الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين .

رجوع إلى تسلية المؤمنين ، وتطمينهم ، ووعدهم بالنصر على العدو . والإلقاء حقيقته رمي شيء على الأرض فألقوا حبالهم وعصيهم ، أو في الماء فألقيه في اليم ويطلق على الإفضاء بالكلام يلقون السمع وعلى حصول الشيء في النفس كأن ملقيا ألقاه أي من غير سبق تهيؤ وألقينا العداوة والبغضاء وهو هنا مجاز في الجعل والتكوين كقوله وقذف في قلوبهم الرعب .

والرعب : الفزع من شدة خوف ، وفيه لغتان الرعب - بسكون العين - والرعب - بضم العين - وقرأه الجمهور - بسكون العين - وقرأه ابن عامر ، والكسائي - بضم العين -

والباء في قوله بما أشركوا بالله للعوض وتسمى باء المقابلة مثل قولهم : هذه بتلك ، وقوله تعالى جزاء بما كسبا ، وهذا جزاء دنيوي رتبه [ ص: 124 ] الله تعالى على الإشراك به ، ومن حكمته تعالى أن رتب على الأمور الخبيثة آثارا خبيثة ، فإن الشرك لما كان اعتقاد تأثير من لا تأثير له ، وكان ذلك الاعتقاد يرتكز في نفوس معتقديه على غير دليل ، كان من شأن معتقده أن يكون مضطرب النفس متحيرا في العاقبة في تغلب بعض الآلهة على بعض ، فيكون لكل قوم صنم هم أخص به ، وهم في تلك الحالة يعتقدون أن لغيره من الأصنام مثل ما له من القدرة والغيرة . فلا تزال آلهتهم في مغالبة ومنافرة . كما لا يزال أتباعهم كذلك ، والذين حالهم كما وصفنا لا يستقر لهم قرار في الثقة بالنصر في حروبهم ، إذ هم لا يدرون هل الربح مع آلهتهم أم مع أضدادها ، وعليه فقوله ما لم ينزل به سلطانا صلة أجريت على المشرك به ليس القصد بها تعريف الشركاء ، ولكن قصد بها الإيماء إلى أنه من أسباب إلقاء الرعب في قلوبهم ، إذ هم على غير يقين فيما أشركوا واعتقدوا ، فقلوبهم وجلة متزلزلة ، إذ قد علم كل أحد أن الشركاء يستحيل أن ينزل بهم سلطان . فإن قلت : ما ذكرته يقتضي أن الشرك سبب في إلقاء الرعب في قلوب أهله ، فيتعين أن يكون الرعب نازلا في قلوبهم من قبل هذه الوقعة ، والله يقول ( سنلقي ) أي في المستقبل ، قلت : هو كذلك إلا أن هذه الصفات تستكن في النفوس حتى يدعو داعي ظهورها ، فالرعب والشجاعة صفتان لا تظهران إلا عند القتال ، وتقويان وتضعفان ، فالشجاع تزيد شجاعته بتكرر الانتصار ، وقد ينزوي قليلا إذا انهزم ثم تعود له صفته سرعى . كما وصفه عمرو بن الإطنابة في قوله :


وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي

وقول الحصين بن الحمام :


تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد     لنفسي حياة مثل أن أتقدما

وكذلك الرعب والجبن قد يضعف عند حصول بارقة انتصار ، فالمشركون لما انهزموا بادئ الأمر يوم أحد ، فلت عزيمتهم ، ثم لما ابتلى الله المؤمنين بالهزيمة راجعهم شيء من الشجاعة والازدهاء ، ولكنهم بعد انصرافهم [ ص: 125 ] عاودته صفاتهم ،

وتأبى الطباع على الناقل

. فقوله ( سنلقي ) أي إلقاء إعادة الصفة إلى النفوس ، ولك أن تجعل السين فيه لمجرد التأكيد أي ألقينا ونلقي ، ويندفع الإشكال .

وكثير من المفسرين ذكروا أن هذا الرعب كانت له مظاهر : منها أن المشركين لما انتصروا على المسلمين كان في مكنتهم أن يوغلوا في استيصالهم إلا أن الرعب صدهم عن ذلك ، لأنهم لما انصرفوا قاصدين الرجوع إلىمكة عن لهم في الطريق ندم ، وقالوا : لو رجعنا فاقتفينا آثار محمد وأصحابه ، فإنا قتلناهم ولم يبق إلا الفل والطريد ، فلنرجع إليهم حتى نستأصلهم ، وبلغ ذلك النبيء - صلى الله عليه وسلم - فندب المسلمين إلى لقائهم ، فانتدبوا ، وكانوا في غاية الضعف ومثقلين بالجراحة ، حتى قيل : إن الواحد منهم كان يحمل الآخر ثم ينزل المحمول فيحمل الذي كان حامله ، فقيض الله معبد بن أبي معبد الخزاعي وهو كافر فجاء إلى رسول الله فقال إن خزاعة قد ساءها ما أصابك ولوددنا أنك لم ترزأ في أصحابك ثم لحق معبد بقريش فأدركهم بالروحاء قد أجمعوا الرجعة إلى قتال المسلمين فقال له أبو سفيان : ما وراءك يا معبد ، قال : محمد وأصحابه قد خرجوا يطلبونكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه ، فقال : ويلك ، ما تقول ؟ قال : ما أرى أنك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل ولقد حملني ما رأيت منه على أن قلت فيه :


كادت تهد من الأصوات راحلتي     إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابلة     عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت أعدو أظن الأرض مائلة     لما سموا برئيس غير مخذول

فوقع الرعب في قلوب المشركين وقال صفوان بن أمية : لا ترجعوا فإني أرى أنه سيكون للقوم قتال غير الذي كان .

[ ص: 126 ] وقوله ما لم ينزل به سلطانا أي ما لا سلطان له . والسلطان : الحجة والبرهان لأنه يتسلط على النفس ، ونفي تنزيله وأريد نفي وجوده ، لأنه لو كان لنزل أي لأوحى الله به إلى الناس ، لأن الله لم يكتم الناس الإرشاد إلى ما يجب عليهم من اعتقاد على ألسنة الرسل ، فالتنزيل إما بمعنى الوحي ، وإما بمعنى نصب الأدلة عليه كقولهم : نزلت الحكمة على ألسنة العرب وعقول الفرس وأيدي الصين ، ولما كان الحق لا يعدو هذين الحالين : لأنه إما أن يعلم بالوحي ، أو بالأمارات ، كان نفي تنزيل السلطان على الإشراك كناية عن نفي السلطان نفسه ، كقول الشاعر الذي لا يعرف اسمه :


لا تفزع الأرنب أهوالها     ولا ترى الضب بها ينجحر

وقوله ومأواهم النار ذكر عقابهم في الآخرة . والمأوى مفعل من أوى إلى كذا إذا ذهب إليه ، والمثوى مفعل من ثوى إذا أقام ، فالنار مصيرهم ومقرهم والمراد المشركون .

التالي السابق


الخدمات العلمية