الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 89 ] وأما قوله تعالى : ( ذلك رب العالمين ) أي ذلك الموجود الذي علمت من صفته وقدرته أنه خلق الأرض في يومين هو رب العالمين وخالقهم ومبدعهم ، فكيف أثبتم له أندادا من الخشب والحجر ؟ ثم إنه تعالى لما أخبر عن كونه خالقا للأرض في يومين أخبر أنه أتى بثلاثة أنواع من الصنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك ، فالأول : قوله : ( وجعل فيها رواسي من فوقها ) والمراد منها الجبال ، وقد تقدم تفسير كونها ( رواسي ) في سورة النحل ، فإن قيل : ما الفائدة في قوله : ( من فوقها ) ولم لم يقتصر على قوله : ( وجعل فيها رواسي ) كقوله تعالى : ( وجعلنا فيها رواسي شامخات ) [ المرسلات : 27 ] ( وجعلنا في الأرض رواسي ) [ الرعد : 3 ] قلنا : لأنه تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول ، ولكنه تعالى قال خلقت هذه الجبال الثقال فوق الأرض ، ليرى الإنسان بعينه أن الأرض والجبال أثقال على أثقال ، وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ ، وما ذاك الحافظ المدبر إلا الله سبحانه وتعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            والنوع الثاني : مما أخبر الله تعالى في هذه الآية قوله : ( وبارك فيها ) والبركة كثرة الخير ، والخيرات الحاصلة من الأرض أكثر مما يحيط به الشرح والبيان ، وقد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والثمار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الخيرات .

                                                                                                                                                                                                                                            والنوع الثالث : قوله تعالى : ( وقدر فيها أقواتها ) وفيه أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المعنى وقدر فيها أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم ، قال محمد بن كعب : قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان ، والقول الثاني : قال مجاهد : وقدر فيها أقواتها من المطر ، وعلى هذا القول فالأقوات للأرض لا للسكان ، والمعنى أن الله تعالى قدر لكل أرض حظها من المطر .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : أن المراد من إضافة الأقوات إلى الأرض كونها متولدة من تلك الأرض ، وحادثة فيها ؛ لأن النحويين قالوا : يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب ، فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة ، وإلى محله أخرى ، فقوله : ( وقدر فيها أقواتها ) أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها ، وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدنا لنوع آخر من الأشياء المطلوبة ، حتى إن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس ، فصار هذا المعنى سببا لرغبة الناس في التجارات من اكتساب الأموال .

                                                                                                                                                                                                                                            ورأيت من كان يقول صنعة الزراعة والحراثة أكثر الحرف والصنائع بركة ؛ لأن الله تعالى وضع الأرزاق والأقوات في الأرض قال : ( وقدر فيها أقواتها ) وإذا كانت الأقوات موضوعة في الأرض كان طلبها من الأرض متعينا ، ولما ذكر الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التدبير قال بعده : ( في أربعة أيام سواء للسائلين ) وههنا سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : أنه تعالى ذكر أنه خلق الأرض في يومين ، وذكر أنه أصلح هذه الأنواع الثلاثة في أربعة أيام أخر ، وذكر أنه خلق السماوات في يومين ، فيكون المجموع ثمانية أيام ، لكنه ذكر في سائر الآيات أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام فلزم التناقض .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن العلماء أجابوا عنه بأن قالوا : المراد من قوله : ( وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ) مع اليومين الأولين ، وهذا كقول القائل : سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ، وسرت إلى الكوفة في خمسة عشر يوما يريد كلا المسافتين ، ويقول الرجل للرجل أعطيتك ألفا في شهر وألوفا في شهرين فيدخل الألف في الألوف والشهر في الشهرين .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : أنه لما ذكر أنه خلق الأرض في يومين ، فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعد عن الشبهة وأبعد عن الغلط ، فلم ترك هذا التصريح ، وذكر ذلك الكلام المجمل ؟ [ ص: 90 ]

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن قوله : ( في أربعة أيام سواء للسائلين ) فيه فائدة على ما إذا قال : خلقت هذه الثلاثة في يومين ، وذلك لأنه لو قال : خلقت هذه الأشياء في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل ، أما لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء ، ثم قال بعده : ( في أربعة أيام سواء للسائلين ) دل ذلك على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : كيف القراءات في قوله ( سواء ) ؟ والجواب : قال صاحب " الكشاف " قرئ ( سواء ) بالحركات الثلاث ، الجر على الوصف ، والنصب على المصدر : استوت سواء ، والرفع على : هي سواء .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الرابع : ما المراد من كون تلك الأيام الأربعة سواء ؟ فنقول : إن الأيام قد تكون متساوية المقادير كالأيام الموجودة في أماكن خط الاستواء ، وقد تكون مختلفة كالأيام الموجودة في سائر الأماكن ، فبين تعالى أن تلك الأيام الأربعة كانت متساوية غير مختلفة .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الخامس : بم يتعلق قوله : ( للسائلين ) ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الزجاج قال : قوله : ( في أربعة أيام ) أي في تتمة أربعة أيام ، إذا عرفت هذا فالتقدير ( وقدر فيها أقواتها ) في تتمة أربعة أيام لأجل السائلين ، أي الطالبين للأقوات المحتاجين إليها .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه متعلق بمحذوف والتقدير كأنه قيل : هذا الحصر والبيان لأجل من سأل كم خلقت الأرض وما فيها ؟ ولما شرح الله تعالى كيفية تخليق الأرض وما فيها أتبعه بكيفية تخليق السماوات فقال : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) وفيه مباحث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : قوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء ) من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر ، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج ، ونظيره قولهم استقام إليه وامتد إليه ، ومنه قوله تعالى : ( فاستقيموا إليه ) [ فصلت : 6 ] والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها ، من غير صرف يصرفه ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : ذكر صاحب " الأثر " أنه كان عرش الله على الماء قبل خلق السماوات والأرض فأحدث الله في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان ، أما الزبد فيبقى على وجه الماء فخلق الله منه اليبوسة ، وأحدث منه الأرض ، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السماوات .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذه القصة غير موجودة في القرآن ، فإن دل عليه دليل صحيح قبل وإلا فلا ، وهذه القصة مذكورة في أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة ، وفيه أنه تعالى خلق السماء من أجزاء مظلمة ، وهذا هو المعقول ؛ لأنا قد دللنا في المعقولات على أن الظلمة ليست كيفية وجودية ، بدليل أنه لو جلس إنسان في ضوء السراج وإنسان آخر في الظلمة ، فإن الذي جلس في الضوء لا يرى مكان الجالس في الظلمة ، ويرى ذلك الهواء مظلما .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الذي جلس في الظلمة فإنه يرى ذلك الذي كان جالسا في الضوء ، ويرى ذلك الهواء مضيئا ، ولو كانت الظلمة صفة قائمة بالهواء لما اختلفت الأحوال بحسب اختلاف أحوال الناظرين ، فثبت أن الظلمة عبارة عن عدم النور ، ثم لما ركبها وجعلها سماوات وكواكب وشمسا وقمرا ، وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة ، فثبت أن تلك الأجزاء حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السماوات والشمس [ ص: 91 ] والقمر كانت مظلمة ، فصح تسميتها بالدخان ؛ لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور ، فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان ، والله أعلم بحقيقة الحال .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية