الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) وهذه الآية فيها مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : احتج علماء التوحيد قديما وحديثا بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء وحاصلا في المكان والجهة ، وقالوا : لو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام ، فيلزم حصول الأمثال والأشباه له ، وذلك باطل بصريح قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر ، فيقال : إما أن يكون المراد ( ليس كمثله شيء ) في ماهيات الذات ، أو أن يكون المراد ليس كمثله في الصفات شيء ، والثاني باطل ؛ لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين ، كما أن الله تعالى يوصف بذلك ، وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين ، مع أن الله تعالى يوصف بذلك ، فثبت أن المراد بالمماثلة [ ص: 130 ] المساواة في حقيقة الذات ، فيكون المعنى أن شيئا من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية ، فلو كان الله تعالى جسما ، لكان كونه جسما ذاتا لا صفة ، فإذا كان سائر الأجسام مساوية له في الجسمية ، أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة ، فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتا ، والنص ينفي ذلك ، فوجب أن لا يكون جسما .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه "بالتوحيد" ، وهو في الحقيقة كتاب الشرك ، واعترض عليها ، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات ، لأنه كان رجلا مضطرب الكلام ، قليل الفهم ، ناقص العقل ، فقال : " نحن نثبت لله وجها ، ونقول : إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ، ووجه ربنا منفي عنه الهلاك والفناء ، ونقول : إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك والفناء ، ونفى عنها الجلال والإكرام ، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء ، ولو كان مجرد إثبات الوجه لله يقتضي التشبيه لكان من قال : إن لبني آدم وجوها وللخنازير والقردة والكلاب وجوها ، لكان قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب . ثم قال : ولا شك أنه اعتقاد الجهمية ؛ لأنه لو قيل له : وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء ، فعلمنا أنه لا يلزم من إثبات الوجه واليدين لله إثبات التشبيه بين الله وبين خلقه " .

                                                                                                                                                                                                                                            وذكر في فصل آخر من هذا الكتاب " أن القرآن دل على وقوع التسوية بين ذات الله تعالى وبين خلقه في صفات كثيرة ، ولم يلزم منها أن يكون القائل مشبها ، فكذا ههنا " ونحن نعد الصور التي ذكرها على الاستقصاء .

                                                                                                                                                                                                                                            فالأول : أنه تعالى قال في هذه الآية ( وهو السميع البصير ) وقال في حق الإنسان ( فجعلناه سميعا بصيرا ) [الإنسان : 2] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله ) [التوبة : 105] وقال في حق المخلوقين ( ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ) [النحل : 79]

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قال : ( واصنع الفلك بأعيننا ) [هود : 37] ( واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ) [الطور : 48] وقال في حق المخلوقين ( ترى أعينهم تفيض من الدمع ) [المائدة : 83]

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : قال لإبليس ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) [ص : 75] وقال : ( بل يداه مبسوطتان ) [المائدة : 64] وقال في حق المخلوقين ( ذلك بما قدمت أيديكم ) [الأنفال : 51] ، ( ذلك بما قدمت يداك ) ، [الحج : 10] ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ) ، [الفتح : 10]

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : قال تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) [طه : 5] وقال في الذين يركبون الدواب ( لتستووا على ظهوره ) [الزخرف : 13] وقال في سفينة نوح ( واستوت على الجودي ) [هود : 44]

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : سمى نفسه عزيزا ، فقال : ( العزيز الجبار ) [الحشر : 23] ، ثم ذكر هذا الاسم في حق المخلوقين بقوله ( ياأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا ) [يوسف : 78] ، ( ياأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ) [يوسف : 88] .

                                                                                                                                                                                                                                            السابع : سمى نفسه بالملك ، وسمى بعض عبيده أيضا بالملك ، فقال : ( وقال الملك ائتوني به ) [يوسف : 54] وسمى نفسه بالعظيم ، ثم أوقع هذا الاسم على المخلوق ، فقال : ( رب العرش العظيم ) [التوبة : 129] وسمى نفسه بالجبار المتكبر ، وأوقع هذا الاسم على المخلوق ، فقال : ( كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ) [غافر : 35] ثم طول في ضرب الأمثلة من هذا الجنس ، وقال : ومن وقف على الأمثلة التي ذكرناها أمكنه الإكثار منها ، فهذا ما أورده هذا الرجل في هذا الكتاب . [ ص: 131 ]

