الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ تعريف المعضل وأقسامه ] : ( والمعضل ) وهو بفتح المعجمة من الرباعي المتعدي ، يقال : أعضله فهو معضل وعضيل ، كما سمع في " أعقدت العسل " ، فهو عقيد بمعنى معقد ، وأعله المرض فهو عليل بمعنى معل ، وفعيل بمعنى مفعل إنما يستعمل في المتعدي ، والعضيل : المستغلق الشديد .

ففي حديث : إن عبدا قال : يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم شأنك ، فأعضلت بالملكين ، فلم يدريا كيف يكتبان . . . الحديث " قال أبو عبيد : هو من العضال ، الأمر [ ص: 199 ] الشديد الذي لا يقوم له صاحبه ) . انتهى .

فكأن المحدث الذي حدث به أعضله ; حيث ضيق المجال على من يؤديه إليه ، وحال بينه وبين معرفة رواته بالتعديل أو الجرح ، وشدد عليه الحال ، ويكون ذاك الحديث معضلا له لإعضال الراوي له . هذا تحقيقه لغة ، وبيان استعارته .

وهو في الاصطلاح : ( الساقط منه ) أي : من إسناده ( اثنان فصاعدا ) أي : مع التوالي ، حتى لو سقط كل واحد من موضع كان منقطعا ، كما سلف لا معضلا .

ولعدم التقيد باثنين ، قال ابن الصلاح : إن قول المصنفين : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من قبيل المعضل معنى ، كما قيل بمثله في المرسل والمنقطع ، وسواء في سقوط اثنين هنا الصحابي والتابعي ، أو اثنان بعدهما من أي موضع كان ، كل ذلك مع التقييد بالرفع الذي استغنى عن التصريح به بما يفهم من القسم الثاني .

وعلم بهذا التعريف أنه أعم من المعلق من وجه ، ومبائن للمقطوع والموقوف ، وكذا للمرسل والمنقطع بالنظر لكثرة استعمالهم فيهما .

ولا يأتي قول ابن الصلاح : إنه لقب لنوع خاص من المنقطع ، فكل معضل منقطع ولا عكس ، إلا بالنظر للقول الآخر في المنقطع الذي لا يحصره في سقط راو واحد ، ولا يخصه بالمرفوع .

وقول الحاكم نقلا عن علي بن المديني وغيره من أئمتنا : " المعضل هو أن يكون بين المرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من رجلين " - شامل أيضا لأكثر من اثنين ، [ ص: 200 ] لا سيما وقد صرح بعد بقوله : فربما أعضل أتباع التابعين وأتباعهم . . . الحديث - إلى آخر كلامه الذي أرشد فيه لما تقدم مثله في أواخر المرسل ، مع كونه لم ينفرد به ، بل وافقه عليه أبو نصر السجزي ، وعزاه لأصحاب الحديث .

وهو عدم المبادرة إلى الحكم قبل الفحص ، وإلا فقد يكون الحديث عن الراوي من وجه معضلا ، ومن آخر متصلا ، كحديث مالك الذي في الموطأ أنه بلغه أن أبا هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : للمملوك طعامه وكسوته ، فهذا معضل عن مالك ; لكونه قد روي عنه لكن خارج ( الموطأ ) ، عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة به .

ونحوه قول ابن الصلاح : وكذلك ما يرويه من دون تابع التابعي ، عن أبي بكر وعمر وغيرهما ; يعني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم إن هذا الحديث بخصوصه لو لم نعلم كون الساقط منه اثنين لم يسغ التمثيل به ، وإنما هو منقطع على رأي الحاكم وغيره ممن يسمي المبهم منقطعا ، أو متصل في إسناده مجهول ; لأن قول مالك : ( بلغني ) يقتضي ثبوت مبلغ ، ولا يمتنع أن يكون واحدا .

( ومنه ) أي : ومن المعضل ، ( قسم ثان ) : وهو ( حذف النبي ) - صلى الله عليه وسلم - ( والصحابي ) - رضي الله عنه - ( معا ، ووقف متنه على من تبعا ) أي : على التابعي ; كقول الأعمش عن الشعبي : " يقال للرجل يوم القيامة : عملت كذا وكذا ، فيقول : ما عملته ، فيختم على فيه ، فتنطق جوارحه أو لسانه ; فيقول لجوارحه : أبعدكن الله ما خاصمت إلا فيكن " . أخرجه الحاكم .

وقال عقبه : أعضله الأعمش ، وهو عند الشعبي متصل مسند ، أخرجه مسلم [ ص: 201 ] في صحيحه ، وساقه من حديث فضيل بن عمرو ، عن الشعبي عن أنس قال : كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك ، فقال : " هل تدرون مما ضحكت ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : " من مخاطبة العبد ربه عز وجل يوم القيامة ، يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول : بلى ، قال : فإني لا أجيز اليوم على نفسي شاهدا إلا مني ، فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا ، [ وبالكرام الكاتبين عليك شهودا ] ، فيختم على فيه ، ثم يقال لأركانه : انطقي . . . " الحديث نحوه .

وقال ابن الصلاح : إنه حسن ; فالانقطاع بواحد مع الوقف صدق عليه الانقطاع باثنين : الصحابي والرسول ، وهو باستحقاق اسم الإعضال أولى . . . انتهى .

ولا يتهيأ الحكم لكل ما أضيف إلى التابعي بذلك ، إلا بعد تبينه بجهة أخرى ، فقد يكون مقطوعا ، ثم إنه قد يكون الحديث معضلا ، ويجيء من غير طريق من أعضله متصلا ; كحديث خليد بن دعلج عن الحسن : " أخذ المؤمن عن الله أدبا حسنا ، إذا وسع عليه وسع ، وإذا قتر عليه قتر " فهو مروي من حديث معاوية بن عبد الكريم الضال ، عن أبي حمزة ، عن ابن عمر رفعه به . ذكره الحاكم .

واعلم أنه قد وقع - كما أفاده شيخنا - التعبير بالمعضل في كلام جماعة من أئمة الحديث فيما لم يسقط منه شيء ألبتة ، بل لإشكال في معناه ، وذكر لذلك أمثلة ، ولم يذكر منها ما رواه الدولابي في الكنى من طريق خليد بن دعلج ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه رضي الله عنه رفعه : من كانت وصيته على كتاب الله ، كانت [ ص: 202 ] كفارة لما ترك من زكاته ، وقال : هذا معضل ، يكاد يكون باطلا .

قال شيخنا : فإما أن يكون يطلق على كل من المعنيين ، أو يكون المعرف به - وهو المتعلق بالإسناد - بفتح الضاد ، والواقع في كلام من أشير إليه بكسرها ، ويعنون به المستغلق الشديد ، قال : وبالجملة فالتنبيه عليه كان متعينا .

تتمة : قد يؤخذ من ترتيب الناظم تبعا لأصله هذه الأنواع الثلاثة أنها في الرتبة كذلك ، ويتأيد بقول الجوزجاني : المعضل أسوأ حالا من المنقطع ، وهو أسوأ حالا من المرسل ، وهو لا تقوم به حجة . انتهى .

ومحل الأول في المنقطع من موضع واحد ، أما إن كان من موضعين أو أكثر فقد يكونان سواء .

التالي السابق


الخدمات العلمية