الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 362 ] أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار موصدة

.

لما نوه بالذين آمنوا أعقب التنويه بالثناء عليهم وبشارتهم مفتتحا باسم الإشارة لتمييزهم أكمل تمييز ؛ لإحضارهم بصفاتهم في ذهن السامع ، مع ما في اسم الإشارة من إرادة التنويه والتعظيم .

والميمنة : جهة اليمين ، فهي مفعلة للمكان مأخوذة من فعل يمنه ( فعلا ماضيا ) إذا كان على يمينه ، أي : على جهة يده اليمنى ، أو مأخوذة من يمنه الله يمنا ، إذا باركه ، وإحدى المادتين مأخوذة من الأخرى ، قيل : سميت اليد اليمنى يمينا ويمنى لأنها أعود نفعا على صاحبها في يسر أعماله ، ولذلك سمي بلاد اليمن يمنا ; لأنها عن جهة يمين الواقف مستقبلا الكعبة من بابها ; لأن باب الكعبة شرقي ، فالجهة التي على يمين الداخل إلى الكعبة هي الجنوب وهي جهة بلاد اليمن ، وكانت بلاد اليمن مشهورة بالخيرات ، فهي ميمونة ، وكان جغرافيو اليونان يصفونها بالعربية السعيدة ، وتفرع على ذلك اعتبارهم ما جاء عن اليمين من الوحش والطير مبشرا بالخير في عقيدة أهل الزجر والعيافة ، فالأيامن الميمونة ، قال المرقش يفند ذلك :


فإذا الأشائم كالأيامن والأيامن كالأشائم



ونشأ على اعتبار عكس ذلك تسمية بلاد الشام شأما بالهمز مشتقة من الشؤم ; لأن بلاد الشام من جهة شمال الداخل إلى الكعبة ، وقد أبطل الإسلام ذلك بقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم بارك لنا في شأمنا وفي يمننا " وما تسميتهم ضد اليد اليمنى يسارا إلا لإبطال ما يتوهم من الشؤم فيها .

ولما كانت جهة اليمين جهة مكرمة تعارفوا الجلوس على اليمين في المجامع كرامة للجالس ، وجعلوا ضدهم بعكس ذلك . وقد أبطله الإسلام فكان الناس يجلسون حين انتهى بهم المجلس .

وسمي أهل الجنة أصحاب الميمنة و أصحاب اليمين ، وسمي أهل النار " أصحاب المشأمة " و " أصحاب الشمال " في سورة الواقعة ، فقوله : ( أولئك أصحاب الميمنة ) أي : أصحاب الكرامة عند الله .

[ ص: 363 ] وقوله : ( هم أصحاب المشأمة ) أي : هم محقرون . وذلك كناية مبنية على عرف العرب يومئذ في مجالسهم ، ولا ميمنة ولا مشأمة على الحقيقة ; لأن حقيقة الميمنة والمشأمة تقتضيان حيزا لمن تنسب إليه الجهة .

وجملة ( والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة ) تتميم لما سيق من ذم الإنسان المذكور آنفا ، إذ لم يعقب ذمه هنالك بوعيده عناية بالأهم وهو ذكر حالة أضداده ووعدهم ، فلما قضي حق ذلك ثني العنان إلى ذلك الإنسان فحصل من هذا النظم البديع محسن رد العجز على الصدر ، ومحسن الطباق بين الميمنة والمشأمة .

وقد عرفت آنفا أن المشأمة منزلة الإهانة والغضب ، ولذلك أتبع بقوله : ( عليهم نار موصدة ) .

وضمير الفصل في قوله : ( هم أصحاب المشأمة ) لتقوية الحكم وليس للقصر ، إذ قد استفيد القصر من ذكر الجملة المضادة للتي قبلها وهي ( أولئك أصحاب الميمنة ) .

و ( موصدة ) اسم مفعول من أوصد الباب بالواو . ويقال : أأصد - بالهمز - وهما لغتان ، قيل : الهمز لغة قريش ، وقيل : معناه جعله وصيدة . والوصيدة : بيت يتخذ من الحجارة في الجبال لحفظ الإبل . فقرأ الجمهور ( موصدة ) بواو ساكنة بعد الميم من أوصد بالواو ، وقرأه أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزة ساكنة بعد الميم من أأصد الباب ، بهمزتين بمعنى وصده .

وجملة ( عليهم نار موصدة ) بدل اشتمال من جملة ( هم أصحاب المشأمة ) أو استئناف بياني ناشئ عن الإخبار عنهم بأنهم أصحاب المشأمة .

و ( عليهم ) متعلق بـ ( موصدة ) وقدم على عامله للاهتمام بتعلق الغلق عليهم تعجيلا للترهيب .

وقد استتب بهذا التقديم رعاية الفواصل بالهاء ابتداء من قوله : ( فلا اقتحم العقبة ) .

[ ص: 364 ] وإسناد الموصدية إلى النار مجاز عقلي ، والموصد هو موضوع النار ، أي : جهنم .

التالي السابق


الخدمات العلمية