الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهادتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون

[ ص: 171 ] استثناء منقطع ناشئ عن الوعيد المبتدأ به من قوله يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ الآية .

فالمعنى على الاستدراك ، والتقدير : لكن المصلين الموصوفين بكيت وكيت أولئك في جنات مكرمون .

فجملة أولئك في جنات مكرمون حيث وقعت بعد ( إلا ) المنقطعة وهي بمعنى ( لكن ) فلها حكم الجملة المخبر بها عن اسم ( لكن ) المشددة أو عن المبتدأ الواقع بعد ( لكن ) المخففة وهو ما حققه الدماميني ، وإن كان ابن هشام رأى عد الجملة بعد الاستثناء المنقطع في عداد الجمل التي لا محل لها من الإعراب .

والكلام استئناف بياني لمقابلة أحوال المؤمنين بأحوال الكافرين ، ووعدهم بوعيدهم على عادة القرآن في أمثال هذه المقابلة .

وهذه صفات ثمان هي من شعار المسلمين ، فعدل عن إحضارهم بوصف المسلمين إلى تعداد خصال من خصالهم إطنابا في الثناء عليهم ، ؛ لأن مقام الثناء مقام إطناب ، وتنبيها على أن كل صلة من هذه الصلات الثمان هي من أسباب الكون في الجنات .

وهذه الصفات لا يشاركهم المشركون في معظمها بالمرة ، وبعضها قد يتصف به المشركون ولكنهم لا يراعونه حق مراعاته باطراد ، وذلك حفظ الأمانات والعهد ، فالمشرك يحفظ الأمانة والعهد اتقاء مذمة الخيانة والغدر ، ومع أحلافه دون أعدائه ، والمشرك يشهد بالصدق إذا لم يكن له هوى في الكذب ، وإذا خشي أن يوصم بالكذب . وقد غدر المشركون بالمسلمين في عدة حوادث ، وغدر بعضهم بعضا ، فلو علم المشرك أنه لا يطلع على كذبه وكان له هوى لم يؤد الشهادة .

ولما كان وصف ( المصلين ) غلب على المسلمين كما دل عليه قوله تعالى ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين الآية ، أتبع وصف المصلين في الآية هذه بوصف الذين هم على صلاتهم دائمون أي : مواظبون على صلاتهم لا يتخلفون عن أدائها ولا يتركونها .

والدوام على الشيء : عدم تركه ، وذلك في كل عمل بحسب ما يعتبر دواما فيه كما تقرر في أصول الفقه في مسألة إفادة الأمر التكرار .

[ ص: 172 ] وفي إضافة ( صلاة ) إلى ضمير المصلين تنويه باختصاصها بهم ، وهذا الوصف للمسلمين مقابل وصف الكافرين في قوله ( بعذاب واقع للكافرين ) .

ومجيء الصلة جملة اسمية دون أن يقال : الذين يدومون لقصد إفادتها الثبات تقوية كمفاد الدوام .

وإعادة اسم الموصول مع الصلات المعطوفة على قوله الذين هم على صلاتهم دائمون لمزيد العناية بأصحاب تلك الصلات .

وتسمية ما يعطونه من أموالهم من الصدقات باسم ( حق ) للإشارة إلى أنهم جعلوا السائل والمحروم كالشركاء لهم في أموالهم من فرط رغبتهم من مواساة إخوانهم إذ لم تكن الصدقة يومئذ واجبة ولم تكن الزكاة قد فرضت .

ومعنى كون الحق معلوما أنه يعلمه كل واحد منهم ويحسبونه ، ويعلمه السائل والمحروم بما اعتاد منهم .

ومجيء الصلة جملة اسمية لإفادة ثبات هذه الخصلة فيهم وتمكنها منهم دفعا لتوهم الشح في بعض الأحيان لما هو معروف بين غالب الناس من معاودة الشح للنفوس .

والسائل : هو المستعطي ، والمحروم : الذي لا يسأل الناس تعففا مع احتياجه فلا يتفطن له كثير من الناس فيبقى كالمحروم .

وأصل المحروم : الممنوع من مرغوبه ، وتقدم في سورة الذاريات في قوله وفي أموالهم حق للسائل والمحروم . وهذه الصفة للمؤمنين مضادة صفة الكافرين المتقدمة في قوله ( وجمع فأوعى ) .

والتصديق بيوم الدين هو الإيمان بوقوع البعث والجزاء ، والدين : الجزاء . وهذا الوصف مقابل وصف الكافرين بقوله ( إنهم يرونه بعيدا ) .

ولما كان التصديق من عمل القلب ولم يتصور أن يكون فيه تفاوت ، أتي بالجملة الفعلية على الأصل في صلة الموصول ، وأوثر فيها الفعل المضارع لدلالته على الاستمرار .

ووصفهم بأنهم من عذاب ربهم مشفقون مقابل قوله في حق الكافرين ( سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ) ؛ لأن سؤالهم سؤال مستخف بذلك ومحيله .

[ ص: 173 ] والإشفاق : توقع حصول المكروه وأخذ الحذر منه .

وصوغ الصلة بالجملة الاسمية لتحقيق وثبات اتصافهم بهذا الإشفاق ؛ لأنه من المغيبات ، فمن شأن كثير من الناس التردد فيه .

