الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2262 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طريق مكة ، فمر على جبل يقال له : جمدان ، فقال : " سيروا ، هذا جمدان ، سبق المفردون " قالوا : وما المفردون ؟ يا رسول الله ! قال : " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " ( رواه مسلم ) .

التالي السابق


2262 - ( وعن أبي هريرة ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طريق مكة ) : أي : سيرا ظاهرا ، وفي طريق رب الكعبة سيرا باطنا ، وهو يحتمل أن يكون ذاهبا إلى مكة ، أو راجعا إلى المدينة ، ( فمر على جبل ) : على ليلة من المدينة ( يقال له : جمدان ) : بضم الجيم وسكون الميم وفي آخره نون ، وهو مع جماديته يشعر بذكر الرحمن ، ويستبشر بمن يمر عليه من أرباب العرفان ، كما ورد : أن الجبل ينادي الجبل باسمه ، أي : فلان هل مر بك أحد ذكر الله ؟ فإذا قال : نعم استبشر ، الحديث . ( رواه الطبراني ، عن ابن مسعود ) .

وفي عوارف المعارف روي عن أنس بن مالك أنه قال : ما من صباح ولا رواح إلا وبقاع الأرض ينادي بعضها بعضا : هل مر بك اليوم أحد صلى عليك أو ذكر الله عليك ؟ فمن قائلة نعم ، ومن قائلة لا . فإذا قالت نعم علمت أن لها بذلك فضلا عليها . ( فقال : " سيروا ) : أي : سيرا حسنا مقرونا بذكر وحضور وشكر وسرور " هذا جمدان " : متحرك بالسيران ، وإن كنتم ترونه ساكنا كالحيران ، سئل الجنيد ، لم تركت السماع ؟ فقال : قال تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون ( سبق المفردون ) : بتشديد الراء المسكورة وتخفيفها أي : المفردون أنفسهم عن أقرانهم ، المميزون أحوالهم عن إخوانهم بنيل الزلفى والعروج إلى الدرجات العلى ؛ لأنهم أفراد بذكر الله عمن لم يذكر الله أو جعلوا ربهم فردا بالذكر ، وتركوا ذكر ما سواه وهو حقيقة التفريد هنا . ( قالوا : وما المفردون ؟ يا رسول الله ! ) : قيل : السؤال عن الصفة أعني التفريد ، أو الإفراد ، لأنه ما يسأل به عن حقيقة الشيء يسأل به عن وصفه أيضا نحو سؤال فرعون : وما رب العالمين وجواب موسى - عليه الصلاة والسلام - : رب السماوات والأرض في وجه ، ولذلك لم يقولوا : ومن هم ؟ فأجاب بأن التفريد الحقيقي المعتد له هو تفريد النفس بذكر الله تعالى في أكثر الأوقات ، فكأنهم قالوا : ما صفة المفردين حتى نتأسى بهم فنسبق إلى ما سبقوا إليه ونطلع على ما اطلعوا عليه ؟ ( قال : " الذاكرون الله كثيرا ) : أي : ذكرا كثيرا . قيل : في أكثر أحوالهم كما يدل له تفسيره - صلى الله عليه وسلم - في حديث [ ص: 1541 ] آخر : ( والذاكرات ) : أي : الله ، وحذفه للاكتفاء ، أو لأن كثرة الذكر توجد كثيرا في الرجال دون النساء . وقالالطيبي : أي : الذاكراته ، فحذف الهاء كما حذف في التنزيل ؛ لأنه رأس آية ، ولأنه مفعول وحذفه شائع اهـ . وقوله : لأنه رأس آية صحيح ، والذاكر الكثير هو أن لا ينسى الرب تعالى على كل حال ، لا الذكر بكثرة اللغات ، والمراد هم المستخلصون لعبادة الله ، المستغنون لذكره ، المولعون بفكره ، القائمون بوظيفة شكره ، المعتزلون عن غيره ، هجروا الخلان ، وتركوا الأوطان ، وقطعوا الأسباب ، ولازموا الباب ، وانفصلوا عن الشهوات ، وانفطموا عن اللذات ، لا لذة لهم إلا بذكره ، ولا نعمة لهم إلا بشكره ، إذ لا يصح مقام التفريد بعد تحقيق التوحيد إلا بهذه الأشياء . قال الله تعالى : وتبتل إليه تبتيلا أي : انقطع إليه انقطاعا كليا ، ويمكن أن يكون " ما " بمعنى " من " ، والأظهر أن " ما " هاهنا تغليب غير ذوي العقول لكثرتهم على ذوي العقول لقلتهم ، لما عرفت أن الأشياء كلها لها حظ من الذكر والتسبيح ومعرفة الرب والخشية منه على ما حرر في محله .

وقال الطيبي : لما قربوا أي : الصحابة من المدينة اشتاقوا إلى الأوطان ، فتفرد منهم جماعة وسبقوا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - للمتخلفين : " سيروا فقد قرب الدار ، وهذا جمدان ، وسبقكم المفردون " يقال فرد برأيه وأفرد وفرد بمعنى انفرد به ، ويقال : فرد نفسه إذا تبتل للعبادة ، وأما جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سؤالهم ، فمن الأسلوب الحكيم أي : دعوا سؤالكم هذا ؛ لأنه ظاهر ، وسلوا عن السابقين إلى الخيرات الذين أفردوا أنفسهم لذكر الله تعالى . وتعقبه ابن حجر بأنه مبني على ترج لا يدرك أهو الواقع أم لا . حيث قال : لعلهم كانوا راجعين إلى المدينة . ولما قربوا إلخ ( رواه مسلم ) : ورواه الترمذي ولفظه في الجواب : قال المستهترون : بفتح التاءين أي : المبالغون في ذكر الله : يضع الذكر عنهم أثقالهم ، فيأتون يوم القيامة خفافا .




الخدمات العلمية