التقصير من نصره .

فهذا المعنى العاشر من معاني الموعظة والتأديب التي في هذه الآيات .

وعطف ( وجبريل وصالح المؤمنين ) في هذا المعنى تنويه بشأن رسول الوحي من الملائكة وشأن المؤمنين الصالحين . وفيه تعريض بأنهما تكونان ( على تقدير حصول هذا الشرط من غير الصالحين ) .

وهذان التنويهان هما المعنيان الحادي عشر والثاني عشر من المعاني التي سبقت إشارتي إليها .

وقوله ( والملائكة بعد ذلك ظهير ) عطف جملة على التي قبلها ، والمقصود منه تعظيم هذا النصر بوفرة الناصرين تنويها بمحبة أهل السماء للنبيء - صلى الله عليه وسلم - وحسن ذكره بينهم فإن ذلك مما يزيد نصر الله إياه شأنا .

وفي الحديث ( إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في أهل السماء إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الأرض .

[ ص: 359 ] فالمراد بأهل الأرض فيه المؤمنون الصالحون منهم لأن الذي يحبه الله يحبه لصلاحه والصالح لا يحبه أهل الفساد والضلال . فهذه الآية تفسيرها ذلك الحديث .

وهذا المعنى الثالث عشر من معاني التعليم التي حوتها الآيات .

وقوله ( بعد ذلك ) اسم الإشارة فيه للمذكور ، أي بعد نصر الله وجبريل وصالح المؤمنين .

وكلمة ( بعد ) هنا بمعنى مع فالبعدية هنا بعدية في الذكر كقوله ( عتل بعد ذلك زنيم ) .

وفائدة ذكر الملائكة بعد ذكر تأييد الله وجبريل وصالح المؤمنين أن المذكورين قبلهم ظاهر آثار تأييدهم بوحي الله للنبيء - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل ونصره إياه بواسطة المؤمنين فنبه الله المرأتين على تأييد آخر غير ظاهرة آثاره وهو تأييد الملائكة بالنصر في يوم بدر وغير النصر من الاستغفار في السماوات ، فلا يتوهم أحد أن هذا يقتضي تفضيل نصرة الملائكة على نصرة جبريل بله نصرة الله تعالى .

و ( ظهير ) وصف بمعنى المظاهر ، أي المؤيد وهو مشتق من الظهر ، فهو فعيل بمعنى مفاعل مثل حكيم بمعنى محكم كما تقدم آنفا في قوله ( وإن تظاهرا عليه ) ، وفعيل الذي ليس بمعنى مفعول أصله أن يطابق موصوفه في الإيراد وغيره فإن كان هنا خبرا عن الملائكة كما هو الظاهر كان إفراده على تأويل جمع الملائكة بمعنى الفوج المظاهر أو هو من إجراء فعيل الذي بمعنى فاعل مجرى فعيل بمعنى مفعول . كقوله تعالى ( إن رحمة الله قريب من المحسنين ) ، وقوله ( وكان الكافر على ربه ظهيرا ) وقوله ( وحسن أولئك رفيقا ) ، وإن كان خبرا عن جبريل كان صالح المؤمنين والملائكة عطفا على جبريل وكان قوله بعد ذلك حالا من الملائكة .

وفي الجمع بين ( أظهره الله عليه ) وبين ( وإن تظاهرا عليه ) وبين ( ظهير ) تجنيسات .

التالي السابق


الخدمات العلمية