الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله وتعوذ سرا ) أي قال المصلي : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وهو اختيار أبي عمرو وعاصم وابن كثير ، وهو المختار عندنا ، وهو قول الأكثر من أصحابنا ; لأنه المنقول من استعاذته صلى الله عليه وسلم وبهذا يضعف ما اختاره في الهداية من أن الأولى أن يقول : أستعيذ بالله ليوافق القرآن يعني ; لأن المذكور فيه { فاستعذ } بصيغة الأمر من الاستعاذة وأستعيذ مضارعها فيتوافقان بخلاف أعوذ فإنه من العوذ لا من الاستعاذة وجوابه كما في فتح القدير أن لفظ استعذ طلب العوذ ، وقوله أعوذ مثال مطابق لمقتضاه أما قربه من لفظه فمهدر ، وفي البدائع ولا ينبغي أن يزيد عليه أن الله هو السميع العليم يعني كما هو اختيار نافع وابن عامر والكسائي ; لأن هذه الزيادة من باب الثناء وما بعد التعوذ محل القراءة لا محل الثناء ، وقد قدم المصنف أنه سنة لقوله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } أي إذا أردت قراءة القرآن ، فأطلق المسبب على السبب ، وإنما لم يكن واجبا لظاهر الأمر ; لأن السلف أجمعوا على سنيته كما نقله المصنف في الكافي ولم يعين سند الإجماع الذي هو الصارف للأمر عن ظاهره وعلى القول بأنه لا يحتاج إلى سند بل يجوز أن يخلق الله لهم علما ضروريا يستفيدون به الحكم فلا إشكال وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود أربع يخفيهن الإمام التعوذ والتسمية وآمين وربنا لك الحمد فقوله سرا عائد إلى الاستفتاح والتعوذ

                                                                                        ( قوله للقراءة فيأتي به المسبوق لا المقتدي ويؤخر عن تكبيرات العيدين ) يعني أن التعوذ سنة القراءة فيأتي به كل قارئ للقرآن ; لأنه شرع لها صيانة عن وساوس الشيطان فكان تبعا لها ، وهو قول أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف هو تبع للثناء وفائدة الخلاف في ثلاث مسائل : إحداها : أنه لا يأتي به المقتدي عندهما ; لأنه لا قراءة عليه ويأتي به عنده ; لأنه يأتي بالثناء ، ثانيها : أن الإمام يأتي بالتعوذ بعد تكبيرات الزوائد في الركعة الأولى عندهما ويأتي به الإمام والمقتدي بعد الثناء قبل التكبيرات عنده ، ثالثها : أن المسبوق لا يأتي به للحال ويأتي به إذا قام إلى [ ص: 329 ] القضاء عندهما وعنده يأتي به مرتين عند الدخول بعد الثناء وعند القراءة ، وقد ذكر صاحب الهداية وجماعة الخلاف بين الصاحبين وأبي يوسف ، وفي عامة النسخ كالمبسوط والمنظومة وشروحها بين أبي يوسف ومحمد ولم يذكر قول أبي حنيفة بل وذكر أبو اليسر رواية عن محمد كما عن أبي يوسف فلذا والله أعلم صحح صاحب الخلاصة قول أبي يوسف أنه تبع للثناء وأشار المصنف إلى أن محل التعوذ بعد الثناء

                                                                                        ومقتضاه أنه لو تعوذ قبل الثناء أعاده بعده لعدم وقوعه في محله وإلى أنه لو نسي التعوذ فقرأ الفاتحة لا يتعوذ لفوات المحل وقيدنا بقراءة القرآن للإشارة إلى أن التلميذ لا يتعوذ إذا قرأ على أستاذه كما نقله في الذخيرة وظاهره : أن الاستعاذة لم تشرع إلا عند قراءة القرآن أو في الصلاة ، وفيه نظر ظاهر ، وقد قدمناه أن المسبوق يأتي بالثناء إلا إذا كان إمامه يجهر بالقراءة ويأتي به أيضا إذا قام إلى قضاء ما سبق به وإذا أدرك الإمام في الركوع يتحرى إن كان أكبر رأيه أنه لو أتى به أدرك الإمام في شيء من الركوع يأتي به قائما وإلا يتابع الإمام ولا يأتي بالثناء في الركوع لفوات محله فإنه محل التسبيحات ، وإنما يأتي بتكبيرات العيد فيه دون تسبيحاته ; لأنها واجبة دونها ، وكذا لو أدرك المسبوق الإمام في السجدة فهو كالركوع وإذا لم يدرك الإمام في الركوع والسجود لا يأتي بهما ; لأنه انفرد عن الإمام بعد الاقتداء بزيادة لم يعتد بها ، وإن كانت غير مفسدة ، لما أن زيادة ما دون الركعة غير مفسد ، وإن أدرك إمامه في القعدة فإنه لا يأتي بالثناء بل يكبر للافتتاح ، ثم للانحطاط ، ثم يقعد ، وقيل يأتي بالثناء وينبغي أن يفصل كما في الركوع والسجود وأن لا فرق بين القعدة الأولى والثانية .

                                                                                        [ ص: 328 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 328 ] ( قوله وهو قول الأكثر من أصحابنا ) قال في النهر : وجعله الشارح ظاهر المذهب وادعى بعضهم إجماع القراء عليه من حيث الرواية وهذا لأن السنن إنما دخلت في الأمر دلالة على طلب الاستعاذة ، فالقائل أعوذ ممتثل لا أستعيذ لأنه طلب للاستعاذة لا متعوذ ولذا كان أعوذ هو المنقول من استعاذته عليه الصلاة والسلام وقول الجوهري عذت بفلان واستعذت به التجأت إليه مردود عليه عند أهل اللسان كذا في النشر لابن الجزري ( قوله لأن السلف أجمعوا على سنيته ) قال في النهر في دعوى الإجماع نزاع فقد روي الوجوب عن عطاء والثوري ، وإن كان جمهور السلف على خلافه كما في الفتح ( قوله فقوله سرا عائد إلخ ) قال في النهر كونه قيدا في الاستفتاح أيضا بعيد ، وعليه فهو من التنازع بل هو حال من فاعل تعوذ ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف بل هو أولى لأن مجيء المصدر المنكر حالا وإن كثر إلا أنه سماعي . ا هـ .

                                                                                        وفي قوله فهو من التنازع نظر لما قاله بعض الفضلاء عن همع الهوامع من أن التنازع يقع في كل معمول إلا المفعول والتمييز ، وكذا الحال خلافا لابن معطي ولذا قال الشيخ علاء الدين الحصكفي فهو كالتنازع أي شبيه بالتنازع الذي هو تعلق عاملين فأكثر من الفعل أو شبهه باسم فأكثر ( قوله الرواية ) لعله الدراية تأمل ا هـ منه .

                                                                                        [ ص: 329 ] ( قوله وأشار المصنف إلى أن محل التعوذ بعد الثناء ) قال في النهر لا يخفى بعد هذه الإشارة إذ الواو لا تفيد ترتيبا ا هـ .

                                                                                        قال الرملي أقول : الترتيب مستفاد من صنيعه لا من الواو فانظر إلى قوله : وسمى وقرأ إلخ تأمل .

                                                                                        ( قوله وفيه نظر ظاهر ) وجهه كما قال بعض الفضلاء : أن الأمر بالاستعاذة معلول بدفع الوسوسة فيجوز الإتيان به في جميع ما يخشى فيه الوسوسة . ا هـ .

                                                                                        وقد أجاب عنه في النهر بأن ما في الذخيرة ليس في المشروعية وعدمها بل في الاستنان وعدمه ا هـ .

                                                                                        أي فتسن للقراءة ولا تسن لغيرها ونفي السنية لا ينافي المشروعية ونص عبارة الذخيرة هكذا : إذا قال الرجل بسم الله الرحمن الرحيم ، فإن أراد به قراءة القرآن يتعوذ قبله لقوله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } ، وإن أراد افتتاح الكلام كما يقرأ التلميذ على الأستاذ لا يتعوذ قبله لأنه لا يريد به قراءة القرآن ، ألا يرى أن رجلا لو أراد أن يشكر فيقول : الحمد لله رب العالمين لا يحتاج إلى التعوذ قبله فعلى هذا الجنب إذا قال بسم الله الرحمن الرحيم ، فإن أراد قراءة القرآن لم يجز ، وإن أراد افتتاح الكلام أو التسمية لا بأس به ا هـ .

                                                                                        وحاصله أنه إذا أراد أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم لا يأتي بالتعوذ قبلها إلا إذا أراد بها القراءة ، أما إذا أراد بها افتتاح الكلام كما يأتي بها التلميذ في أول درسه للعلم لا يتعوذ لأن البسملة تخرج عن القرآنية بقصد الذكر حتى يجوز للجنب الإتيان بها إذا لم يقصد بها القرآنية وملخصه أنه إذا أتى بشيء من القرآن لا يسن التعوذ قبله إلا إذا قصد به التلاوة ، وأما لو أتى بالبسملة لافتتاح الكلام أو بالحمدلة لقصد الشكر لا على قصد القرآنية فلا يسن التعوذ ، وكذا إذا تكلم بغير ما هو من القرآن بالأولى ، نعم تطلب الاستعاذة عند دخول الخلاء ونحو ذلك مما ليس بكلام ، وأما الكلام فغير القرآن لا تسن له تأمل .




                                                                                        الخدمات العلمية