الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2853 [ ص: 57 ] 107 - باب: التوديع

                                                                                                                                                                                                                              2954 - وقال ابن وهب : أخبرني عمرو، عن بكير، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث، وقال لنا: "إن لقيتم فلانا وفلانا - لرجلين من قريش سماهما - فحرقوهما بالنار". قال: ثم أتيناه نودعه حين أردنا الخروج فقال: "إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما". [3016 - فتح: 6 \ 115]

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن وهب : أخبرني عمرو، عن بكير، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة قال: بعثنا رسول - صلى الله عليه وسلم - في بعث، وقال لنا: "إن لقيتم فلانا وفلانا - لرجلين من قريش سماهما - فحرقوهما بالنار". قال: ثم أتيناه نودعه حين أردنا الخروج، فقال: "إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما".

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              هذا التعليق أسنده فيما سيأتي عن قتيبة، عن الليث، عن بكير، وأسنده النسائي أيضا عن الحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى، كلاهما عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث وذكر آخر؛ كلاهما عن بكير، وقال الإسماعيلي : حدثنا الحسن بن سفيان، ثنا حرملة، أنبأنا عبد الله بن وهب، وأخبرني خزيمة، ثنا يونس وابن عبد الحكم، قالا: ثنا ابن وهب فذكره.

                                                                                                                                                                                                                              قال الترمذي : وقد ذكر محمد بن إسحاق بين سليمان وأبي هريرة رجلا في هذا الحديث، وحديث الليث أشبه وأصح.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 58 ] وسمى ابن شاهين الرجل: أنا [أبو] إسحاق الدوسي، وهو مجهول. وفي الباب مثله من طرق: إحداها: عن ابن عباس، أخرجه البخاري فيما سيأتي من حديث عكرمة عنه، وبلغه أن عليا حرق قوما فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يعذب بعذاب الله"، ولقتلتهم لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "من بدل دينه فاقتلوه". زاد الإسماعيلي عن عمار الدهني: لم يحرقهم ولكن حفر لهم حفائر وخرق بعضها إلى بعض ثم دخن عليهم حتى ماتوا. قال عمرو بن دينار : فقال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                              لترم بي المنايا حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين إذا ما أججوا حطبا ونارا
                                                                                                                                                                                                                              هناك الموت نقدا غير دين



                                                                                                                                                                                                                              وعند العقيلي فقال علي يوم ذاك:


                                                                                                                                                                                                                              لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا



                                                                                                                                                                                                                              قال: وكانوا قالوا لعلي : أنت إلهنا.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: عن حمزة الأسلمي أخرجه أبو داود أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره على سرية وقال: "إن وجدتم فلانا فأحرقوه بالنار" فوليت، فناداني وقال: "إن وجدتموه فاقتلوه ولا تحرقوه، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار" وأخرجه الحازمي من حديث المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن محمد بن مرة الأسلمي، عن أبيه أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره على سرية، فذكر مثله، وكأنه تصحف حمزة بمرة، ولابن شاهين من حديث [ ص: 59 ] كاتب الليث عنه، عن عمر بن عيسى، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، عن عمر أنه جاءته جارية فقالت: إن زوجي أقعدني على النار حتى أحرق فرجي، فقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حرق بالنار أو مثل به فهو حر وهو مولى الله ورسوله". ولأبي داود من حديث ابن مسعود : رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قرية نمل قد حرقناها فقال: "إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار". ولا يخالفه الحديث الآتي: "إن نبيا من الأنبياء قرصته نملة فأمر بقرية النمل فأحرقت، فقال الله له: هلا نملة واحدة؟ ".

                                                                                                                                                                                                                              قال الحكيم في "نوادره": هو إذن في إحراقها؛ لأنه إذا جاز إحراق واحدة جاز في غيرها.

                                                                                                                                                                                                                              ولابن شاهين، عن ابن بريدة، عن أبيه أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا إلى رجل كذب عليه في حكم حكمه وفي امرأة واقعها. فقال: "إن وجدته ميتا فحرقه بالنار" فوجده لدغ فمات فحرقه، وعن سعيد بن عبد العزيز أن أبا بكر لما ارتدت أم قرفة شد رجليها بفرسين ثم صاح بهما فشقاها.

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك؛ فما ترجم له واضح، وهو من الشأن المعلوم في البعوث والأسفار البعيدة توديع الرؤساء والأئمة ومن يرجى بركة دعوته واستصحاب فضله.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 60 ] ثانيها: الرجلان المذكوران في حديث الباب: هبار بن الأسود القرشي الذي روع زينب بنت رسول - صلى الله عليه وسلم - حتى ألقت ذا بطنها، والثاني: نافع بن عبد القيس، ووقع لابن القسطلاني : ابن عبد عمرو، وقال ابن الجوزي في حديث حمزة : أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسله إلى رجل من عذرة هو هبار.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: بوب البخاري فيما سيأتي في باب لا يعذب بعذاب الله.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: كما قال ابن العربي : نسخ الحكم قبل العمل به، ومنع منه المبتدعة والقدرية، وسيأتي هناك إيضاحه.

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب في غير هذا الباب: ليس نهيه عن التحريق بالنار على معنى التحريم، وإنما هو على سبيل التواضع فإنه سمل أعين الرعاة بالنار في مصلى المدينة بحضرة الصحابة، وتحريق علي الخوارج بالنار، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون على أهلها بالنار، وقول أكثرهم بتحريق المراكب.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي : فيه احتمال أن يقتل الكافر بالنار وأن الأفضل ألا يقتل بها، والذي في المذهب أن ذلك لا يفعل اختيارا؛ فإن كانوا في حصن وهم مقاتلة وليس معهم مسلمون ولا نساء ولا صبيان، فقال مالك في "المدونة": يحرقون. وقال سحنون : لا. وروي عن ابن القاسم أنه مكروه، زاد عيسى عنه: وكذلك في التدخين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 61 ] قال: واختلف فيمن حرق رجلا بالنار هل يحرق بها؟ قال الداودي : أمره بالإحراق كان فيما يجوز له، غير أنه رجع إلى الأفضل.

                                                                                                                                                                                                                              تنبيه: قوله لابن عمرو : "إني لا أقول في الغضب والرضى إلا حقا" وإلى ذلك ذهب علي كما سلف قال: وقيل: يكره لهذا قتل القملة والبرغوث بالنار . وقال الحازمي : ذهبت طائفة إلى منع الإحراق في الحدود وقالوا: يقتل بالسيف. وإليه ذهب أهل الكوفة والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، ومن الحجازيين عطاء، وذهبت طائفة في حق المرتد إلى مذهب علي، وقالت طائفة: من حرق يحرق، وبه قال مالك وأهل المدينة والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف العلماء في استتابة المرتدين، فروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود : نعم، فإن لم يتب قتل، وعليه الجمهور، وقالت طائفة: لا يستتاب ويجب قتله حين يرتد، منهم: عبيد بن عمير والحسن وطاوس وأبو يوسف وأهل الظاهر . وقال عطاء : إن كان أصله مسلما فإنه لا يستتاب، وإن كان مشركا فأسلم ثم ارتد فإنه يستتاب. وعن علي : لا تستتاب المرتدة وتسترق . وقال به عطاء، وقال ابن عباس : لا تقتل ولكن تحبس وتجبر، والجمهور على أنه لا فرق بين الرجال والنساء في الاستتابة، فإن لم تتب، فقالت طائفة منهم الأوزاعي وأحمد وإسحاق : تقتل، وقالت طائفة: تحبس ولا تقتل، وهو قول الثوري وغيره من الكوفيين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 62 ] واختلف القائلون بالاستتابة، فقيل: يستتاب ثلاثة أيام، وهو قول للشافعي والآخر في الحال، فإن تاب وإلا قتل؛ وهو الأصح، وقال الزهري : يستتاب ثلاث مرات. وعن علي : يستتاب شهرا. وقال النخعي والثوري : يستتاب أبدا. وقيل: يستتاب ثلاث مرات أو ثلاث جمع أو ثلاثة أيام، مرة في كل يوم أو جمعة، حكي هذا عن أبي حنيفة، وسيأتي إيضاحه في الحدود.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية