الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          2755 حدثنا محمود بن غيلان حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز قال خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه فقال اجلسا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار وفي الباب عن أبي أمامة قال أبو عيسى هذا حديث حسن حدثنا هناد حدثنا أبو أسامة عن حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( أخبرنا قبيصة ) هو ابن عقبة بن محمد ( أخبرنا سفيان ) هو الثوري .

                                                                                                          [ ص: 25 ] قوله : ( خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه ) يثبت من رواية الترمذي هذه أن عبد الله بن الزبير قد قام حين خرج معاوية وروايات أبي داود وغيره تدل على أنه لم يقم . ورجح الحافظ في الفتح هذه الروايات النافية فقال بعد ذكرها : وسفيان وإن كان من جبال الحفظ إلا أن العدد الكثير ـ وفيهم مثل شعبة ـ أولى بأن تكون روايتهم محفوظة من الواحد ، وقد اتفقوا على أن ابن الزبير لم يقم ( من سره ) أي أعجبه وجعله مسرورا ، وفي رواية أبي داود : من أحب ( أن يتمثل ) أي ينتصب ( له الرجال قياما ) أي يقفون بين يديه قائمين لتعظيمه من قولهم مثل بين يديه مثولا أي انتصب قائما . قال الطيبي : يجوز أن يكون قوله قياما مفعولا مطلقا لما في الانتصاب من معنى القيام وأن يكون تمييز الاشتراك المثول بين المعنيين ( فليتبوأ ) أي فليهيئ ( مقعده من النار ) لفظه الأمر ومعناه الخبر كأنه قال : من سره ذلك وجب له أن ينزل منزلة من النار .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن أبي أمامة ) أخرجه أبو داود وابن ماجه عنه قال : خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ متوكئا على عصا فقمنا له . فقال " لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا " .

                                                                                                          قوله : ( وهذا حديث حسن ) وأخرجه أحمد وأبو داود .

                                                                                                          اعلم أنه قد اختلف أهل العلم في قيام الرجل للرجل عند رؤيته ، فجوزه بعضهم كالنووي وغيره ، ومنعه بعضهم كالشيخ أبي عبد الله بن الحاج المالكي وغيره ، وقال النووي في الأذكار : وأما إكرام الداخل بالقيام ، فالذي نختاره أنه مستحب لمن كان فيه فضيلة ظاهرة من علم أو صلاح أو شرف أو ولاية ونحو ذلك ، ويكون هذا القيام للبر والإكرام والاحترام لا للرياء والإعظام . وعلى هذا استمر عمل السلف والخلف ، وقد جمعت في ذلك جزءا جمعت فيه الأحاديث والآثار وأقوال السلف وأفعالهم الدالة على ما ذكرته . وذكرت فيه ما خالفها وأوضحت الجواب عنه ، فمن أشكل عليه من ذلك شيء ورغب في مطالعته ، رجوت أن يزول إشكاله ، انتهى .

                                                                                                          قلت : وقد نقل ابن الحاج ذلك الجزء في كتابه المدخل ، وعقب على كل ما استدل به النووي ، فمن أقوى ما تمسك به حديث أبي سعيد عند الشيخين : أن أهل قريظة نزلوا على حكم [ ص: 26 ] سعد ، فأرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه فجاء ، فقال " قوموا إلى سيدكم الحديث ، وقد أجاب عنه ابن الحاج بأجوبة منها : أن الأمر بالقيام لغير ما وقع فيه النزاع وإنما هو لينزلوه عن دابته لما كان فيه من المرض كما جاء في بعض الروايات ، انتهى . قال الحافظ : قد وقع في مسند عائشة عند أحمد من طريق علقمة بن وقاص عنها في قصة غزوة بني قريظة ، وقصة سعد بن معاذ ومجيئه مطولا ، وفيه قال أبو سعيد : فلما طلع قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : قوموا إلى سيدكم فأنزلوه . وسنده حسن ، وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه ، انتهى .

                                                                                                          ومما تمسك به النووي حديث كعب بن مالك في قصة توبته وفيه : فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول ، فصافحني وهنأني . وأجاب عنه ابن الحاج بأن طلحة إنما قام لتهنئته ومصافحته ولو كان قيامه محل النزاع لما انفرد به ، فلم ينقل أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام له ولا أمر به ولا فعله أحد ممن حضروا وإنما انفرد طلحة لقوة المودة بينهما على ما جرت به العادة أن التهنئة والبشارة ونحو ذلك تكون على قدر المودة والخلطة ، بخلاف السلام فإنه مشروع على من عرفت ومن لم تعرف .

                                                                                                          ومما تمسك به النووي حديث عائشة قالت : ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا ودلا وهديا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة ، كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه ، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها . أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم . وأجاب عنه ابن الحاج باحتمال أن يكون القيام لها لأجل إجلاسها في مكانه إكراما لها لا على وجه القيام المنازع فيه ، ولا سيما ما عرف من ضيق بيوتهم وقلة الفرش فيها ، فكانت إرادة إجلاسه لها في موضعه مستلزمة لقيامه .

                                                                                                          ومما تمسك به النووي : ما أخرجه أبو داود عن عمرو بن الحارث أن عمر بن السائب حدثه : أنه بلغه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه ، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه ، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأجلسه بين يديه . وأجاب عنه ابن الحاج بأن هذا القيام لو كان محل النزاع لكان الوالدان أولى به من الأخ ، وإنما قام للأخ ، إما لأن يوسع له في الرداء أو في المجلس .

                                                                                                          قلت : هذا الحديث معضل كما صرح به ابن المنذري في تلخيص السنن فلا يصلح للاستدلال ، وتمسك النووي بروايات أخرى ، وأجاب عنها ابن الحاج بأنها ليست من محل النزاع ، والأمر كما قال ابن الحاج وأجاب النووي عن أحاديث كراهة قيام الرجل للرجل بما لا يشفي العليل ولا يروي الغليل كما بينه ابن الحاج مفصلا .

                                                                                                          [ ص: 27 ] قلت : حديث أنس المذكور يدل على كراهة القيام المتنازع فيه ، وهو قيام الرجل للرجل عند رؤيته ، وظاهر حديث عائشة يدل على جوازه . وجواب ابن الحاج عن هذا الحديث غير ظاهر ، واختلف في وجه الجمع بينهما ، فقيل حديث أنس محمول على كراهة التنزيه ، وقيل هو محمول على القيام على طريق الإعظام ، وحديث عائشة على القيام على طريق البر والإكرام ، وقيل غير ذلك .

                                                                                                          أما قيام الرجل لإنزال المريض عن مركوبه ، أو القادم من سفر ، أو للتهنئة لمن حدثت له نعمة ، أو لتوسيع المجلس فهو جائز بالاتفاق . نقل العيني في شرح البخاري عن أبي الوليد بن رشد : أن القيام على أربعة أوجه : الأول محظور وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرا وتعاظما على القائمين إليه ، والثاني : مكروه وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين ولكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر ولما فيه من التشبه بالجبابرة ، والثالث : جائز وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ويؤمن معه التشبه بالجبابرة ، والرابع مندوب وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدومه ليسلم عليه ، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها أو مصيبة فيعزيه بسببها ، انتهى . وقال الغزالي : القيام على سبيل الإعظام مكروه وعلى سبيل البر والإكرام لا يكره . قال الحافظ في الفتح : هذا تفصيل حسن .




                                                                                                          الخدمات العلمية