الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين .

تفريع على جميع ما ذكر من تقويم خلق الإنسان ثم رده أسفل سافلين ; لأن ما بعد الفاء من كلام مسبب عن البيان الذي قبل الفاء ، أي : فقد بان لك أن غير الذين آمنوا هم الذين ردوا إلى أسفل سافلين فمن يكذب منهم بالدين الحق بعد هذا البيان .

و ( ما ) يجوز أن تكون استفهامية ، والاستفهام توبيخي ، والخطاب للإنسان المذكور في قوله : ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) فإنه بعد أن استثني منه الذين آمنوا بقي الإنسان المكذب .

وضمير الخطاب التفات ، ومقتضى الظاهر أن يقال : فما يكذبه ، ونكتة الالتفات هنا أنه أصرح في مواجهة الإنسان المكذب بالتوبيخ .

ومعنى ( يكذبك ) : يجعلك مكذبا ، أي : لا عذر لك في تكذيبك بالدين .

ومتعلق التكذيب : إما محذوف لظهوره ، أي : يجعلك مكذبا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وإما المجرور بالباء ، أي : يجعلك مكذبا بدين الإسلام ، أو مكذبا بالجزاء إن حمل الدين على معنى الجزاء ، وجملة ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) مستأنفة للتهديد والوعيد .

والدين يجوز أن يكون بمعنى الملة أو الشريعة ، كقوله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) وقوله : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا ) .

وعليه تكون الباء للسببية ، أي : فمن يكذبك بعد هذا بسبب ما جئت به من الدين فالله يحكم فيه . ومعنى ( يكذبك ) : ينسبك للكذب بسبب ما جئت به من الدين ، أو ما أنذرت به من الجزاء ، وأسلوب هذا التركيب مؤذن بأنهم لم يكونوا ينسبون النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلى الكذب قبل أن يجيئهم بهذا الدين .

[ ص: 431 ] ويجوز أن يكون الدين بمعنى الجزاء في الآخرة كقوله : ( مالك يوم الدين ) وقوله : يصلونها يوم الدين وتكون الباء صلة ( يكذب ) كقوله : ( وكذب به قومك وهو الحق ) وقوله : ( قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ) .

ويجوز أن تكون ( ما ) موصولة وماصدقها المكذب ، فهو بمعنى ( من ) ، وهي في محل مبتدأ ، والخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - والضمير المستتر في ( يكذبك ) عائد إلى ( ما ) وهو الرابط للصلة بالموصول ، والباء للسببية ، أي : ينسبك للكذب بسبب ما جئت به من الإسلام أو من إثبات البعث والجزاء .

وحذف ما أضيف إليه ( بعد ) فبنيت بعد على الضم ، والتقدير : بعد تبين الحق أو بعد تبين ما ارتضاه لنفسه من أسفل سافلين .

وجملة ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) يجوز أن تكون خبرا عن ( ما ) والرابط محذوف تقديره : بأحكم الحاكمين فيه .

ويجوز أن تكون الجملة دليلا على الخبر المخبر به عن ( ما ) الموصولة وحذف إيجازا اكتفاء بذكر ما هو كالعلة له ، فالتقدير : فالذي يكذبك بالدين يتولى الله الانتصاف منه ، أليس الله بأحكم الحاكمين . والاستفهام تقريري .

و ( أحكم ) يجوز أن يكون مأخوذا من الحكم ، أي : أقضى القضاة . ومعنى التفضيل أن حكمه أسد وأنفذ ، ويجوز أن يكون مشتقا من الحكمة . والمعنى : أنه أقوى الحاكمين حكمة في قضائه بحيث لا يخالط حكمه تفريط في شيء من المصلحة ، ونوط الخبر بذي وصف يؤذن بمراعاة خصائص المعنى المشتق منه الوصف ، فلما أخبر عن الله بأنه أفضل الذين يحكمون ، علم أن الله يفوق قضاؤه كل قضاء في خصائص القضاء وكمالاته ، وهي : إصابة الحق ، وقطع دابر الباطل ، وإلزام كل من يقضي عليه بالامتثال لقضائه والدخول تحت حكمه .

[ ص: 432 ] روى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قرأ منكم ( والتين والزيتون ) فانتهى إلى قوله : ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين " .

التالي السابق


الخدمات العلمية