الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه سبحانه لما أخبر في الآية الأولى عن وقوع الحشر والنشر ذكر في هذه الآية ما يدل عقلا على إمكانه أو على وقوعه ، وذلك من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الإله الكريم الذي لا يجوز من كرمه أن يقطع موائد نعمه عن المذنبين ، كيف يجوز في كرمه أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن القادر الذي خلق هذه البنية الإنسانية ثم سواها وعدلها ، إما أن يقال : إنه خلقها لا لحكمة أو لحكمة ، فإن خلقها لا لحكمة كان ذلك عبثا ، وهو غير جائز على الحكيم ، وإن خلقها لحكمة ، فتلك الحكمة ، إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى أو إلى العبد ، والأول باطل لأنه سبحانه متعال عن الاستكمال والانتفاع . فتعين الثاني ، وهو أنه خلق الخلق لحكمة عائدة إلى العبد ، وتلك الحكمة إما أن تظهر في الدنيا أو في دار سوى الدنيا . والأول باطل لأن الدنيا دار بلاء وامتحان ، لا دار الانتفاع والجزاء ، ولما بطل كل ذلك ثبت أنه لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى ، فثبت أن الاعتراف بوجود الإله الكريم الذي يقدر على الخلق والتسوية والتعديل يوجب على العاقل أن يقطع بأنه سبحانه يبعث الأموات ويحشرهم ، وذلك يمنعهم من الاعتراف بعدم الحشر والنشر ، وهذا الاستدلال هو الذي ذكر بعينه في سورة التين حيث قال : (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) [ التين : 4 ] إلى أن قال : ( فما يكذبك بعد بالدين ) [ التين : 7 ] وهذه المحاجة تصلح مع العرب الذين كانوا مقرين بالصانع وينكرون الإعادة ، وتصلح أيضا مع من ينفي الابتداء والإعادة معا ، لأن الخلق المعدل يدل على الصانع وبواسطته يدل على صحة القول بالحشر والنشر ، فإن قيل : بناء هذا الاستدلال على أنه تعالى حكيم ، ولذلك قال في سورة التين بعد هذا الاستدلال : ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) [ التين : 8 ] فكان يجب أن يقول في هذه السورة : ما غرك بربك الحكيم .

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : أن الكريم يجب أن يكون حكيما ، لأن إيصال النعمة إلى الغير لو لم يكن مبنيا على داعية الحكمة لكان ذلك تبذيرا لا كرما . أما إذا كان مبنيا على داعية الحكمة فحينئذ يسمى كرما ، إذا ثبت هذا فنقول : كونه كريما يدل على وقوع الحشر من وجهين كما قررناه ، أما كونه حكيما فإنه يدل على وقوع الحشر من هذا الوجه الثاني ، فكان ذكر الكريم هاهنا أولى من ذكر الحكيم ، هذا هو تمام الكلام في كيفية النظم ، ولنرجع إلى التفسير . أما قوله : ( يا أيها الإنسان ) ففيه قولان : أحدهما : أنه الكافر ، لقوله من بعد ذلك : ( كلا بل تكذبون بالدين ) وقال عطاء عن ابن عباس : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في ابن الأسد بن كلدة بن أسيد ، وذلك أنه ضرب [ ص: 73 ] النبي- صلى الله عليه وسلم - فلم يعاقبه الله تعالى ، وأنزل هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أنه يتناول جميع العصاة وهو الأقرب ، لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ . أما قوله : ( ما غرك بربك الكريم ) فالمراد الذي خدعك وسول لك الباطل حتى تركت الواجبات وأتيت بالمحرمات ، والمعنى ما الذي أمنك من عقابه ، يقال : غره بفلان إذا أمنه المحذور من جهته مع أنه غير مأمون ، وهو كقوله : ( ولا يغرنكم بالله الغرور ) [ لقمان : 33 ] هذا إذا حملنا قوله : ( ياأيها الإنسان ) على جميع العصاة ، وأما إذا حملناه على الكافر ، فالمعنى ما الذي دعاك إلى الكفر والجحد بالرسل ، وإنكار الحشر والنشر ، وهاهنا سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن كونه كريما يقتضي أن يغتر الإنسان بكرمه بدليل المعقول والمنقول ، أما المعقول فهو أن الجود إفادة ما ينبغي لا لعوض ، فلما كان الحق تعالى جوادا مطلقا لم يكن مستعيضا ، ومتى كان كذلك استوى عنده طاعة المطيعين ، وعصيان المذنبين ، وهذا يوجب الاغترار ؛ لأنه من البعيد أن يقدم الغني على إيلام الضعيف من غير فائدة أصلا ، وأما المنقول فما روي عن علي عليه السلام ، أنه دعا غلامه مرات فلم يجبه ، فنظر فإذا هو بالباب ، فقال له : لم لم تجبني ؟ فقال : لثقتي بحلمك ، وأمني من عقوبتك ، فاستحسن جوابه ، وأعتقه ، وقالوا أيضا : من كرم الرجل سوء أدب غلمانه ، ولما ثبت أن كرمه يقتضي الاغترار به ، فكيف جعله هاهنا مانعا من الاغترار به ؟ والجواب : من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن معنى الآية أنك لما كنت ترى حلم الله على خلقه ظننت أن ذلك لأنه لا حساب ولا دار إلا هذه الدار ، فما الذي دعاك إلى هذا الاغترار ، وجرأك على إنكار الحشر والنشر ؟ فإن ربك كريم ، فهو لكرمه لا يعاجل بالعقوبة بسطا في مدة التوبة ، وتأخيرا للجزاء إلى أن يجمع الناس في الدار التي جعلها لهم للجزاء ، فالحاصل أن ترك المعاجلة بالعقوبة لأجل الكرم ، وذلك لا يقتضي الاغترار بأنه لا دار بعد هذه الدار .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن كرمه لما بلغ إلى حيث لا يمنع من العاصي موائد لطفه ، فبأن ينتقم للمظلوم من الظالم كان أولى ، فإذن كونه كريما يقتضي الخوف الشديد من هذا الاعتبار ، وترك الجراءة والاغترار .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن كثرة الكرم توجب الجد والاجتهاد في الخدمة والاستحياء من الاغترار والتواني .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قال بعض الناس : إنما قال : ( بربك الكريم ) ليكون ذلك جوابا عن ذلك السؤال حتى يقول غرني كرمك ، ولولا كرمك لما فعلت ؛ لأنك رأيت فسترت ، وقدرت فأمهلت ، وهذا الجواب إنما يصح إذا كان المراد من قوله : ( ياأيها الإنسان ) ليس الكافر .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : ما الذي ذكره المفسرون في سبب هذا الاغترار ؟ قلنا : وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قال قتادة : سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان له .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قال الحسن : غره حمقه وجهله .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قال مقاتل : غره عفو الله عنه حين لم يعاقبه في أول أمره ، وقيل : للفضيل بن عياض إذا أقامك الله يوم القيامة ، وقال لك : ( ما غرك بربك الكريم ) ماذا تقول ؟ قال : أقول غرتني ستورك المرخاة .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : ما معنى قراءة سعيد بن جبير ما أغرك ؟ قلنا : هو إما على التعجب وإما على الاستفهام من قولك غر الرجل فهو غار إذا غفل ، ومن قولك بيتهم العدو وهم غارون ، وأغره غيره جعله غارا ، أما قوله تعالى : ( الذي خلقك ) فاعلم أنه تعالى لما وصف نفسه بالكرم ذكر هذه الأمور الثلاثة كالدلالة على تحقق ذلك الكرم .

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : الخلق وهو قوله : ( الذي خلقك ) ولا شك أنه كرم وجود لأن الوجود خير [ ص: 74 ] من العدم ، والحياة خير من الموت ، وهو الذي قال : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ) [ البقرة : 28 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله : ( فسواك ) أي جعلك سويا سالم الأعضاء تسمع وتبصر ، ونظيره قوله : ( أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ) [ الكهف : 37 ] قال ذو النون : سواك أي سخر لك المكونات أجمع ، وما جعلك مسخرا لشيء منها ، ثم أنطق لسانك بالذكر ، وقلبك بالعقل ، وروحك بالمعرفة ، وسرك بالإيمان ، وشرفك بالأمر والنهي ، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله : ( فعدلك ) وفيه بحثان :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : قال مقاتل : يريد عدل خلقك في العينين والأذنين واليدين والرجلين فلم يجعل إحدى اليدين أطول ولا إحدى العينين أوسع ، وهو كقوله : ( بلى قادرين على أن نسوي بنانه ) [ القيامة : 4 ] وتقريره ما عرف في علم التشريح أنه سبحانه ركب جانبي هذه الجثة على التسوي حتى إنه لا تفاوت بين نصفيه لا في العظام ولا في أشكالها ولا في ثقبها ولا في الأوردة والشرايين والأعصاب النافذة فيها والخارجة منها ، واستقصاء القول فيه لا يليق بهذا العلم ، وقال عطاء عن ابن عباس : جعلك قائما معتدلا حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية ، وقال أبو علي الفارسي : عدل خلقك فأخرجك في أحسن التقويم ، وبسبب ذلك الاعتدال جعلك مستعدا لقبول العقل والقدرة والفكر ، وصيرك بسبب ذلك مستوليا على جميع الحيوان والنبات ، وواصلا بالكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : قرأ الكوفيون فعدلك بالتخفيف ، وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قال أبو علي الفارسي : أن يكون المعنى عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قال الفراء : " فعدلك " أي فصرفك إلى أي صورة شاء ، ثم قال : والتشديد أحسن الوجهين لأنك تقول : عدلتك إلى كذا كما تقول صرفتك إلى كذا ، ولا يحسن عدلتك فيه ولا صرفتك فيه ، ففي القراءة الأولى جعل في من قوله : ( في أي صورة ) صلة للتركيب ، وهو حسن ، وفي القراءة الثانية جعله صلة لقوله : ( فعدلك ) وهو ضعيف ، واعلم أن اعتراض القراء إنما يتوجه على هذا الوجه الثاني ، فأما على الوجه الأول الذي ذكره أبو علي الفارسي فغير متوجه .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : نقل القفال عن بعضهم أنهما لغتان بمعنى واحد ، أما قوله : ( في أي صورة ما شاء ركبك ) ففيه مباحث الأول : ما هل هي مزيدة أم لا ؟ فيه قولان : الأول : أنها ليست مزيدة ، بل هي في معنى الشرط والجزاء فيكون المعنى في أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك ، وبناء على هذا الوجه ، قال أبو صالح ومقاتل : المعنى إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة كلب أو صورة حمار أو خنزير أو قرد .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أنها صلة مؤكدة والمعنى في أي صورة تقتضيها مشيئته وحكمته من الصور المختلفة ، فإنه سبحانه يركبك على مثلها ، وعلى هذا القول تحتمل الآية وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن المراد من الصور المختلفة شبه الأب والأم ، أو أقارب الأب أو أقارب الأم ، ويكون المعنى أنه سبحانه يركبك على مثل صور هؤلاء ويدل على صحة هذا ما روي أنه عليه السلام قال في هذه الآية : " إذا استقرت النطفة في الرحم ، أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم " .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : وهو الذي ذكره الفراء والزجاج أن المراد من الصور المختلفة الاختلاف بحسب الطول والقصر والحسن والقبح والذكورة والأنوثة ، ودلالة هذه الحالة على الصانع القادر في غاية الظهور ، لأن النطفة جسم متشابه الأجزاء وتأثير طبع الأبوين فيه على السوية ، فالفاعل المؤثر بالطبيعة في القابل المتشابه لا يفعل إلا فعلا واحدا ، فلما اختلفت الآثار والصفات دل ذلك الاختلاف على أن المدبر هو القادر المختار ، قال القفال : [ ص: 75 ] اختلاف الخلق والألوان كاختلاف الأحوال في الغنى والفقر والصحة والسقم ، فكما أنا نقطع أنه سبحانه إنما ميز البعض عن البعض في الغنى والفقر ، وطول العمر وقصره ، بحكمة بالغة لا يحيط بكنهها إلا هو ، فكذلك نعلم أنه إنما جعل البعض مخالفا للبعض ، في الخلق والألوان بحكمة بالغة ، وذلك لأن بسبب هذا الاختلاف يتميز المحسن عن المسيء والقريب عن الأجنبي ، ثم قال : ونحن نشهد شهادة لا شك فيها أنه سبحانه لم يفرق بين المناظر والهيئات إلا لما علم من صلاح عباده فيه وإن كنا جاهلين بعين الصلاح .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثالث : قال الواسطي : المراد صورة المطيعين والعصاة فليس من ركبه على صورة الولاية كمن ركبه على صورة العداوة ، قال آخرون : إنه إشارة إلى صفاء الأرواح وظلمتها ، وقال الحسن : منهم من صوره ليستخلصه لنفسه ، ومنهم من صوره ليشغله بغيره .

                                                                                                                                                                                                                                            مثال الأول : أنه خلق آدم ليخصه بألطاف بره وإعلاء قدره وأظهر روحه من بين جماله وجلاله ، وتوجه بتاج الكرامة وزينه برداء الجلال والهيبة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية