الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير .

عطف على ( ولا يحسبن الذين كفروا ) ، لأن الظاهر أن هذا أنزل في شأن أحوال المنافقين ، فإنهم كانوا يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، كما حكى الله [ ص: 181 ] عنهم في سورة النساء بقوله الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل وكانوا يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ، وغير ذلك ، ولا يجوز بحال أن يكون نازلا في شأن بعض المسلمين لأن المسلمين يومئذ مبرءون من هذا الفعل ومن هذا الحسبان ، ولذلك قال معظم المفسرين : إن الآية نزلت في منع الزكاة ، أي فيمن منعوا الزكاة ، وهل يمنعها يومئذ إلا منافق . ولعل مناسبة ذكر نزول هذه الآية هنا أن بعضهم منع النفقة في سبيل الله في غزوة أحد . ومعنى حسبانه خيرا أنهم حسبوا أن قد استبقوا مالهم وتنصلوا عن دفعه بمعاذير قبلت منهم .

أما شمولها لمنع الزكاة ، فإن لم يكن بعموم صلة الموصول إن كان الموصول للعهد لا للجنس ، فبدلالة فحوى الخطاب .

وقرأ الجمهور : ولا يحسبن الذين يبخلون بياء الغيبة ، وقرأه حمزة بتاء الخطاب كما تقدم في نظيره . وقرأ الجمهور : تحسبن - بكسر السين ، وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم بفتح السين .

وقوله هو خيرا لهم قال الزمخشري هو ضمير فصل ، وقد يبنى كلامه على أن ضمير الفصل لا يختص بالوقوع مع الأفعال التي تطلب اسما وخبرا ، ونقل الطيبي عن الزجاج أنه قال : زعم سيبويه أنه إنما يكون فصلا مع المبتدأ والخبر ، يعني فلا يصح أن يكون هنا ضمير فصل ولذلك حكى أبو البقاء فيه وجهين : أحدهما أن يكون هو ضميرا واقعا موقع المفعول الأول على أنه من إنابة ضمير الرفع عن ضمير النصب ، ولعل الذي حسنه أن المعاد غير مذكور فلا يهتدى إليه بضمير النصب ، بخلاف ضمير الرفع لأنه كالعمدة في الكلام ، وعلى كل تقدير فالضمير عائد على البخل المستفاد من يبخلون ، مثل اعدلوا هو أقرب للتقوى ، ومثل قوله :


إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف

ثم إذا كان ضمير فصل فأحد مفعولي حسب محذوف اختصارا لدلالة [ ص: 182 ] ضمير الفصل عليه ، فعلى قراءة الفوقية فالمحذوف مضاف حل المضاف إليه محله ، أي لا تحسبن الذين يبخلون خيرا ، وعلى قراءة التحتية : ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم خيرا .

والبخل - بضم الباء وسكون الخاء - ويقال : بخل بفتحهما ، وفعله في لغة أهل الحجاز مضموم العين في الماضي والمضارع . وبقية العرب تجعله بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ، وبلغة غير أهل الحجاز جاء القرآن لخفة الكسرة والفتحة ولذا لم يقرأ إلا بها . وهو ضد الجود ، فهو الانقباض على إعطاء المال بدون عوض ، هذا حقيقته ، ولا يطلق على منع صاحب شيء غير مال أن ينتفع غيره بشيئه بدون مضرة عليه إلا مجازا ، وقد ورد في أثر عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - البخيل الذي أذكر عنده فلا يصلي علي ويقولون : بخلت العين بالدموع ، ويرادف البخل الشح ، كما يرادف الجود السخاء والسماح .

وقوله بل هو شر لهم تأكيد لنفي كونه خيرا ، كقول امرئ القيس :

وتعطو برخص غير شئن . . .

وهذا كثير في كلام العرب ، على أن في هذا المقام إفادة نفي توهم الواسطة بين الخير والشر .

وجملة ( ( سيطوقون ) ) واقعة موقع العلة لقوله بل هو شر لهم . " ويطوقون " يحتمل أنه مشتق من الطاقة ، وهي تحمل ما فوق القدرة أي سيحملون ما بخلوا به ، أي يكون عليهم وزرا يوم القيامة ، والأظهر أنه مشتق من الطوق ، وهو ما يلبس تحت الرقبة فوق الصدر ، أي تجعل أموالهم أطواقا يوم القيامة فيعذبون بحملها ، وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم - : من اغتصب شبرا من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة . والعرب يقولون في أمثالهم : تقلدها ( أي الفعلة الذميمة ) طوق الحمامة . وعلى كلا الاحتمالين فالمعنى أنهم يشهرون بهذه المذمة بين أهل المحشر ، ويلزمون عقاب ذلك . وقوله ولله ميراث السماوات والأرض تذييل لموعظة الباخلين وغيرهم : بأن المال مال الله ، وما من بخيل إلا سيذهب ويترك ماله ، والمتصرف [ ص: 183 ] في ذلك كله هو الله ، فهو يرث السماوات والأرض ، أي يستمر ملكه عليهما بعد زوال البشر كلهم المنتفعين ببعض ذلك ، وهو يملك ما في ضمنها تبعا لهما ، وهو عليم بما يعمل الناس من بخل وصدقة ، فالآية موعظة ووعيد ووعد لأن المقصود لازم قوله ( خبير ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية