الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
911 [ ص: 5 ] حديث خامس لابن شهاب ، عن سالم يجري مجرى المسند .

مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله أنه قال كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف أن لا تخالف عبد الله بن عمر في أمر الحج . قال : فلما كان يوم عرفة جاءه عبد الله بن عمر حين زاغت الشمس وأنا معه فصاح به عند سرادقه : أين هذا ؟ فخرج إليه الحجاج وعليه ملحفة معصفرة فقال : ما لك يا أبا عبد الرحمن ؟ فقال الرواح إن كنت تريد السنة . فقال : أهذه الساعة ؟ قال : نعم . قال : فأنظرني حتى أفيض علي ماء ثم أخرج . فنزل عبد الله حتى خرج الحجاج فصار بيني وبين أبي ، فقلت له : إن كنت تريد أن تصيب السنة فاقصر الخطبة وعجل الصلاة . قال : فجعل ينظر إلى عبد الله بن عمر كيما يسمع ذلك منه فلما رأى ذلك عبد الله قال : صدق .

[ ص: 6 ]

التالي السابق


[ ص: 6 ] قد ذكرنا عبد الله بن مروان في غير موضع من كتبنا ، وأما الحجاج فهو الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي ، أمه فارعة بنت همام بن عقيل بن عروة بن مسعود الثقفي ، كانت قبل أبيه تحت المغيرة بن شعبة .

كان الحجاج عند جمهور العلماء أهلا أن لا يروى عنه ، ولا يؤثر حديثه ولا يذكر بخير لسوء سره وإفراطه في الظلم ، ومن أهل العلم طائفة تكفره . وقد ذكرنا أخبارهم فيه بذلك في باب مفرد له . ولي الحجاز ثلاث سنين وولي العراق عشرين سنة : قدم عليهم سنة خمس وسبعين ومات سنة خمس وتسعين . روى سفيان بن عيينة ، عن سالم بن أبي حفصة ، قال : لما أتى الحجاج بسعيد بن جبير ، قال : إنه شقي بن كسير . فقال : ما أنا إلا سعيد بن جبير ، بذلك سماني أبواي . قال : لأقتلنك . قال : إذا أكون كما سماني أبي سعيدا . وقال : دعوني أصلي ركعتين . فقال الحجاج : وجهوه إلى قبلة النصارى . فقال سعيد : فأينما تولوا فثم وجه الله . قال : فضرب عنقه .

[ ص: 7 ] قال سفيان : فلم يقتل بعد سعيد بن جبير إلا رجلا واحدا .

قال أبو عمر : هذا الحديث يخرج في المسند لقول عبد الله بن عمر للحجاج : الرواح هذه الساعة إن كنت تريد السنة ، ولقول سالم : إن كنت تريد أن تصيب السنة فاقصر الخطبة وعجل الصلاة ، وقول ابن عمر : صدق .

وروى معمر ، عن الزهري أنه كان شاهدا مع سالم وأبيه هذه القصة مع الحجاج ، وذكر ذلك عبد الرزاق وغيره ، عن معمر ، عن الزهري ، وذلك عند أهل العلم وهم من معمر . وقال يحيى بن معين : وهم في ذلك معمر ، وابن شهاب لم ير ابن عمر ولا سمع منه شيئا . وقال أحمد بن عبد الله بن صالح : قد روى الزهري ، عن عبد الله بن عمر نحو ثلاثة أحاديث .

قال أبو عمر هذا مما لا يصححه أحد سماعا ، وليس لابن شهاب سماع من ابن عمر غير حديث معمر هذا إن صح عنه ، وأما محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري فقال : ممكن أن يكون الزهري قد شاهد ابن عمر مع سالم في قصة الحجاج . واحتج برواية معمر وفيها : فركب هو وسالم وأنا معهما حين زاغت الشمس ، [ ص: 8 ] وفيها : قال الزهري : وكنت يومئذ صائما فلقيت من الحر شدة . قال محمد بن يحيى : وقد روى ابن وهب ، عن عبد الله العمري ، عن ابن شهاب نحو رواية معمر في حديثه . قال ابن شهاب : وأصاب الناس في تلك الحجة من الحر شيء لم يصبنا مثله ، واحتج أيضا بأن عنبسة روى عن يونس ، عن ابن شهاب قال وفدت إلى مروان وأنا محتلم . قال : ومروان مات سنة خمس وستين ومات ابن عمر ( في تلك الحجة ) سنة ثلاث وسبعين ( قال : ) وأظن مولد الزهري سنة خمسين أو نحو هذا ، وموته سنة أربع وعشرين ومائة ، فممكن أن يكون شاهد ابن عمر في تلك الحجة ، فلست أدفع رواية معمر . هذا كله كلام الذهلي . قال : سمعت أحمد بن صالح يقول : قد أدرك الزهري الحرة وعقلها . أظنه قال : وشهدها . وكانت الحرة في أول خلافة يزيد بن معاوية وذلك سنة إحدى وستين .

قال أبو عمر : أما رواية معمر لهذا الحديث فيما ذكر عبد الرزاق قال : أنبأنا معمر ، عن الزهري ، قال : كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج أن اقتد بابن عمر في مناسك الحج . فأرسل إليه الحجاج يوم عرفة : إذا أردت أن تروح فآذنا . فراح هو وسالم وأنا معهما حين زاغت الشمس ، فوقف بفناء الحجاج فقال : ما يحبسه . فلم ينشب أن خرج الحجاج فقال : إن أمير [ ص: 9 ] المؤمنين كتب إلي أن أقتدي بك ، وأن آخذ عنك . فقال له سالم : إن أردت السنة فأوجز الخطبة والصلاة . قال الزهري : وكنت يومئذ صائما فلقيت من الحر شدة . وذكر الحسن بن علي الحلواني ، قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أنبأنا معمر ، عن الزهري في حديثه الذي ذكر أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج أن اقتد بابن عمر في مناسك الحج . قال : وقال الزهري : وأنا يومئذ بينهما ، وكنت صائما فلقيت من الحر شدة .

وذكر الحسن بن علي قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أنبأنا معمر ، عن الزهري في حديثه الذي ذكر أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج : اقتد بابن عمر في مناسك الحج . فأرسل إليه الحجاج ، قال : وقال الزهري : وأنا يومئذ بينهما فلقيت من الحر شدة . قال عبد الرزاق : فقلت لمعمر : فرأى الزهري ابن عمر ؟ قال : نعم ؛ وقد سمع منه حديثين ، فسلني عنهما أحدثكهما . قال : فجعلت أتحين خلوته لأن أسأله عنهما ولا يكون معنا أحد . قال : فلم يمكني ذلك حتى أنسيته ، فما ذكرت حتى نفضت يدي من قبره ، فندمت بعد ذلك فقلت : وما ضرني لو سمعتهما وسمع معي غيري . فهذا يدل على أن الحديث الثاني لم يسمع من معمر ولا أنه ذكر فيما علمت عند أحد من أهل العلم . وقد قال أحمد بن خالد أن الحديث الآخر في الحج ، وهذا لا يوجد ولا يعرف ، والله أعلم .

قال الحلواني : وحدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : أنبأنا شريك ، عن خالد بن ذؤيب ، عن الزهري قال : رأيت ابن عمر يمشي [ ص: 10 ] أمام الجنازة . قال : حدثنا أحمد بن صالح قال : أنبأنا عنبسة بن خالد بن أخي يونس بن يزيد ، عن الزهري قال : وفدت إلى مروان بن الحكم وأنا محتلم . قال الحسن : ومات ابن مروان سنة أربع وسبعين في أولها ، إلا أنه حج سنة ثلاث وسبعين ومات بعد الحج ، ومنهم من يقول : مات في آخر سنة ثلاث وسبعين .

وفي هذا الحديث فقه وآداب وعلم من أمور الحج كثير . فمن ذلك مشي الرجل الفاضل مع السلطان الجائر فيما لا بد منه ولا نقيصة عليه فيه . وفيه تعليم الرجل الفاجر السنن إذا كان لذلك وجه ، ولعله ينتفع بها وتصرفه عن غيه . وفيه الصلاة خلف الفاجر من السلاطين ما كان إليهم إقامته ؛ مثل الحج والجمعة والأعياد ، ولا خلاف بين العلماء أن الحج يقيمه السلطان للناس ويستخلف على ذلك من يقيمه لهم على شرائعه وسننه ويصلي خلفه الصلوات كلها ؛ برا كان أو فاجرا أو مبتدعا ، ما لم تخرجه بدعته من الإسلام .

وفي هذا الحديث أن رواح الإمام من موضع نزوله بعرفة إلى مسجدها حين تزول الشمس ، وأن الجمع بين الظهر والعصر في المسجد في أول وقت الظهر سنة ، وهذا ما لا خلاف فيه بين [ ص: 11 ] أهل العلم وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويلزم كل من بعد عن المسجد بعرفة أو قرب ، إلا أن يكون متصلا موضع نزوله بالصفوف ، فإن لم يفعل وصلى بصلاة الإمام وفهمها فلا حرج . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نزل بنمرة من عرفة ، وحيثما نزل من عرفة فجائزة . وكذلك وقوفه منها حيثما وقف فجائز ، إلا بطن عرنة ، فإذا زاغت الشمس راح إلى المسجد بعرفة فصلى بها الظهر والعصر جميعا مع الإمام ، على ما قلنا في أول وقت الظهر .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا نافع بن عمر ، عن سعيد بن حسان ، عن ابن عمر قال : لما قتل الحجاج ابن الزبير أرسل إلى ابن عمر : أية ساعة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يروح في هذا اليوم ؟ قال : إذا كان ذلك رحنا . فلما أراد ابن عمر أن يروح قال : أزاغت الشمس ؟ قالوا : لم تزغ . ثم قال : زاغت الشمس ؟ فلما قالوا قد زاغت ، ارتحل . وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما زاغت الشمس أمر بالقصوى فرحلت له ، وأتى بطن الوادي وخطب الناس ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئا ، ثم راح إلى الموقف .

[ ص: 12 ] قال أبو عمر : هذا كله ما لا خلاف بين علماء المسلمين فيه ، وأما وقت الرواح من منى إلى عرفة فليس هذا موضع ذكره ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة ، وسيأتي ذكره ونوضح القول فيه بموضعه من كتابنا هذا ، وذلك عند ذكر مراسيل مالك ، إن شاء الله .

واختلف الفقهاء في وقت أذان المؤذن بعرفة للظهر والعصر ، وفي جلوس الإمام للخطبة قبلها ، فقال مالك : يخطب الإمام طويلا ثم يؤذن المؤذن وهو يخطب ، ثم يصلي . ذكر ذلك ابن وهب عنه ، وهذا معناه أن يخطب الإمام صدرا من خطبته ثم يؤذن المؤذن فيكون فراغه مع فراغ الإمام من الخطبة ، ثم ينزل فيقيم . وحكى عنه ابن نافع أنه قال : الأذان بعرفة بعد جلوس الإمام للخطبة . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : إذا صعد الإمام المنبر أخذ المؤذن في الأذان ، فإذا فرغ المؤذن قام الإمام يخطب ثم ينزل ويقيم المؤذن للصلاة . وبمثل ذلك سواء قال أبو ثور وقال الشافعي : يأخذ المؤذن في الأذان إذا قام الإمام للخطبة الثانية ، فيكون فراغه من الأذان بفراغ الإمام من الخطبة ، ثم ينزل فيصلي الظهر ثم يقيم المؤذن ( الصلاة ) وقال مالك ، وسئل عن الإمام إذا صعد المنبر يوم عرفة : أيجلس قبل أن يخطب ؟ قال : نعم ثم يقوم فيخطب طويلا ثم يؤذن [ ص: 13 ] المؤذن وهو يخطب ثم يصلي . ذكره ابن وهب عنه . قال : وقال مالك : يخطب خطبتين . وفي قول أبي حنيفة وأصحابه مما قدمنا مما يدل على أن الإمام يجلس ، فإذا فرغ المؤذن قام فخطب . وقال الشافعي : إذا أتى الإمام المسجد خطب الخطبة الأولى . ولم يذكر جلوسا عند الصعود ، فإذا فرغ من الأولى جلس جلسة خفيفة قدر ( قراءة ) قل هو الله أحد ( ثم يقوم فيخطب خطبة أخرى . وأجمع العلماء على أن الإمام لا يجهر بالقراءة في الظهر والعصر ( بعرفة ) لا في يوم الجمعة ولا غيرها ( وأجمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك فعل ، لم يجهر ) وأجمعوا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر يوم عرفة - إذا جمع بينهما - ركعتين ، وأجمعوا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يومئذ مسافرا ولم ينو إقامة ؛ لأنه أكمل عمل حجه وعجل الانصراف . واختلف في قصر الإمام إذا كان مكيا أو من أهل منى بعرفة ، فقال مالك : يصلي أهل مكة ومنى بعرفة ركعتين ركعتين ما أقاموا يقصرون بالصلاة حتى يرجعوا إلى أهليهم ، وأمير الحاج أيضا كذلك ، إذا كان من أهل مكة قصر الصلاة بعرفة وأيام منى . قال : وعلى ذلك الأمر عندنا ، فإن كان أحد ساكنا بمنى مقيما أتم الصلاة إذا كان بمنى وعرفة أيضا . كذلك قال مالك . وأهل مكة يقصرون الصلاة بمنى وأهل منى يقصرون الصلاة بعرفة وأهل عرفة يقصرون الصلاة بمنى ، وهو قول الأوزاعي سواء .

[ ص: 14 ] ومن حجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يصلوا في تلك المشاهد كلها إلا ركعتين ( وسائر الأمراء هكذا لا يصلون إلا ركعتين ) فعلم أن ذلك سنة الموضع لأن من الأمراء مكيا وغير مكي . واحتجوا أيضا بما رواه يزيد بن عياض ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على مكة وأمره أن يصلي بأهل مكة ركعتين . وهذا خبر عند أهل العلم بالحديث منكر لا تقوم به حجة لضعفه ونكارته . وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق وداود : من كان من أهل مكة صلى بمنى وعرفة أربعا ، لا يجوز له غير ذلك ، وحجتهم أن من كان مقيما لا يجوز له أن يصلي ركعتين ، وكذلك من لم يكن سفره سفرا تقصر في مثله الصلاة ، فحكمه حكم المقيم . وقد تقدم ذكرنا أن السنة المجمع عليها : الجمع بين الصلاتين - الظهر والعصر - يوم عرفة مع الإمام ( واختلف الفقهاء في من فاتته الصلاة يوم عرفة مع الإمام ) هل له أن يجمع بينهما أم لا ؟ فقال مالك : له أن يجمع ( بين الظهر والعصر [ ص: 15 ] إذا فاته ذلك مع الإمام وكذلك المغرب والعشاء يجمع ) بينهما بالمزدلفة . قال : فإن احتبس إنسان دون المزدلفة لموضع عذر جمع بينهما أيضا قبل أن يأتي بالمزدلفة ، ولا يجمع بينهما حتى يغيب الشفق . وقال الثوري : صل مع الإمام ( بعرفات ) الصلاتين إن استطعت ، وإن صليت في رحلك فصل كل صلاة لوقتها ، وكذلك قال أبو حنيفة : لا يجمع بينهما إلا من صلاهما مع الإمام ، وأما من صلى وحده فلا يصلي كل صلاة منهما إلا لوقتها . وهو قول إبراهيم . وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وأحمد وإسحاق : جائز أن يجمع بينهما من المسافرين من صلى مع الإمام ، ومن صلى وحده إذا كان مسافرا . وعلتهم في ذلك أن ( جمع ) رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان من أجل السفر ولكل مسافر الجمع بينهما لذلك . وكان عبد الله بن عمر يجمع بينهما ، وهو قول عطاء . وأجمع العلماء أن الإمام لا يجهر في صلاة الظهر ولا العصر يوم عرفة . وفي ذلك دليل على صحة قول من قال : لا جمعة يوم عرفة ، وهو قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن .

[ ص: 16 ] واختلف العلماء في الأذان للجمع بين الوقوف بعرفة ، فقال مالك : يصليهما بأذانين وإقامتين على ما قدمنا من قوله في صلاتي المزدلفة ، والحجة له قد تقدمت هناك . وقال الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وأبو عبيد والطبري : يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين : إقامة لكل صلاة . واختلف عن أحمد بن حنبل ، فروى عنه الكوسج ، وعن إسحاق بن راهويه ( أيضا ) الجمع بين الوقوف بعرفة بإقامة إقامة ، وقال الأثرم ، عن أحمد بن حنبل : من فاتته الصلاة مع الإمام فإن شاء جمع بينهما بأذان وإقامتين ، وإن شاء بإقامة إقامة .

وفي لبس الحجاج المعصفر ، وترك ابن عمر الإنكار عليه مع أمر عبد الملك إياه أن لا يخالف عبد الله بن عمر في ( شيء من ) أمر الحج - دليل على أنه مباح ، وإن ( كان ) أكثر أهل العلم يكرهونه . وإنما قلنا : إنه مباح ؛ لأنه ليس بطيب ، وإنما كرهوه ؛ لأنه ينتفض . وذكر ذلك ابن بكير ، عن مالك ، قال : إنما كره لبس المصبغات ؛ لأنها تنتفض ، وليس هذا عند القعنبي ولا يحيى ولا مطرف ، وكان مالك يكره لبس المصبغات للرجال والنساء وخالف في ذلك أسماء بنت أبي بكر ، وروي عن عائشة مثل قول مالك ، رواه الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم [ ص: 17 ] أن عائشة كانت تكره المثرد بالعصفر ، وممن كان يكره لبس المصبغات بالعصفر في الإحرام : الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور ، ورخص فيه الشافعي ؛ لأنه ليس بطيب ، وقد ذكر عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي جعفر محمد بن علي ، قال : أبصر عمر بن الخطاب على عبد الله بن جعفر ثوبين مضرجين - يعني معصفرين - وهو محرم ، فقال : ما هذا ؟ فقال علي بن أبي طالب : ما أخال أحدا يعلمنا السنة . فسكت عمر .

أخبرني أحمد بن عبد الله بن محمد أن أباه حدثه قال : أنبأنا محمد بن فطيس قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم بن مزين قال : حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال : حدثنا عبد الله بن عمر ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر أنه قال : كنت أخرج وعلي ثوبان مضرجان في الحرم ( مع ابن عمر ) فلا ينكر علي .

وقد كان مالك فيما ذكر عنه وهب وابن القاسم يستحب إيجاب الفدية على من لبس المعصفر المصبغ في الإحرام ، وهو قول أبي حنيفة . والأصل في هذا الباب أن الطيب للمحرم بعد الإحرام لا يحل بإجماع العلماء لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المحرم ) عن الزعفران والورس وما صبغ بهما من الثياب المصبغات في الإحرام .

[ ص: 18 ] وقال بعض أهل العلم : إنما كان ذلك من عمر خوفا من التطرق إلى ما لا يجوز من الصبغ مثل الزعفران والورس وما أشبههما مما يعد طيبا . وقال غيره : إنما كان ( ذلك ) من عمر إلى طلحة لموضعه من الإمامة ، ولأنه ممن يقتدى به ، فوجب عليه ترك الشبهة لئلا يظن ( به ) ظان ما لا يجوز أن يظن بمثله ويتأول في ذلك عليه .

وفي الحديث أيضا من الفقه ما يدل على أن تأخير الصلاة بعرفة بعد الزوال قليلا لعمل يكون من أعمال الصلاة مثل الغسل والوضوء وما أشبه ذلك - أنه لا بأس به ، وفيه الغسل للوقوف بعرفة ؛ لأن قول الحجاج لعبد الله بن عمر : أنظرني حتى أفيض علي ماء ، كذلك كان ، وهو مذهب عبد الله بن عمر ، وأهل العلم يستحبونه . ذكر مالك ، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ، ولدخوله مكة ولوقوف عشية عرفة ، وفيه إباحة فتوى الصغير بين يدي الكبير . ألا ترى أن سالما علم الحجاج السنة في قصر الخطبة وتعجيل الصلاة ، وابن عمر أبوه إلى جانبه .

وقصر الخطبة في ذلك ( وفي غيره سنة مسنونة ، وتعجيل الصلاة في ذلك الموضع ) سنة مجتمع عليها في [ ص: 19 ] أول وقت الظهر ، ثم تصلي العصر بإثر السلام من الظهر في ذلك اليوم .

روينا عن جابر بن سمرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا بكلمات قليلة طيبات ، وقد ذكرنا هذا الخبر بإسناده فيما سلف من كتابنا هذا : أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال : حدثنا أبي قال : أنبأنا العلاء ، عن عدي بن ثابت ، عن أبي راشد ، عن عمار بن ياسر قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بإقصار الخطب وأنبأنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن سعيد قال : حدثنا محمد بن إبراهيم الديبلي قال : حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن حبيب ، عن عبد الله بن كثير ، عن عمار بن ياسر قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقصر الخطبة ونطيل الصلاة . وبه عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عمرو بن شرحبيل قال : من فقه الرجل قصر الخطبة وطول الصلاة . وأجمع الفقهاء جميعا على أن الإمام لو صلى بعرفة يوم عرفة بغير خطبة أن صلاته جائزة ، وأنه يقصر الصلاة إذا كان مسافرا وإن لم يخطب ، وأجمعوا أن الخطبة قبل الصلاة يوم عرفة [ ص: 20 ] وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ فيها فأسر القراءة ، إنما هي ظهر ، ولكنها قصرت من أجل السفر ، والله أعلم .

وأما قوله في هذا الحديث : وعجل الصلاة ، فكذلك رواه يحيى وابن القاسم وابن وهب ومطرف ، وقال فيه القعنبي وأشهب : إن كنت تريد الوقوف . وهو عندي غلط - والله أعلم - لأن أكثر الرواة عن مالك على خلافه وتعجيل الصلاة بعرفة ، سنة ماضية على ما قدمنا ذكره ، وقد يحتمل ما قاله القعنبي أيضا لأن تعجيل الوقوف بعد تعجيل الصلاة والفراغ منها سنة أيضا . وقد ذكرنا أحكام الصلاة بعرفة وذكرنا ما أجمعوا عليه منها وما اختلفوا فيه ، والحمد لله .

وأما الوقوف بعرفة ، فأجمع العلماء في كل عصر وبكل مصر - فيما علمت - أنه فرض لا ينوب عنه شيء ، وأنه من فاته الوقوف بعرفة في وقته الذي لا بد منه فلا حج له . واختلفوا في تعيين ذلك الوقت وحصره بعد إجماعهم على أن من وقف بعرفة قبل الزوال يوم عرفة فهو في حكم من لم يقف .

فقال مالك وأصحابه : الليل هو المفترض ، والوقوف بعد الزوال حتى يجمع بين الليل والنهار سنة ، دل على ما أضفنا إليه من ذلك مذهبه وجوابه في مسائله في ذلك .

ذكر ابن وهب وغيره عنه أن من دفع من عرفة قبل أن تغيب الشمس ثم لم ينصرف إليها في ليلة النحر ( فيقف بها ) أن حجه قد فاته [ ص: 21 ] وعليه حج قابل ، والهدي ينحره في حج قابل ، وهو كمن فاته الحج . وقال مالك - فيما ذكره أشهب بن عبد العزيز عنه - أن من دفع بعد الغروب وقبل الإمام فلا شيء عليه ، ولا نعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقول مالك : إن من دفع قبل الغروب فلا حج له ، وهو قد وقف بعد الزوال وبعد الصلاة ، ولا روينا عن أحد من السلف ، والله أعلم .

وقال سائر العلماء : كل من وقف بعرفة بعد الزوال أو في ليلة النحر فقد أدرك الحج ، فإن دفع قبل غروب الشمس من عرفة فعليه دم عندهم ، وحجه تام . قال الكوفيون : فإن رجع بعد غروب الشمس لم يسقط عنه ذلك الدم الذي كان قد وجب عليه ، وهو قول أبي ثور .

وقال الشافعي ، وهو قول مالك : إن عاد إلى عرفة حتى يدفع بعد المغيب فلا شيء عليه ، وإن لم يرجع حتى الفجر أجزأت عنه عند الشافعي حجته وعليه دم ، وحجة من قال بقول الشافعي في أن الليل والنهار بعد الزوال في الوقوف بعرفة سواء إلا ما ذكرنا من الدم - حديث عروة بن مضرس الذي قدمنا ذكره في باب ( حديث ) الصلاة بالمزدلفة : قوله صلى الله عليه وسلم : وقد أتى عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا . وقد ذكرنا هناك من قول إسماعيل ما فيه بيان لما ذهب إليه مالك .

[ ص: 22 ] وقال أبو الفرج وغيره من أصحابنا : الدليل على أن الوقوف ليلا هو الفرض دون النهار : حكم الجميع لمن أدرك بعض الليل بتمام الحج ، وإن إدراك أوله كإدراك آخره ، وهذا يدل على أنه كله وقت للوقوف ، ثم اتفقوا أنه لا حج لمن دفع من عرفة قبل الزوال وقبل الظهر والعصر ، فوجب أن يسوى كما يسوى بين حكم سائر الليل ؛ لأنه ما انتفى في بعض الجنس فهو منتف في سائره . وذكروا كلاما كثيرا لم أر لذكره وجها ، وما قدمنا من قول إسماعيل وأبي الفرج في الباب قبل هذا هو المعتمد عليه في المذهب ، والله أعلم .

وأجمعوا أن الوقوف ببطن عرنة ( من عرفة لا يجوز لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : وارتفعوا عن بطن عرنة ، واختلفوا فيمن وقف بها ولم يقف من عرفة بغيرها فقال مالك : يهريق دما وحجه تام . وقال الشافعي : لا يجزيه وحجه فائت . وبه قال أبو المصب الذي قال : عليه حج قابل والهدي كمن فاته الحج .

حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، قال : حدثنا سفيان ، عن بكير بن عطاء الليثي ، عن عبد [ ص: 23 ] الرحمن بن يعمر الديلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر أدرك ، وأيام منى ثلاثة ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه .

قال أبو عمر : ذكر أهل السير والمعرفة بأيام الناس ، منهم الزبير وغيره أن ابن عمر مات بعقب هذه الحجة بمكة ، وأن ابن عمر كان له موقف معروف بعرفة ، كان قد وقف فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقف به عام حجة الوداع ، فكان ابن عمر يتبرك بالموقف فيه وكان لا يدع الحج كل عام منذ قتل عثمان إلى أن مات بعد ابن الزبير ، وكان يلزم ذلك الموقف ، فانطلق مع الحجاج بن يوسف يومئذ حتى وقف في موقفه الذي كان يقف فيه ، وكان ذلك الموقف بين يدي الحجاج ، فأمر من نخس بابن عمر حتى نفرت به ناقته ، فسكنها ابن عمر ثم ردها إلى ذلك الموقف ، فأمر الحجاج أيضا بناقته فنخست فنظرت [ ص: 24 ] فسكنها ابن عمر حتى سكنت ، ثم ردها إلى ذلك الموقف ، فثقل على الحجاج أمره ، فأمر رجلا معه حربة يقال أنها كانت مسمومة ، فلما دفع الناس من عرفة لصق به ذلك الرجل وأمر الحربة على قدمه ونخسه بها فمرض منها أياما ثم مات بمكة ، وصلى عليه الحجاج يومئذ ، وقد ذكرنا خبره بأكثر من هذا في كتاب الصحابة .

قال أبو عمر : قوله صلى الله عليه وسلم : الحج عرفات معناه عند أهل العلم أن شهود عرفة به ينعقد الحج ، وهو الركن الذي عليه مدار الحج ، ألا ترى أن من وطئ بعد الوقوف بعرفة أنه يجبر فعله ذلك بالدم ؟ ومن أصاب أهله قبل وقوفه بعرفة فسد حجه عند الجميع ؟ وعلى هذا إجماع العلماء وهو قول فقهاء الأمصار ، إلا ما ذكرنا عن مالك فيمن وطئ يوم النحر قبل جمرة العقبة على اختلاف عنه على حسب ما أوردناه في باب ابن شهاب ، عن عيسى بن طلحة من هذا الكتاب ، وقد ذكرنا في هذا الباب في الوقوف بعرفة ما فيه شفاء إن شاء الله وقد ذكرنا مسألة من أغمي عليه بعرفة قبل الوقوف بها حتى انصدع الفجر في باب موسى بن عقبة من هذا الكتاب .

وأما الصلاة بعرفة فلا أعلم خلافا بين علماء المسلمين أن من لم يشهدها مع الإمام وأدرك الوقوف على حسب ما تقدم ذكرنا له أن حجه [ ص: 25 ] تام ولا شيء عليه ، وأن الوقوف بعرفة في الوقت المذكور على حسب ما ذكرنا ، هو المفترض وجمع الصلاتين بها سنة مع الإمام ، وقد جاء في ذلك حديث خالفه الإجماع ، ذكره عبد الرزاق قال : قلت للثوري أن ابن عيينة حدثني ، عن عبدة بن أبي لبابة ، عن سويد بن غفلة أن عمر بن الخطاب قال : من فاتته الصلاة مع الإمام يوم عرفة فلا حج له . فقال لي : إنها قد جاءت أحاديث لا يؤخذ بها وقد تركت هذا منها ، وما يضره أن لا يشهدها مع الإمام ( بعرفة ) قال الكشوري : قلت لابن أبي عمر : أتعرف هذا الحديث ( لابن عيينة ؟ قال : لا أعرفه . قال : وأما قول القعنبي وأشهب ، عن مالك في هذا الحديث : ) وعجل الوقوف ، فإن السنة التي لا اختلاف فيها أن الإمام إذا فرغ من الوقوف ركب معجلا وراح إلى الموقف ، وكذلك يصنع كل من معه ما يركب ؛ لأن الوقوف بعرفة راكبا أفضل - إن شاء الله - لمن قدر عليه . وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم راكبا ، ومن وقف راجلا فلا شيء عليه




الخدمات العلمية