                                                                                                                                                                                                                                            وأقول : هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلين ، وعلماء التوحيد حققوا الكلام في المثلين ، ثم فرعوا عليه الاستدلال بهذه الآية ، فنقول : المثلان هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته ، وتحقيق الكلام فيه مسبوق بمقدمة أخرى ، فنقول : المعتبر في كل شيء ، إما تمام ماهيته ، وإما جزء من أجزاء ماهيته ، وإما أمر خارج عن ماهيته ، ولكنه من لوازم تلك الماهية ، وإما أمر خارج عن ماهيته ، ولكنه ليس من لوازم تلك الماهية ، وهذا التقسيم مبني على الفرق بين ذات الشيء وبين الصفات القائمة به ، وذلك معلوم بالبديهة ، فإنا نرى الحبة من الحصرم كانت في غاية الخضرة والحموضة ، ثم صارت في غاية السواد والحلاوة ، فالذات باقية والصفات مختلفة والذات الباقية مغايرة للصفات المختلفة ، وأيضا نرى الشعر قد كان في غاية السواد ثم صار في غاية البياض ، فالذات باقية والصفات متبدلة ، والباقي غير المتبدل ، فظهر بما ذكرنا أن الذوات مغايرة للصفات .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : اختلاف الصفات لا يوجب اختلاف الذوات البتة ، لأنا نرى الجسم الواحد كان ساكنا ثم يصير متحركا ، ثم يسكن بعد ذلك ، فالذوات باقية في الأحوال كلها على نهج واحد ونسق واحد ، والصفات متعاقبة متزايلة ، فثبت بهذا أن اختلاف الصفات والأعراض لا يوجب اختلاف الذوات ، إذا عرفت هذا فنقول : الأجسام منها تألف وجه الكلب والقرد - مساوية للأجسام التي تألف منها وجه الإنسان والفرس ، وإنما حصل الاختلاف بسبب الأعراض القائمة ، وهي الألوان والأشكال والخشونة والملاسة وحصول الشعور فيه وعدم حصولها ، فالاختلاف إنما وقع بسبب الاختلاف في الصفات والأعراض ، فأما ذوات الأجسام فهي متماثلة إلا أن العوام لا يعرفون الفرق بين الذوات وبين الصفات ، فلا جرم يقولون إن وجه الإنسان مخالف لوجه الحمار ، ولقد صدقوا ، فإنه حصلت تلك بسبب الشكل واللون وسائر الصفات ، فأما الأجسام من حيث إنها أجسام فهي متماثلة متساوية ، فثبت أن الكلام الذي أورده إنما ذكره لأجل أنه كان من العوام ، وما كان يعرف أن المعتبر في التماثل والاختلاف حقائق الأشياء وماهياتها ، لا الأعراض والصفات القائمة بها ، بقي ههنا أن يقال : فما الدليل على أن الأجسام كلها متماثلة ؟ فنقول : لنا ههنا مقامان :

                                                                                                                                                                                                                                            المقام الأول : أن نقول : هذه المقدمة إما أن تكون مسلمة أو لا تكون مسلمة ، فإن كانت مسلمة فقد حصل المقصود ، وإن كانت ممنوعة ، فنقول : فلم لا يجوز أن يقال : إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك أو العرش أو الكرسي ، ويكون ذلك الجسم مخالفا لماهية سائر الأجسام ، فكان هو قديما أزليا واجب الوجود ، وسائر الأجسام محدثة مخلوقة ، ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يسقطوا هذا الإلزام عن المجسمة لا يقدرون عليه ؟ فإن قالوا : هذا باطل ؛ لأن القرآن دل على أن الشمس والقمر والأفلاك كلها محدثة مخلوقة ، فيقال : هذا من باب الحماقة المفرطة ؛ لأن صحة القرآن وصحة نبوة الأنبياء مفرعة على معرفة الإله ، فإثبات معرفة الإله بالقرآن وقول النبي لا يقوله عاقل يفهم ما يتكلم به .

                                                                                                                                                                                                                                            والمقام الثاني : أن علماء الأصول أقاموا البرهان القاطع على تماثل الأجسام في الذوات والحقيقة ، وإذا ثبت هذا ظهر أنه لو كان إله العالم جسما لكانت ذاته مساوية لذوات الأجسام ، إلا أن هذا باطل بالعقل والنقل ، أما العقل فلأن ذاته إذا كانت مساوية لذوات سائر الأجسام وجب أن يصح عليه ما يصح على سائر الأجسام ، فيلزم كونه محدثا مخلوقا قابلا للعدم والفناء قابلا للتفرق والتمزق .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما النقل فقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل ، وعند هذا يظهر أنا لا نقول بأنه متى حصل الاستواء في [ ص: 132 ] الصفة لزم حصول الاستواء في تمام الحقيقة ، إلا أنا نقول : لما ثبت أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية ، فلو كانت ذاته جسما لكان ذلك الجسم مساويا لسائر الأجسام في تمام الماهية ، وحينئذ يلزم أن يكون كل جسم مثلا له ؛ لما بينا أن المعتبر في حصول المماثلة اعتبار الحقائق من حيث هي هي ، لا اعتبار الصفات القائمة بها ، فظهر بالتقرير الذي ذكرناه أن حجة أهل التوحيد في غاية القوة ، وأن هذه الكلمات التي أوردها هذا الإنسان إنما أوردها ؛ لأنه كان بعيدا عن معرفة الحقائق ، فجرى على منهج كلمات العوام ، فاغتر بتلك الكلمات التي ذكرها ، ونسأل الله تعالى حسن الخاتمة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية