الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ) : بفتح النون ، والمد كما في جامع الأصول ، واقتصر عليه المصنف ، وبالقصر كما في طبقات الفقهاء نسبة إلى بلد بخراسان قريب مرو ، وأما ما ذكره ابن حجر أنه من كور نيسابور ، أو من أرض فارس فغير صحيح . أحد الأئمة الحفاظ ، سمع من : إسحاق بن راهويه ، وسليمان بن أشعث ، ومحمود بن غيلان وقتيبة بن سعيد ، ومحمد بن بشار ، وعلي بن حجر ، وأبي داود ، وآخرين ببلاد كثيرة ، وأقاليم متعددة ، وأخذ عنه خلق كثيرون : كالطبراني ، والطحاوي ، وابن السني ، ودخل دمشق فسئل عن معاوية ففضل عليه عليا ; فأخرج من المسجد ، وحمل إلى الرملة ، ومات بها ، وقيل : إلى مكة ، ودفن بها بين الصفا ، والمروة . وجرى عليه بعض الحفاظ فقال : مات ضربا بالأرجل من أهل الشام حين أجابهم لما سألوه عن فضائل معاوية ليرجحوه بها على علي بقوله : ألا يرضى معاوية رأسا برأس حتى يفضل . وفي رواية : ما أعرفه إلا أشبع الله بطنه ، وما زالوا يضربونه بأرجلهم حتى أخرج من المسجد ، ثم حمل إلى مكة فمات مقتولا شهيدا . وقال الدارقطني : إن ذلك كان بالرملة ، وكذا قال العبدري : إنه مات بالرملة بمدينة فلسطين ، ودفن بالبيت المقدس ، وسنه ثمان وثمانون سنة فيما قاله الذهبي ، ومن تبعه ، وجزم المصنف بأنه مات بمكة سنة ثلاث وثلاثمائة ، وهو مدفون بها . ونقل التاج السبكي عن شيخه الحافظ الذهبي ، ووالده الشيخ الإمام السبكي أن النسائي أحفظ من مسلم صاحب الصحيح ، وأن سننه أقل السنن بعد الصحيحين حديثا ضعيفا ، بل قال بعض الشيوخ : إنه أشرف المصنفات كلها ، وما وضع في الإسلام مثله . وقد قال ابن منده ، وابن السكن ، وأبو علي النيسابوري ، وأبو أحمد بن عدي ، والخطيب ، والدارقطني : كل ما فيه صحيح ، لكن فيه تساهل صريح . وشذ بعض المغاربة ففضله على كتاب البخاري ، ولعله لبعض الحيثيات الخارجة عن كمال الصحة ، والله تعالى أعلم .

قال السيد جمال الدين : صنف في أول الأمر كتابا يقال له : السنن الكبير للنسائي ، وهو كتاب جليل ، لم يكتب مثله في جمع طرق الحديث ، وبيان مخرجه ، وبعده اختصره ، وسماه بالمجتنى بالنون ; وسبب اختصاره أن أحدا من أمراء زمانه سأله إن جميع أحاديث كتابك صحيح ؟ فقال في جوابه : لا ، فأمره الأمير بتجريد الصحاح ، وكتابة صحيح مجرد ; فانتخب منه المجتنى ، وكل حديث تكلم في إسناده أسقطه منه ، فإذا أطلق المحدثون بقولهم : رواه النسائي فمرادهم هذا المختصر المسمى بالمجتنى لا الكتاب الكبير ، وكذا إذا قالوا : الكتب الخمسة ، أو أصول الخمسة فهي : البخاري ، ومسلم ، وسنن أبي داود ، وجامع الترمذي ، ومجتنى النسائي .

[ ص: 27 ] ( وأبي عبد الله محمد بن يزيد ، ابن ماجه ) : بإثبات ألف ابن خطا ; فإنه بدل من ابن يزيد ، ففي القاموس : ماجه لقب والد محمد بن يزيد صاحب السنن لا جده ، وفي شرح الأربعين أن ماجه اسم أمه ( القزويني ) : بفتح القاف نسبة إلى بلد معروف ، وهو الإمام الحافظ صاحب السنن التي كمل به الكتب الستة ، والسنن الأربعة بعد الصحيحين . قال الحافظ ابن حجر : وأول من أضاف ابن ماجه إلى الخمسة الفضل بن طاهر حيث أدرجه معها في أطرافه ، وكذا في شروط الأئمة الستة ، ثم الحافظ عبد الغني في كتاب الإكمال في أسماء الرجال الذي هذبه الحافظ المزي ، وقدموه على الموطأ ; لكثرة زوائده على الخمسة بخلاف الموطأ ، وهو كما قاله ابن الأثير : كتاب مفيد قوي التبويب في الفقه ، لكن فيه أحاديث ضعيفة جدا بل منكرة . بل نقل عن الحافظ المزي أن الغالب فيما انفرد به الضعف ، ولذا لم يضفه غير واحد إلى الخمسة ، بل جعلوا السادس الموطأ منهم : رزين ، والمجد ابن الأثير . وقال العسقلاني : ينبغي أن يجعل مسند الدارمي سادسا للخمسة بدله ; فإنه قليل الرجال الضعفاء نادر الأحاديث المنكرة ، والشاذة ، وإن كان فيه أحاديث مرسلة ، وموقوفة ، فهو مع ذلك أولى منه . توفي في رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين ، وله من العمر أربع وستون سنة سمع أصحاب مالك ، والليث . وروى عنه أبو الحسن القطان ، وخلق سواه ، وله ثلاثيات من طريق جبارة بن المغلس ، وله حديث في فضل قزوين أورده في سننه ، وهو منكر بل موضوع ، ولذا طعن فيه ، وفي كتابه .

( وأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن ) : السمرقندي التميمي ( الدارمي ) : بكسر الراء نسبة إلى دارم بن مالك بطن كبير من تميم ، وهو الإمام الحافظ عالم سمرقند صنف التفسير ، والجامع ، ومسنده المشهور ، وهو على الأبواب لا الصحابة خلافا لمن وهم فيه . روى عن : البخاري ، ويزيد بن هارون ، والنضر بن شميل ، وغيرهم . وقال : رأيت العلماء بالحرمين ، والحجاز ، والشام ، والعراق فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل البخاري . وروى عنه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وغيرهم . قال أبو حاتم : هو إمام أهل زمانه توفي يوم التروية ، ودفن يوم عرفة سنة خمس وخمسين ومائتين ، وولد سنة إحدى وثمانين ومائة ، وله من العمر أربع وسبعون سنة ، وله خمسة عشر حديثا هي ثلاثيات .

( وأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني ) : بفتح الراء ، ويسكن ، وبضم القاف ، وسكون الطاء بعده نون نسبة لدار القطن ، وكانت محلة كبيرة ببغداد ، وهو إمام عصره ، وحافظ دهره صاحب السنن ، والعلل ، وغيرهما ، انتهى إليه علم الأثر ، والمعرفة بعلل الحديث ، وأسماء الرجال ، وأحوال الرواة مع الصدق ، والأمانة ، والثقة ، والعدالة ، وصحة الاعتقاد ، والتضلع بعلوم شتى : كالقراءة ، وله فيها كتاب لم يسبق إلى مثله . أخذ عنه الأئمة : كأبي نعيم ، والحاكم أبي عبد الله النيسابوري ، والبرقاني ، والشيخ أبي حامد الإسفراييني ، والقاضي أبي الطيب الطبري ، والجوهري ، وغيرهم . ولد سنة خمس وثلاثمائة ، ومات ببغداد سنة خمس وثمانين وثلاثمائة .

( وأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ) : نسبة لبيهق على وزن صيقل بلد قرب نيسابور ، وهو الإمام الجليل الحافظ الفقيه الأصولي الزاهد الورع ، وهو أكبر أصحاب الحاكم أبي عبد الله . وقد أخذ عن ابن فورك ، وأبي عبد الرحمن السلمي . روي أنه اجتمع جمع كثير من العلماء في مجلس الحاكم أبي عبد الله ، وقد ترك الحاكم راويا من إسناد حديث ; فنبه عليه البيهقي ; فتغير الحاكم ; فقال البيهقي : لا بد من الرجوع إلى الأصل ، فحضر الأصل ; فكان كما قال البيهقي . رحل إلى الحجاز ، والعراق ، ثم اشتغل بالتصنيف بعد أن صار واحد زمانه ، وفارس ميدانه . وألف كتابه السنن الكبرى ، وكتاب المبسوط في نصوص الشافعي ، وكتاب معرفة السنن والآثار ، وقيل : وصل تصانيفه إلى ألف جزء ، ومن تصانيفه : دلائل النبوة ، وكتاب البعث والنشور ، وكتاب الآداب ، وكتاب فضائل [ ص: 28 ] الصحابة ، وفضائل الأوقات ، وكتاب شعب الإيمان ، وكتاب الخلافيات ، وكان له غاية الإنصاف في المناظرة ، والمباحثة ، وكان على سيرة العلماء قانعا من الدنيا باليسير ، متجملا في زهده ، وورعه ، صائم الدهر قبل موته بثلاثين سنة . قال إمام الحرمين : ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منة إلا البيهقي فإنه له على الشافعي منة ; لتصانيفه في نصرة مذهبه ، وأقاويله . توفي بنيسابور سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ، وحمل تابوته إلى قرية من ناحية بيهق ، وله من العمر أربع وسبعون سنة . قيل : مولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة .

( وأبي الحسن رزين ) : بفتح الراء ، وكسر الزاي ( بن معاوية العبدري ) : بفتح العين المهملة ، وسكون الموحدة ، وفتح الدال المهملة ، وبالراء المخففة ، منسوب إلى عبد الدار بن قصي بطن من قريش ، وهو الحافظ الجليل صاحب كتاب التجريد في الجمع بين الصحاح . مات بعد العشرين وخمسمائة . ( وغيرهم ) : بالجر عطفا على أبي عبد الله ، وقيل : بالرفع عطفا على ( مثل ) ، ( وقليل ما ) : ما : زائدة إبهامية تزيد الشيوع ، والمبالغة في القلة ( هو ) أي : غيرهم ، والإفراد للفظ غيرهم ، وهو مبتدأ خبره قليل ، ونظيره : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ) . فلما انتهى الكلام على آخر الرجال المذكورين ، والأئمة المشهورين سنح بالخاطر الفاتر ما ذكره السادات الصوفية أرباب الهداية : أن النهاية هي الرجوع إلى البداية ; فأنتج أن أختم ذكرهم بمناقب الإمام الأعظم ، والهمام الأقدم ; ليكون كمسك الختام ، وقد ذكره المؤلف أيضا في أسماء رجاله راجيا حصول بركة كماله ، لكن بعد ذكر الإمام مالك ، وأورد اعتذارا عن ذلك بقوله : وقد بدأنا بذكره ؛ لأنه المقدم زمانا ، وقدرا ، ومعرفة ، وعلما . قلت : كل ذلك بالنسبة إلى إمامنا غير صحيح ، أما تقدم زمان أبي حنيفة عليه فصريح إذ ولد مالك سنة خمس وتسعين ، وولد أبو حنيفة سنة ثمانين ، وأما تقدم قدره على أبي حنيفة فمردود ; لأنه من أتباع التابعين ، وإمامنا من التابعين كما ذكره السيوطي ، وغيره . وقد ورد في الحديث النبوي : " خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " ، وأما معرفته فمعروفة ; لأنها عمت الخلق شرقا ، وغربا سيما في بلاد ما وراء النهر ، وولاية الهند ، والروم ، فإنهم لا يعرفون إماما غيره ، ولا يعلمون مذهبا سوى مذهبه . وبالجملة ، فأتباعه أكثر من أتباع جميع الأئمة من علماء الأمة ، كما أن أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من أتباع سائر الأنبياء ، وقد ورد أنهم ثلثا أهل الجنة ، والحنفية أيضا تجيء ثلثي المؤمنين ، والله أعلم ، وأما علمه فيكفي ما قال الشافعي في حقه : الخلق كلهم عيال أبي حنيفة في الفقه ، والعذر في كثرة اشتغاله بالأمور الفقهية من المسائل الفرعية ، والدلائل الأصولية أنه رأى أنه الأهم ، واحتياج الناس إليه أتم ، وهو في الحقيقة اشتغال بالمعنى المعبر عنه بالدراية ، وهو مفضل على التعلق بالمبنى الذي يقال له الرواية ، وهذا فاق على أقرانه من المحدثين ، وغيرهم . وقد سأله الأوزاعي عن مسائل ، وأراد البحث معه بوسائل ; فأجاب على وجه الصواب فقال له الأوزاعي : من أين هذا الجواب ؟ فقال : من الأحاديث التي رويتموها ، ومن الأخبار ، والآثار التي نقلتموها ، وبين له وجه دلالاتها ، وطريق استنباطها ; فأنصف الأوزاعي ، ولم يتعسف فقال : نحن العطارون ، وأنتم الأطباء ، أي : العارفون بالداء ، والدواء . وأيضا كان عنده أن نقل الحديث الشريف لا يجوز إلا باللفظ دون المعنى ، فبهذا الاعتبار يقل التحديث بالمبنى مع أن له مسانيد متعددة ، وأسانيد معتمدة يعرفها أهل الخبرة ، ويحكمون عليه بأنه من أهل النصرة ، ثم يدل على علو سنده أنه روى الشافعي في مسنده عن محمد بن الحسن ، عن أبي يوسف ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ، ولا يوهب " كذا ذكره التميمي شارح النقاية في فصل الولاء ، وذكر الإمام النووي في تهذيب الأسماء نقلا عن [ ص: 29 ] الخطيب البغدادي أن الإمام الشافعي روى عن محمد بن الحسن . وقال الفاضل تلميذ الإمام ابن الهمام في شرح التحرير ، ذكر أصحاب الشافعي ، وغيرهم أنه قال الشافعي : حملت عن محمد بن الحسن ، وقري بختي كتبا . وقال أبو إسحاق في الطبقات : روى الربيع قال : كتب الشافعي إلى محمد بن الحسن ، وقد طلب منه كتبا ينسخها فأخرها عنه :


قل للذي لم تر عينا من رآه مثله مثله ومن كان من رآه قد رأى من قبله

    العلم ينهى أهله أن يمنعوه أهله
لعله يبذله لأهله لعله



وفي الحقائق شرح المنظومة قال الشافعي : الحمد لله الذي أعانني على الفقه بمحمد بن الحسن . انتهى . محمد له الرواية عن أبي حنيفة ، ومالك كما يدل عليه موطأ الإمام محمد ، ولما ذكر شيخنا العالم العلامة ، والبحر الفهامة ، شيخ الإسلام ، ومفتي الأنام ، صاحب التصانيف الكثيرة ، والتآليف الشهيرة ، مولانا ، وسيدنا ، وسندنا الشيخ شهاب الدين ابن حجر المكي - مناقب الإمام مالك ، وأحمد بن حنبل ، والشافعي في شرح المشكاة ، قال : تعين علينا إذ ذكرنا تراجم هؤلاء الأئمة الثلاثة أن نختم لرابعهم المقدم عليهم تبركا به ، لعلو مرتبته ، ووفور علمه ، وورعه ، وزهده ، وتحليته بالعلوم الباطنة فضلا عن الظاهرة بما فاق فيه أهل عصره ، وفاز بحسن الثناء عليه ، وإذاعة ذكره ، وهو الإمام الأعظم فقيه أهل العراق ، ومن أكابر التابعين أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى بضم الزاي ، وفتح الطاء ابن ماه مولى تيم الله بن ثعلبة الكوفي . وروى الخطيب بإسناده عن حفيده عمر بن حماد بن أبي حنيفة : أن ثابتا ولد على الإسلام ، وزوطى كان مملوكا لبني تيم فأعتقوه فصار ولاؤه لهم . وأنكر إسماعيل أخو عمر المذكور - حفيده أيضا ابن حماد بن أبي حنيفة - ذلك ، وقال : إن والد ثابت من أبناء فارس ، وأنهم أحرار ، والله ما وقع علينا رق قط ، ولد جدي سنة ثمانين . وذهب بثابت أبيه إلى علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - ، وهو صغير ; فدعا له بالبركة فيه ، وفي ذريته ، ونحن نرجو من الله أن يكون ذلك قد استجيب من علي فينا ! اهـ .

وهو كما رجا ; فقد بارك الله في أبي حنيفة بركة لا نهاية لأقصاها ، ولا غاية لمنتهاها ، وبارك في أتباعه فكثروا في سائر الأقطار ، وظهر عليهم من بركة صدقه ، وإخلاصه ما اشتهر به في سائر الأمصار . أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان ، وأدرك أربعة من الصحابة بل ثمانية منهم : أنس ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وسهل بن سعد ، وأبو الليل . قيل : ولم يلق أحدا منهم . قلت : لكن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، والمثبت مقدم على النافي . وسمع من عطاء ، وأهل طبقته . روى عنه : عبد الله بن المبارك ، ووكيع بن الجراح ، وخلائق لا يحصون . وهو من أهل الكوفة ، وكان يزيد بن هبيرة واليا على العراق لبني أمية فكلمه في أن يلي له قضاء الكوفة ; فأبى عليه ; فضربه مائة سوط في كل يوم عشرة أسواط ، وهو مصمم على الامتناع ، فلما رأى ذلك منه خلى سبيله . وكان الإمام أحمد إذا ذكر ضربه على القضاء ، وامتناعه منه بكى ، وترحم عليه ، قلت : وكأنه اقتدى به في تحمل ضربه في مسألة خلق القرآن . واستدعاه المنصور أبو جعفر أمير المؤمنين من الكوفة إلى بغداد ليوليه القضاء فأبى ، فحلف عليه ليفعلن ، فحلف أبو حنيفة أنه لا يفعل ، وتكرر هذا منهما ; فقال الربيع الحاجب : ألا ترى أمير المؤمنين يحلف ؟ قال أبو حنيفة : أمير المؤمنين على كفارة أيمانه أقدر مني على كفارة أيماني ; فأمر به إلى السجن في الوقت . وفي رواية : دعاه أبو جعفر إلى القضاء فأبى فحبسه ، ثم دعا به فقال : أترغب عما نحن فيه ؟ فقال : أصلح الله أمير المؤمنين ; لا أصلح للقضاء ; فقال له : كذبت ، ثم عرض عليه فقال أبو حنيفة : قد حكم علي أمير المؤمنين أن لا أصلح للقضاء ;

[ ص: 30 ] لأنه نسبني إلى الكذب ، فإن كنت كاذبا فلا أصلح ، وإن كنت صادقا فقد أخبرت أني لا أصلح فرده إلى السجن ، فقال الربيع بن يونس : رأيت المنصور يحاوره في أمر القضاء ، وهو يقول : اتق الله ، ولا تشرك في أمانتك إلا من يخاف الله ، والله ما أنا مأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب ؟ ! فلا أصلح لذلك ، فقال له : كذبت ، أنت تصلح ، فقال : قد حكمت على نفسك ، كيف يحل لك أن تولي قاضيا على أمانتك ، وهو كذاب ؟ وذكر أبو حنيفة عند ابن المبارك ، فقال : أتذكرون رجلا عرضت عليه الدنيا بحذافيرها ففر منها . وكان حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح ، يعرف بريح الطيب إذا أقبل ، كثير الكرم حسن المواساة لإخوانه ربعة أحسن الناس منطقا ، وأحلاهم نغمة . قال : قدمت البصرة فظننت أني لا أسأل عن شيء إلا أجبت عنه ، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب ; فجعلت على نفسي أن لا أفارق حمادا حتى يموت ، فصحبته ثماني عشرة سنة ، ثم ما صليت صلاة منذ مات إلا استغفرت له قبل أبوي ، أو قال : مع والدي ، وإني لأستغفر لمن تعلمت منه علما ، أو تعلم مني علما . قال : دخلت على المنصور فقال : عمن أخذت العلم ؟ فقلت : عن حماد ، عن إبراهيم النخعي ، عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس . فقال المنصور : بخ بخ ، استوفيت يا أبا حنيفة ، ورأى أبو حنيفة في النوم كأنه نبش قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث من سأل محمد بن سيرين فقال : من صاحب هذه الرؤيا ؟ ولم يجب عنها ، ثم سأله الثانية فقال مثل ذلك ، ثم سأله الثالثة فقال : صاحب هذه الرؤيا يبرز علما لم يسبقه أحد إليه ممن قبله ، وقال ابن المبارك : كان أبو حنيفة آية فقيل له : في الخير أم في الشر ؟ قال : اسكت يا هذا ؟ فإنه يقال : إنه آية في الخير ، وغاية في الشر ، ثم تلا : ( وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) . وقال : كان يوما في الجامع فوقعت حية فسقطت في حجره ; فهرب الناس ، وهو لم يزد على نفضها ، وجلس مكانه ، وكان خزازا يبيع الخز ، ودكانه معروف في دار عمرو بن حريث . ومات أخو سفيان الثوري فاجتمع إليه الناس لعزائه ، فجاء أبو حنيفة فقام إليه سفيان ، وأكرمه ، وأقعده في مكانه وقعد بين يديه ، ولما تفرق الناس قال أصحاب سفيان : رأيناك فعلت شيئا عجيبا ! قال : هذا رجل من العلم بمكان ، فإن لم أقم لعلمه قمت لسنه ، وإن لم أقم لسنه قمت لفقهه ، وإن لم أقم لفقهه قمت لورعه . وقال النضر بن شميل : كان الناس نياما عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه ، وبينه . وقال الشافعي : الناس عيال أبي حنيفة في الفقه . وفي رواية : من أراد أن يتبحر في الفقه فليلزم أبا حنيفة وأصحابه . وقال جعفر بن الربيع : أقمت على أبي حنيفة خمس سنين فما رأيت أطول صمتا منه ، فإذا سئل عن شيء في الفقه سال كالوادي . وقال ابن عيينة : ما قدم مكة في وقتنا رجل أكثر صلاة منه . وقال يحيى بن أيوب الزاهد : كان أبو حنيفة لا ينام في الليل . وقال أبو عاصم : كان يسمى الوتد لكثرة صلاته . وقال زفر : كان يحيي الليل كله بركعة يقرأ فيها القرآن . وقال أسد بن عمرو : صلى أبو حنيفة صلاة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة ، وكان عامة الليل يقرأ القرآن في ركعة ، وكان يسمع بكاؤه حتى يرحم عليه جيرانه . وحفظ عليه أنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعة آلاف ختمة ، ولما غسله الحسين بن عمارة قال له : غفر الله لك ! لم تفطر منذ ثلاثين سنة ، ولم تتوسد يمينك في الليل منذ أربعين سنة ، ولقد أتعبت من بعدك . وقال ابن المبارك : إنه صلى الخمس بوضوء واحد خمسا وأربعين سنة ، وكان يجمع القرآن في ركعتين . وقال زائدة : صليت معه في مسجده العشاء ، وخرج الناس ، ولم يعلم أني في المسجد فأردت أن أسأله مسألة ، فقام وافتتح الصلاة فقرأ حتى بلغ هذه الآية : ( فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم ) فلم يزل يرددها حتى أذن المؤذن للصبح ، وأنا أنتظره . وقال القاسم بن معن : قام أبو حنيفة ليلة بهذه الآية : ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر )

[ ص: 31 ] يرددها ، ويبكي ، ويتضرع . وقال وكيع : كان أبو حنيفة قد جعل على نفسه أن لا يحلف بالله في عرض كلامه إلا تصدق بدرهم ، فحلف فتصدق به ، ثم جعل إن حلف أن يتصدق بدينار ، فكان إذا حلف صادقا في عرض كلامه تصدق بدينار ، وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها ، وكان إذا اكتسى ثوبا جديدا كسى بقدر ثمنه الشيوخ من العلماء ، وكان إذا وضع بين يديه الطعام أخذ منه ضعف ما يأكله فيجعله على الخبز ، ثم يعطيه الفقير ، ووهب لمعلم ابنه حماد خمسمائة درهم لما ختم . وجاءته امرأة تشتري منه ثوب خز فأخرج لها ثوبا فقالت : إنها ضعيفة ، وإنها أمانة فبعنيه بما يقوم عليك ، فقال : خذيه بأربعة دراهم ، فقالت : لا تسخر بي ، وأنا عجوز كبيرة ، فقال : إني اشتريت ثوبين فبعت أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم ، فبقي هذا بأربعة دراهم ، وقال ابن المبارك للثوري : ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة ، ما سمعته يغتاب عدوا له قط . قال : والله إنه أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها . وقال إسماعيل حفيده : كان عندنا رافضي له بغلان ، سمى أحدهما أبا بكر ، والآخر عمر ، فرمحه أحدهما فقتله فقيل لجدي ، فقال : ما قتله إلا المسمى بعمر فكان كذلك . قلت : لأنه مظهر الجلال ، وأبو بكر مظهر الجمال . وكان بعض جماعة المنصور يبغضه فلما رآه عند المنصور قال : اليوم أقتله ، ثم قال له : إن أمير المؤمنين يأمرنا بضرب عنق الرجل ما ندري ما هو ، فهل لنا قتله ؟ قال : أمير المؤمنين يأمر بالحق ، أو بالباطل ؟ قال : بالحق ، قال : الزم الحق حيث قال ، ولا تسأل عنه ، ثم قال لمن قرب منه : إن هذا أراد أن يوبقني فربطته .

ولد سنة ثمانين من الهجرة ، وتوفي ببغداد ، وقيل : في السجن على أن يلي القضاء سنة خمسين على المشهور ، أو إحدى ، أو ثلاث وخمسين ومائة في رجب ببغداد ، وقبره بها يزار ، ويتبرك به . ومن ورعه أنه أراد شراء أمة يتسرى بها فاستمر عشرين سنة يفتش السبايا ، ويسأل عنهن حتى اطمأنت نفسه بشراء واحدة . ومن كراماته أن أبا يوسف هرب صغيرا إليه من أمه ليتمه ، وفقره فجاءت أمه للإمام ، وقالت له : أنت الذي أفسدت ولدي فأعطاه لها ، ثم هرب إليه ، وتكرر منه ذلك ، فقال له الإمام ، وهو على تلك الحالة الضيقة : كيف بك ، وأنت تأكل الفالوذج في صحن الفيروج ؟ ! فلما توفي ، ووصل أبو يوسف عند الرشيد ما وصل دعاه الرشيد يوما ، وأخرج له فالوذجا كذلك ، فضحك أبو يوسف فعجب منه الرشيد فسأله فقال : رحم الله أبا حنيفة ، وقص عليه القصة اهـ . كلام الشيخ ابن حجر ملخصا ، واكتفينا بكلامه ; فإنه على المخالفين حجة ، وفيما نقله للموافقين كفاية ; لأن المطنب في نعته مقصر ، والمسهب في منقبته مختصر . وقد حكي أن الشافعي سمع رجلا يقع في أبي حنيفة فدعاه ، وقال : يا هذا ، أتقع في رجل سلم له جميع الناس ثلاثة أرباع الفقه ، وهو لا يسلم لهم الربع ؟ قال : وكيف ذلك ؟ قال : الفقه سؤال ، وجواب ، وهو الذي تفرد بوضع الأسئلة فسلم له نصف العلم ، ثم أجاب عن الكل ، وخصومه لا يقولون : إنه أخطأ في الكل ، فإذا جعل ما وافقوا فيه مقابلا بما خالفوا فيه سلم له ثلاثة أرباع العلم ، وبقي الربع مشتركا بين الناس . ومما ذكره ابن حجر في مناقبه المسمى بالخيرات الحسان أن الشافعي قال : قلت لمالك : رأيت أبا حنيفة ؟ فقال : رأيته رجلا لو كلمك في السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته . ولما دخل الشافعي بغداد زار قبره ، وصلى عنده ركعتين فلم يرفع يديه في التكبير ، وفي رواية : أن الركعتين كانتا الصبح ، وأنه لم يقنت فقيل [ ص: 32 ] له في ذلك فقال : أدبنا مع هذا الإمام أكبر من أن نظهر خلافه بحضرته . قال ابن حجر : وتلمذ له كبار من الأئمة المجتهدين ، والعلماء الراسخين : عبد الله بن المبارك ، والليث بن سعد ، والإمام مالك بن أنس . اهـ .

ومنهم : داود الطائي ، وإبراهيم بن أدهم ، وفضيل بن عياض ، وغيرهم من أكابر السادة الصوفية رضي الله عنهم أجمعين ، وما استظل بحائط المديون حين أتاه متقاضيا ، وتصدق بجميع مال أتى به وكيله إليه لما خلط ثمن ثوب معيب بيع مخفيا ، قيل : وكان المال ثلاثين ألفا . وترك لحم الغنم لما فقدت شاة في الكوفة سبع سنين لما قيل : إنها أكثر ما تعيش فيه .

ثم اعلم أن المؤلف لما قال فيما قدمه : ( فأعلمت ما أغفله ) استشعر اعتراضا بأن الإعلام الحقيقي إنما هو بإيراد الإسناد الكلي ليترتب عليه معرفة رجاله التي يتوقف عليها الحكم بصحة الحديث ، وحسنه ، وضعفه ، وسائر أحواله فاعتذر عن الإشكال فقال :

التالي السابق


الخدمات العلمية