وجملة إن عذاب ربهم غير مأمون معترضة ، أي : غير مأمون لهم ، وهذا تعريض بزعم المشركين الأمن منه إذ قالوا وما نحن بمعذبين . ووصفهم بأنهم لفروجهم حافظون مقابل قوله في تهويل حال المشركين يوم الجزاء بقوله ولا يسأل حميم حميما إذ أخص الأحماء بالرجل زوجه ، فقصد التعريض بالمشركين بأن هذا الهول خاص بهم بخلاف المسلمين فإنهم هم وأزواجهم يحبرون لأنهم اتقوا الله في العفة عن غير الأزواج ، قال تعالى الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين .

وتقدم نظير هذا في سورة المؤمنين ، أي : ليس في المسلمين سفاح ولا زنى ولا مخالة ولا بغاء ، ولذلك عقب بالتفريع بقوله فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون .

والعادي : المفسد ، أي : هم الذين أفسدوا فاختلطت أنسابهم وتطرقت الشكوك إلى حصانة نسائهم ، ودخلت الفوضى في نظم عائلاتهم ، ونشأت بينهم الإحن من الغيرة .

وذكر رعي الأمانات والعهد لمناسبة وصف ما يود الكافر يوم الجزاء أن يفتديه من العذاب بفصيلته التي تؤويه فيذهب منه رعي العهود التي يجب الوفاء بها للقبيلة وحسبك من تشويه حاله أنه قد نكث العهود التي كانت عليه لقومه من الدفاع عن حقيقتهم بنفسه وكان يفديهم بنفسه ، والمسلم لما كان يرعى العهد بما يمليه عليه دينه جازاه الله بأن دفع عنه خزي ودادة فدائه نفسه بمواليه وأهل عهده .

والقول في اسمية الصلة كالقول في الذي قبله .

والرعي : الحفظ والحراسة . وأصله رعي الغنم والإبل .

وقرأ الجمهور : ( لأماناتهم ) ، بصيغة الجمع . وقرأه ابن كثير ( لأمانتهم ) بالإفراد ، والمراد الجنس .

[ ص: 174 ] وقوله ( والذين هم بشهادتهم قائمون ) ذكر لمناسبة ذكر رعي الأمانات إذ الشهادة من جملة الأمانات ؛ لأن حق المشهود له وديعة في حفظ الشاهد فإذا أدى شهادته فكأنه أدى أمانة لصاحب الحق المشهود له كانت في حفظ الشاهد .

ولذلك كان أداء الشهادة - إذا طولب به الشاهد - واجبا عليه ، قال تعالى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا .

والقيام بالشهادة : الاهتمام بها وحفظها إلى أن تؤدى ، وهذا قيام مجازي كما تقدم عند قوله تعالى ( ويقيمون الصلاة ) في سورة البقرة .

وباء ( بشهادتهم ) للمصاحبة ، أي : يقومون مصاحبين للشهادة ، ويصير معنى الباء في الاستعارة معنى التعدية .

فذكر القيام بالشهادة إتمام لخصال أهل الإسلام فلا يتطلب له مقابل من خصال أهل الشرك المذكورة فيما تقدم .

والقول في اسمية جملة الصلة للغرض الذي تقدم ؛ لأن أداء الشهادة يشق على الناس إذ قد يكون المشهود عليه قريبا أو صديقا ، وقد تثير الشهادة على المرء إحنة منه وعداوة .

وقرأ الجمهور ( بشهادتهم ) بصيغة الإفراد ، وهو اسم جنس يعم جميع الشهادات التي تحملوها . وقرأ حفص ويعقوب ( شهاداتهم ) بصيغة الجمع . وذلك على اعتبار جمع المضاف إليه .

وقوله والذين هم على صلاتهم يحافظون ثناء عليهم بعنايتهم بالصلاة من أن يعتريها شيء يخل بكمالها ، ؛ لأن مادة المفاعلة هنا للمبالغة في الحفظ مثل : عافاه الله ، وقاتله الله ، فالمحافظة راجعة إلى استكمال أركان الصلاة وشروطها وأوقاتها . وإيثار الفعل المضارع لإفادة تجدد ذلك الحفاظ وعدم التهاون به ، وبذلك تعلم أن هذه الجملة ليست مجرد تأكيد لجملة الذين هم على صلاتهم دائمون بل فيها زيادة معنى مع حصول الغرض من التأكيد بإعادة ما يفيد عنايتهم بالصلاة في كلتا الجملتين .

وفي الأخبار النبوية أخبار كثيرة عن فضيلة الصلاة ، وأن الصلوات تكفر [ ص: 175 ] الذنوب كحديث ما يدريكم ما بلغت به صلاته .

وقد حصل بين أخرى هذه الصلات وبين أولاها محسن رد العجز على الصدر .

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله والذين هم على صلاتهم يحافظون يفيد تقوية الخبر مع إفادة التجدد من الفعل المضارع .

ولما أجريت عليهم هذه الصفات الجليلة أخبر عن جزائهم عليها بأنهم مكرمون في الجنة .

وجيء باسم الإشارة للتنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإشارة من أجل ما سبق قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله تعالى أولئك على هدى من ربهم في سورة البقرة .

والإكرام : التعظيم وحسن اللقاء ، أي : هم مع جزائهم بنعيم الجنات يكرمون بحسن اللقاء والثناء ، قال تعالى والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار وقال ورضوان من الله أكبر .

وهذا يقتضي أن يكون قوله ( في جنات ) خبرا عن اسم الإشارة ، وقوله ( مكرمون ) خبرا ثانيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية