الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1288 [ ص: 249 ] حديث ثاني عشر لابن شهاب ، عن عروة .

مالك ، عن ابن شهاب ؛ أنه سئل عن رضاعة الكبير ؟ فقال : أخبرني عروة بن الزبير أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان قد شهد بدرا ، كان تبنى سالما الذي يقال له سالم مولى أبي حذيفة كما تبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة ،

التالي السابق


وأنكح أبو حذيفة ، سالما ، وهو يرى أنه ابنه ( وأنكحه ) بنت أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وهي ( يومئذ ) من المهاجرات الأول ، وهي يومئذ من أفضل أيامى قريش .

فلما أنزل الله في كتابه في زيد بن حارثة ما أنزل ، فقال : ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم رد كل واحد من أولئك إلى أبيه ، فإن لم يعلم أبوه رد إلى مواليه .

فجاءت سهلة بنت سهيل ، وهي امرأة أبي حذيفة ، وهي من بني عامر من لؤي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، كنا نرى سالما ولدا ، وكان يدخل علي وأنا فضل ، وليس لنا إلا بيت واحد ، فماذا ترى في شأنه ؟ فقال لها رسول الله صلى الله [ ص: 250 ] عليه وسلم فيما بلغنا : أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها وكانت .

تراه ابنا من الرضاعة فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال ، فكانت تأمر أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق ، وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال .

وأبى سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس ، وقلن لا والله ما نرى الذي أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهلة بنت سهيل إلا رخصة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رضاعة سالم وحده ، لا والله ، لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد ، فعلى هذا كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في رضاعة الكبير .

هذا حديث يدخل في المسند للقاء عروة عائشة وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وللقائه سهلة بنت سهيل ، وقد رواه عثمان بن عمر ، عن مالك مختصر اللفظ متصل الإسناد .

حدثنا خلف بن قاسم : حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين العسكري : حدثنا يزيد بن سنان : حدثنا عثمان بن عمر وحدثنا خلف ، قال : حدثنا عبد الله بن عمر بن إسحاق : حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج : حدثنا يزيد بن سنان : حدثنا عثمان بن عمر : حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر امرأة أبي حذيفة أن [ ص: 251 ] ترضع سالما خمس رضعات .

فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة ، وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يأبين ذلك ، ويقلن إنما كانت الرخصة في سالم وحده .

وذكر الدارقطني حديث عثمان بن عمر ثم قال : وقد رواه عبد الرزاق ، ، وعبد الكريم بن روح ، وإسحاق بن عيسى ، وقيل ، عن ابن وهب ، عن مالك ، وذكروا في إسناده عائشة .

أيضا ثم قال حدثناه أبو طالب أحمد بن نصر بن طالب الحافظ من كتابه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد بصنعاء ، عن عبد الرزاق ، عن مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وكان بدريا ، وساق الحديث .

قال أبو عمر : وقد رواه يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، وابن عبد الله بن ربيعة ، عن عائشة ، وأم سلمة بلفظ حديث مالك هذا ، ومعناه سواء إلى آخره .

ورواه يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، وأم سلمة زوجي النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء ، حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا عنبسة ، قال : حدثنا يونس ، عن ابن شهاب ، قال : حدثنا عروة بن الزبير ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأم سلمة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان قد تبنى سالما ، وساق الحديث بمعنى حديث مالك .

وحدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ [ ص: 252 ] قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، قال : قال يحيى أخبرني ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير ، وابن عبد الله بن ربيعة ، عن عائشة ، وأم سلمة زوجي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أبا حذيفة بن عتبة بن عبد شمس كان ممن شهد بدرا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تبنى سالما ، وهو مولى لامرأة من الأنصار ، كما تبنى النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة ، وأنكح أبو حذيفة بن عتبة ، سالما بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وكانت هند بنت الوليد بن عتبة ( بن ربيعة ) من المهاجرات الأول ، وهي يومئذ من أفضل أيامى قريش .

فلما أنزل الله تعالى في زيد بن حارثة ما أنزل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله رد كل أحد ينتمي من أولئك إلى أبيه ، فإن لم يعلم أبوه رد إلى مواليه .

فجاءت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي من بني عامر بن لؤي فقالت له فيما بلغنا : يا رسول الله ، كنا نرى سالما ولدا ، وكان يدخل ( علي ) وأنا فضل ليس لنا إلا بيت واحد ، فماذا ترى يا رسول الله ؟ فقال لها فيما بلغنا : أرضعيه عشر رضعات فتحرم بلبنها ، [ ص: 253 ] فكانت تراه ابنا من الرضاعة .

فأخذت الرضاعة عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال فكانت تأمر أختها أم كلثوم بنت أبي بكر ، وبنات أخيها أن يرضعن لها من أحبت أن يدخل عليها من الرجال .

وأبى سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة ( أحد ) ، وقلن لعائشة ( والله ) ما نرى الذي أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنت سهيل من رضاعة سالم إلا رخصة في رضاعة سالم وحده من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون الناس فوالله لا يدخل علينا أحد بتلك الرضاعة .

فعلى هذا الأمر كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في رضاعة الكبير ، وهكذا قال ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، وابن عبد الله بن ربيعة ، وقال شعيب ، عن الزهري : أخبرني عروة ، وابن عبد الله بن ربيعة ، عن عائشة ، وأم سلمة أن أبا حذيفة ، وقال الليث ، عن ابن مسافر ، عن ابن شهاب ، عن عروة وعمرة ، عن عائشة : أن أبا حذيفة . . . . .

[ ص: 254 ] قال محمد بن يحيى : وهذه الوجوه كلها عندنا محفوظة ، غير أني لا أعرف من ابن عبد الله بن ربيعة ، وابن عائذ الله بن ربيعة ، وأظنه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة ، وهو ابن أم كلثوم بنت أبي بكر ، فقد روى عنه الزهري حديثين .

قال أبو عمر : حديث يحيى بن سعيد ، عن ابن شهاب على ما ذكرناه في هذا الباب بمعنى حديث مالك من غير خلاف ، إلا أن في هذه الرواية هند بنت الوليد بن عتبة ، وفي رواية مالك فاطمة ابنة الوليد بن عتبة ، وهو الصواب .

وقد ذكرناها في كتابنا في الصحابة ، وذكرنا أيضا سهلة بنت سهيل وأباها ، وذكرنا أيضا هناك في أبي حذيفة ، وسالم ما فيه كفاية ( وفي رواية يحيى بن سعيد هذا الحديث عشر رضعات ، وفي رواية مالك خمس رضعات ، وسنبين ذلك كله - إن شاء الله - ) .

وقد روى هذا الحديث عبد الرزاق ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة . . . . . ، وساق مثله سواء إلى قول سهلة : فما ترى في شأنه ؟ .

ووصله أيضا جماعة من أصحاب الزهري ، منهم معمر ، وعقيل ، ويونس ، وابن جريج ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن [ ص: 255 ] عائشة بمعناه .

( وكذلك رواه عثمان بن عمر ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة بمعناه ) أيضا مختصرا .

وقد روى معناه في رضاعة الكبير القاسم وعمرة ( ، عن سهلة ) بنت سهيل مختصرا ، وأبو حذيفة اسمه قيس بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، وأمه فاطمة بنت صفوان بن أمية من بني ثعلبة بن الحارث بن مالك .

هكذا قال ابن البرقي في اسم أبي حذيفة بن عتبة : قيس بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس .

وأما قوله في الحديث " يدخل علي وأنا فضل " ، فإن الخليل ذكر قال : رجل متفضل وفضل إذا توشح بثوب ، فخالف بين طرفيه على عاتقه ( قال ) ، ويقال : امرأة فضل وثوب فضل ، فمعنى الحديث عندي أنه كان يدخل عليها ، وهي متكشفة بعضها مثل الشعر ، واليد ، والوجه ، يدخل عليها ، وهي كيف أمكنها ، وقال ابن وهب : فضل : مكشوفة الرأس والصدر .

وقيل : الفضل الذي عليه ثوب واحد ، ولا إزار تحته ، وهذا أصح ; لأن انكشاف الصدر من الحرة لا يجوز أن يضاف إلى أهل الدين عند ذي محرم ، فضلا عن غير ذي محرم ; لأن الحرة عورة مجتمع على ذلك منها إلا وجهها وكفيها .

وقد أوضحنا ما لذي المحرم أن يراه من نسائه ذوات محارمه في باب صفوان بن سليم ، والحمد لله .

وقال امرؤ القيس :


تقول وقد نضت لنوم ثيابها لدى الستر إلا لبسة المتفضل .



[ ص: 256 ] هكذا أنشده أبو حاتم ، عن الأصمعي نضت بتخفيف الضاد ، ويقال : نضوت الثوب ، انضوه إذا نزعته ولا يقال : أنضيته .

والذي عليه جاء هذا الحديث رضاعة الكبير ، والتحريم بها ، وهو مذهب عائشة من بين أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حملت عائشة حديثها هذا في سالم مولى أبي حذيفة على العموم فكانت تأمر أم كلثوم ، وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها .

وصنعت عائشة ذلك بسالم بن عبد الله بن عمر ، وأمرت أم كلثوم فأرضعته فلم تتم رضاعه فلم يدخل غيرها هذا الحديث خصوصا في سالم وسهلة بنت سهيل .

واختلف العلماء في ذلك كاختلاف أمهات المؤمنين ، فذهب الليث بن سعد إلى أن رضاعة الكبير تحرم كما تحرم رضاعة الصغير ، وهو قول عطاء بن أبي رباح ، وروي عن علي ولا يصح عنه ، والصحيح ( عنه أن ) لا رضاع بعد فطام .

وكان أبو موسى يفتي به ، ثم انصرف عنه إلى قول ابن مسعود ، وأما قول عطاء فذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : سمعت عطاء يسأل ، قال له رجل : سقتني امرأة من لبنها بعد ما كنت رجلا كبيرا أفأنكحها ؟ قال : لا ، قلت : وذلك رأيك ؟ قال : نعم .

قال عطاء : كانت عائشة تأمر ( به ) بنات أخيها .

[ ص: 257 ] قال أبو عمر : هكذا إرضاع الكبير كما ذكر : يحلب له اللبن ويسقاه ، وأما أن تلقمه المرأة ثديها كما تصنع بالطفل فلا ; لأن ذلك لا يحل عند جماعة العلماء .

وقد أجمع فقهاء الأمصار على التحريم بما يشربه الغلام الرضيع من ( لبن ) المرأة ، وإن لم يمصه من ثديها ، وإنما اختلفوا في السعوط به ، وفي الحقنة ، والوجور ، وفي حين يصنع له منه بما لا حاجة بنا إلى ذكره ههنا .

وروى ابن وهب ، عن الليث أنه قال : أنا أكره رضاع الكبير أن أحل منه شيئا ، وروى عنه كاتبه أبو صالح عبد الله بن صالح أن امرأة جاءته ، فقالت : إني أريد الحج وليس لي محرم فقال : اذهبي إلى امرأة ( رجل ) ترضعك فيكون زوجها أبا لك فتحجين معه ، وقال بقول الليث قوم منهم ابن علية .

وحجة من قال بذلك حديث عائشة في قصة سالم وسهلة ، وفتواها بذلك وعملها به .

حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا [ ص: 258 ] محمد بن يحيى بن عمر بن علي ، قال : حدثنا علي بن حرب ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم علي كراهية قال : فأرضعيه قالت : وهو شيخ كبير ؟ ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أولست أعلم أنه شيخ كبير ؟ ! فأرضعيه ثم أتته بعد فقالت : يا رسول الله ما رأيت في وجه أبي حذيفة شيئا أكرهه .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا سريج بن النعمان ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن القاسم بن محمد ، عن سهلة امرأة أبي حذيفة أنها قالت : يا رسول الله إن سالما مولى أبي حذيفة يدخل علي ، وهو ذو اللحية فقال : لها أرضعيه .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا مطلب بن شعيب ، قال : حدثني [ ص: 259 ] الليث ، قال : حدثني ابن الهاد ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن امرأة أبي حذيفة أنها ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( سالما ) مولى أبي حذيفة ، ودخوله عليها فزعمت عمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن ترضعه فأرضعته ، وهو رجل بعد ما شهد بدرا .

قال أبو عمر : الصحيح في حديث القاسم أنه ، عن عائشة لا ، عن سهلة كما قال : ( ابن عيينة لا كما قال ) حماد بن سلمة ، وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله ( ابن عبيد الله ) بن أبي مليكة أن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أخبره أن عائشة أخبرته أن سهلة بنت سهيل بن عمرو جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إن سالما ، لسالم مولى أبي حذيفة ، معنا في البيت ، وقد بلغ ما بلغ الرجال ، وعلم ما يعلم الرجال فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أرضعيه تحرمي عليه قال ابن أبي مليكة فمكثت سنة [ ص: 260 ] أو قريبا منها لا أحدث به رهبة له ، ثم لقيت القاسم فقلت له : لقد حدثتني حديثا ما حدثته بعد قال : ما هو فأخبرته قال : حدث به عني أن عائشة أخبرتنيه .

قال أبو عمر : هذا يدلك على أنه حديث ترك قديما ، ولم يعمل به ، ولم يتلقه الجمهور بالقبول على عمومه ، بل تلقوه على أنه خصوص ، والله أعلم .

وممن قال : رضاع الكبير ليس بشيء ( ممن رويناه لك عنه ، وصح لدينا ) عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عمر ، وأبو هريرة ، وابن عباس ، وسائر أمهات المؤمنين غير عائشة ، وجمهور التابعين .

وجماعة فقهاء الأمصار : منهم الثوري ، ومالك وأصحابه ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، والطبري .

ومن حجتهم قوله - صلى الله عليه وسلم - إنما الرضاعة من المجاعة ، ولا رضاع إلا ما أنبت اللحم والدم .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، قال : حدثنا ، عن أبيه ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي رجل قاعد فاشتد ذلك عليه ، ورأيت الغضب في وجهه .

فقلت : يا رسول الله ، إنه أخي من الرضاعة ، فقال : انظرن [ ص: 261 ] إخوانكن من الرضاعة إنما الرضاعة من المجاعة .
.

ورواه عن أشعث هذا ، وهو ابن أبي الشعثاء ، شعبة ، والثوري بمثل رواية أبي الأحوص سواء ، ولا أعلم في هذا الباب مسندا غير هذا الحديث ، وليس له غير هذا الإسناد ، وهو خلاف رواية أهل المدينة ، عن عائشة ، ولكن العمل بالأمصار على هذا ، وبالله التوفيق .

وروى وكيع ، عن سليمان بن المغيرة ، عن أبي موسى الهلالي ، عن أبيه ، عن ابن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا رضاع إلا ما شد العظم ، وأنبت اللحم ( أو قال : ما أنشز العظم ) وبهذا احتج من قال أن الرضاعة الواحدة والمصة الواحدة لا تحرم ; لأنها لا تشد عظما ، ولا تنبت لحما في الحولين ، ولا في غيرهما ) .

وحديث وكيع هذا حدثناه عبد الله بن محمد ( بن عبد المومن قال ) حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن سليمان الأنباري ( قال ) حدثنا وكيع ، عن سليمان بن المغيرة فذكره ، ومن أصحاب سليمان بن المغيرة من يوقفه على ابن مسعود ، ووكيع حافظ حجة .

[ ص: 262 ] واختلف الفقهاء في مدة الفطام ( فقال ابن وهب ، عن مالك قليل الرضاع ، وكثيره يحرم في الحولين ) وما كان بعد الحولين فإنه لا يحرم قليله ولا كثيره ، وهذا لفظه في موطئه ، وهو قول الشافعي ، والحسن بن حي ، والثوري ، وأبي يوسف ، ومحمد ، لا يعتبر عندهم الفطام ، وإنما يعتبر الوقت .

وروى ابن القاسم ، عن مالك : الرضاع حولان وشهر ، أو شهران ، لا ينظر إلى رضاع أمه إياه بعد الحولين ، إنما ينظر إلى الحولين وشهر أو شهرين ، قال ابن القاسم : فإن لم تفصله أمه ، وأرضعته ثلاث سنين ، فأرضعته امرأة بعد ثلاث سنين ، والأم ترضعه لم تفطمه .

قال مالك : لا يكون هذا رضاعا ، ولا يلتفت فيه إلى رضاع أمه ، إنما ينظر في هذا إلى الحولين والشهر ، والشهرين .

قال ابن القاسم ، ولو فصلته أمه قبل الحولين ، مثل أن ترضعه لسنة أو نحوها فتفطمه قبل الحولين ، فينقطع رضاعه ، ويستغني عن الرضاع ، فترضعه امرأة أجنبية قبل تمام الحولين ، فلا يعد ذلك رضاعا إذا فطم قبل الحولين ، واستغنى عن الرضاع .

والحجة لقول ابن القاسم هذا قوله عز وجل في الحولين لمن أراد أن يتم الرضاعة مع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا رضاع بعد فطام .

وقال أبو حنيفة : حولين وستة أشهر بعدهما سواء فطم أو لم يفطم .

[ ص: 263 ] وقال زفر : ما دام يجتزي باللبن ، ولم يطعم فهو رضاع ، وإن أتى عليه ثلاث سنين .

وقال الأوزاعي : إذا فطم لسنة أو ستة أشهر فما رضع بعده لا يكون رضاعا ، ولو أرضع ثلاث سنين لم يفطم ، كان رضاعا ، وقد قيل عنه : لا يكون بعد الحولين رضاع .

وقال الشافعي ، والثوري ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وأبو ثور ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وداود : لا رضاع إلا في الحولين ، وما كان بعد الحولين ، ولو بيوم أو يومين في حكم رضاع الكبير ، لا يحرم شيئا ; لأن الله سبحانه جعل تمام الرضاعة حولين فلا سبيل إلى أن يزاد عليهما إلا بنص أو توقيف ممن يجب له التسليم ، وذلك غير موجود .

وأما قوله لسهلة في سالم مولى أبي حذيفة : أرضعيه خمس رضعات لتحرم عليه بلبنها ، هذا لفظ حديث مالك ، وتابعه يونس ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة في قوله في هذا الحديث : خمس رضعات .

فإنه استدل بذلك الشافعي في أنه لا يحرم من الرضاع أقل من خمس رضعات متفرقات ، وأما معمر فقال في حديثه هذا ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة : أرضعي سالما تحرمي عليه ، ولم يذكر خمس [ ص: 264 ] رضعات ولا غير ذلك ، وكذلك رواية عمرة ، عن عائشة فأرضعيه لم يقل خمسا ولا عشرا ، وكذلك رواية القاسم ، عن عائشة ( أرضعيه ) لم يقل خمسا ولا عشرا ) وليس من أجمل كمن أوضح وفصل ، مع حفظ مالك ، ويونس ، وقد روى معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أنها أفتت بذلك ، وقال يحيى بن سعيد فيه ، عن ابن شهاب بإسناده : عشر رضعات ، والصواب فيه ما قاله مالك ، ويونس بن يزيد خمس رضعات ، وقد روي عنها لا يحرم من الرضاع أقل من سبع رضعات ( والصحيح عنها خمس رضعات ، إلا أن أصحابنا يصححون ، عن عائشة في مذهبها العشر رضعات ; لأنه ترك لحديثها المرفوع في الخمس رضعات ) .

وقد روى مالك ، عن نافع أن سالم بن عبد الله أخبره أن عائشة أرسلت به ، وهو يرضع أم كلثوم بنت أبي بكر فقالت : أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل علي .

قال سالم : فأرضعتني أم كلثوم ثلاث رضعات ، ثم مرضت ، فلم ترضعني غير ثلاث مرات فلم أكن أدخل على عائشة من أجل أن أم كلثوم لم تتم لي عشر رضعات .

فلهذا الحديث قال أصحابنا : إنها تركت حديثها حيث قالت : نزل في القرآن [ ص: 265 ] عشر رضعات ، ثم نسخن بخمس ، وفعلها هذا يدل على وهي ذلك القول ، إذ يستحيل أن تدع الناسخ وتأخذ بالمنسوخ .

وأما الشافعي فذهب إلى أن لا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات ، ولا يحرم ما دونها .

والرضعة عنده ما وصل إلى الجوف ، قل أو كثر فهي رضعة ، إذا قطع فإن لم يقطع ، ولم يخرج الثدي من فمه فهي واحدة قال : وإن التقم الثدي قليلا قليلا ، ثم أرسله ، ثم عاد إليه كان رضعة واحدة ، كما لو حلف الرجل ألا يأكل إلا مرة فأكل ، وتنفس بعد الازدراد ، ويعود فيأكل ، ذلك أكل مرة ، وإن طال ذلك وانقطع قطعا بينا بعد قليل أو كثير ، ثم أكل كانت أكلتين .

قال : ولو أنفد ما في أحد الثديين ، ثم تحول إلى الآخر فأنفد ما فيه ، كانت رضعة واحدة .

وحجته في الخمس رضعات حديث مالك ، ويونس ، عن ابن شهاب ، عن عروة المذكور في هذا الباب ، وحديث مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة أنها قالت : كان فيما أنزل من القرآن " عشر رضعات معلومات يحرمن " ثم نسخن " بخمس معلومات " فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي مما يقرأ في القرآن ، .

وروى ابن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة مثله ، وروى [ ص: 266 ] معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : لا يحرم من الرضاع دون خمس رضعات معلومات .

قال الشافعي : وهو مذهبها ، وبه كانت تفتي ، وتعمل فيمن أرادت أن يدخل عليها ، قال : وقد روي عنها عشر وسبع ، ولا يصح .

ورد حديث نافع بأن أصحاب عائشة ، وهم عروة ، والقاسم ، وعمرة ، يروون عنها خمس رضعات لا يقولون عشر رضعات .

واحتج الشافعي أيضا بحديث ابن الزبير ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا تحرم المصة والمصتان ، ولا الرضعة ولا الرضعتان ، وجعله كلاما خرج على جواب سائل عن الرضعة والرضعتين ، فأجابه لا يحرمان ، كما لو سأل : هل يقطع في درهم أو درهمين ؟ كان الجواب : لا قطع في درهم ، ولا درهمين ، ولم يكن في ذلك أن أقل زيادة على الدرهمين يقطع فيها لما جاء من تحديد القطع في ربع دينار ، فكذلك تحديد الخمس رضعات ( مع ذكر الرضعة ، والرضعتين ) .

واحتج أيضا بأن قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن الحجاج ، عن أبي هريرة ( قال ) لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء .

[ ص: 267 ] قال أبو عمر : رفع هذا الحديث حماد بن سلمة ، عن هشام ، وتوقيفه أصح .

واحتج الشافعي بهذا كله ، وجعل حديث عائشة في الخمس رضعات مفسرا له ، ويحمله ظاهر القرآن في قوله وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم واعتبارا بقطع السراق في ربع دينار فصاعدا ، قال : فبان بأن المراد بتحريم الرضاع بعض المرضعين دون بعض لا من لزمه اسم رضاع كما كان المراد بعض السارقين دون بعض ، وبعض الزناة دون بعض ، واحتج ( بعض ) من ذهب مذهبه بحديث الزهري ، عن سالم بن عبد الله ، قال : كانت عائشة تقول : نزل القرآن بعشر رضعات ، ثم صار إلى خمس فليس يحرم من الرضاع دون خمس رضعات ( فهذا ما روى مالك ، عن نافع في العشر رضعات في قصة سالم ; لأن الزهري أعلم من نافع وأحفظ لما يسمع ووعى من ذلك ، والله أعلم ) .

وقال أبو ثور ، وأبو عبيد ، وداود : لا يحرم إلا ثلاث رضعات ، واحتجوا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا تحرم المصة ولا المصتان .

وحديثه عليه الصلاة والسلام ، لا تحرم الإملاجة ، ولا [ ص: 268 ] الإملاجتان ، قيل : الإملاجة : الرضعة ، وقيل : المصة .

وقد روي لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان قالوا : فأقل زيادة على الرضعتين تحرم ، وهي الثلاث ، وقالت حفصة : لا يحرم دون عشر رضعات ، وروى مالك ، عن نافع أن صفية ابنة أبي عبيد أخبرته أن حفصة أم المؤمنين أرسلت بعاصم بن عبد الله بن سعد إلى أختها فاطمة بنت عمر بن الخطاب ترضعه عشر رضعات ليدخل عليها ، وهو صغير يرضع ، ففعلت فكان يدخل عليها .

وقال مالك ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ( والطبري ) وسائر العلماء ، فيما علمت : قليل الرضاع وكثيره يحرم في وقت الرضاع .

وقال الليث : أجمع المسلمون أن قليل الرضاع وكثيره يحرم فيما يفطر الصائم .

قال أبو عمر : أما حديث عائشة في الخمس رضعات ، فرده أصحابنا وغيرهم ممن [ ص: 269 ] ذهب في هذه المسألة مذهبنا ، ودفعوه بأنه لم يثبت قرآنا ، وهي قد أضافته إلى القرآن .

وقد اختلف عنها في العمل به ، فليس بسنة ولا قرآن ، وردوا حديث المصة والمصتان ؛ بأنه مرة يرويه ابن الزبير ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ومرة ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومرة عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ومثل هذا الاضطراب يسقطه عندهم .

وحديث أم الفضل ، وأم سلمة في ذلك أضعف ، وردوا حديث عروة ، عن عائشة في الخمس رضعات أيضا بأن عروة بخلافه ، ولو صح عنده ما خالفه .

وروى مالك ، عن إبراهيم بن عقبة أنه سأل سعيد بن المسيب ، عن الرضاعة فقال : ما كان في الحولين ، وإن كان قطرة واحدة فهي تحرم ، قال : ثم سألت عروة بن الزبير فقال مثل ذلك .

وروى معمر ، عن إبراهيم بن عقبة ، قال : أتيت عروة بن الزبير فسألته عن صبي شرب قليلا من لبن امرأة فقال لي عروة : كانت عائشة لا تحرم بدون سبع رضعات أو خمس ، قال : فأتيت ابن المسيب فقال : أقول بقول عائشة ، ولكن لو دخلت بطنه قطرة بعد أن يعلم أنها دخلت بطنه حرم .

وروى حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار ، قال : سمعت ابن [ ص: 270 ] عمر يسأل عن المصة ، والمصتين فقال : لا يصلح . فقيل له : إن ابن الزبير لا يرى بهما بأسا ، فقال ابن عمر : قضاء الله أحق من قضاء ابن الزبير يقول الله وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة .

وروى حماد أيضا ، عن أبي الزبير ، قال : أمرني عطاء بن أبي رباح أن أسأل ابن عمر ، عن الرضعة والرضعتين فسألته فقال : لا يصلح ، فقيل له : إن ابن الزبير فذكره .

وفي هذا الحديث ما كانوا عليه من التبني ، وأن من تبنى صبيا كان ينتسب إليه حتى نزلت ادعوهم لآبائهم فنسخ ذلك فلا يجوز اليوم أن يقال ذلك في غير الابن الصحيح ، ولذلك لا يجوز عندي أن يقول المولى : أنا ابن فلان ، أو يكتب بها شهادته ، ولكنه يقول : مولى فلان ، والله أعلم .

حدثنا خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : أخبرنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : [ ص: 271 ] حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار ، قال : حدثنا موسى بن عقبة ، قال : حدثني سالم ، عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول : ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد ، حتى نزل القرآن ادعوهم لآبائهم .




الخدمات العلمية