الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون .

كلام ألقي إليهم بإجمال بالغ غاية الإيجاز ، ليكون جامعا بين الموعظة ، والمعذرة ، والملام . والواو عاطفة أو حالية .

والخطاب للأحياء ، لا محالة ، الذين لم يذوقوا الموت ، ولم ينالوا الشهادة ، والذين كان حظهم في ذلك اليوم هو الهزيمة ، فقوله كنتم تمنون الموت أريد به تمني لقاء العدو يوم أحد ، وعدم رضاهم بأن يتحصنوا بالمدينة ، ويقفوا موقف الدفاع ، كما أشار به الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولكنهم أظهروا الشجاعة وحب اللقاء ، ولو كان فيه الموت ، نظرا لقوة العدو وكثرته ، [ ص: 108 ] فالتمني هو تمني اللقاء ونصر الدين بأقصى جهدهم ، ولما كان ذلك يقتضي عدم اكتراث كل واحد منهم بتلف نفسه في الدفاع ، رجاء أن يكون قبل هلاكه قد أبلى في العدو ، وهيأ النصر لمن بقي بعده ، جعل تمنيهم اللقاء كأنه تمني الموت من أول الأمر ، تنزيلا لغاية التمني منزلة مبدئه .

وقوله من قبل أن تلقوه تعريض بأنهم تمنوا أمرا مع الإغضاء عن شدته عليهم ، فتمنيهم إياه كتمني شيء قد جهلوا ما فيه من المصائب .

وقوله فقد رأيتموه أي رأيتم الموت ، ومعنى رؤيته مشاهدة أسبابه المحققة ، التي رؤيتها كمشاهدة الموت ، فيجوز أن يكون قوله فقد رأيتموه تمثيلا ، ويجوز أن تطلق الرؤية على شدة التوقع ، كإطلاق الشم على ذلك في قول الحارث بن هشام المخزومي :


وشممت ريح الموت من تلقائهم في مأزق والخيل لم تتبدد

وكإطلاقه في قول ابن معدي كرب يوم القادسية : فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت .

والفاء في قوله فقد رأيتموه فاء الفصيحة عن قوله كنتم تمنون والتقدير : وأجبتم إلى ما تمنيتم فقد رأيتموه ، والمعنى : فأين بلاء من يتمنى الموت ، كقول عباس بن الأحنف :


قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا     ثم القفول فقد جئنا خراسانا

ومنه قوله تعالى فقد كذبوكم بما تقولون وقوله في سورة الروم فهذا يوم البعث .

وجملة وأنتم تنظرون حال مؤكدة لمعنى رأيتموه ، أو هو تفريع أي : رأيتم الموت وكان حظكم من ذلك النظر ، دون الغناء في وقت الخطر ، فأنتم [ ص: 109 ] مبهوتون . ومحل الموعظة من الآية : أن المرء لا يطلب أمرا حتى يفكر في عواقبه ، ويسبر مقدار تحمله لمصائبه ، ومحل المعذرة في قوله من قبل أن تلقوه وقوله فقد رأيتموه ومحل الملام في قوله وأنتم تنظرون .

ويحتمل أن يكون قوله تمنون الموت بمعنى تتمنون موت الشهادة في سبيل الله فقد رأيتم مشارفة الموت إياكم ، وأنتم تنظرون من مات من إخوانكم ، أي فكيف وجدتم أنفسكم حين رأيتم الموت ، وكأنه تعريض بهم بأنهم ليسوا بمقام من يتمنى الشهادة . إذ قد جبنوا وقت الحاجة ، وخفوا إلى الغنيمة ، فالكلام ملام محض على هذا ، وليس تمني الشهادة بملوم عليه ، ولكن اللوم على تمني مالا يستطيع كما قيل

إذا لم تستطع شيئا فدعه

. كيف وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولوددت أني أقتل في سبيل الله ، ثم أحيا ثم أقتل ، ثم أحيا ، ثم أقتل . وقال عمر اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وقال ابن رواحة :


لكنني أسأل الرحمن مغفرة     وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي     أرشدك الله من غاز وقد رشدا

وعلى هذا الاحتمال فالضمير راجع إلى الموت ، بمعنى أسبابه ، تنزيلا لرؤية أسبابه منزلة رؤيته ، وهو كالاستخدام ، وعندي أنه أقرب من الاستخدام لأنه عاد إلى أسباب الموت باعتبار تنزيلها منزلة الموت .

التالي السابق


الخدمات العلمية