الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2725 - وعن عبد الله بن عدي بن حمراء - رضي الله عنه - قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا على الحزورة ، فقال : " والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " . رواه الترمذي ، وابن ماجه .

التالي السابق


2725 - ( وعن عبد الله بن عدي بن حمراء قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا على الحزورة ) . قال الطيبي - رحمه الله - : على وزن القسورة موضع بمكة ، وبعضهم شددها أي : الراء ، والحزورة في الأصل بمعنى التل الصغير ، سميت بذلك لأنه هناك كان تلا صغيرا ، وقيل : لأن وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد كان ولي أمر البيت بعد جرهم فبنى صرحا هناك ، وجعل فيها أمه ، يقال : لها حزورة فسميت مكة بها اهـ . وقيل : اسم سوق بمكة وهو الآن معروف بالغرورة ، وهو باب الوداع . ( فقال ) : أي : مخاطبا للكعبة وما حولها من حرمها ، وفيه تأنيس في الجملة لقول أئمتنا الحنفية من أنه يستحب للمودع أن يكون ملتفتا إلى ما وراءه ، كالمتندم على الخروج منها ، بل كالكره في الانصراف عنها ، مع ما فيه من تعظيم الأدب في مفارقة بيت الرب ، وأما القهقرى وإن كانت بدعة إلا أنها لا تزاحم سنة ، ولا تدفعها مرة فهي بدعة حسنة . وقد قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : بل رفعه أن ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن . ( والله إنك لخير أرض الله إلى الله ، وأحب أرض الله إلى الله ) : فيه تصريح بأن مكة أفضل من المدينة كما عليه الجمهور إلا البقعة التي ضمت أعضاءه - عليه الصلاة والسلام - فإنها أفضل من مكة ، بل من العرش إجماعا وتمحل المالكية في رد هذا الحديث من جهة المبنى والمعنى بما اعترف به الإمام ابن عبد البر من أئمتهم ، أنه تشبث لا طائل تحته ، ومن العجيب أنهم عارضوا هذا الحديث الثابت بأحاديث ضعيفة ; بل موضوعة منها : اللهم إنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي فأسكني في أحب البلاد إليك ، فقد أجمعوا على أنه موضوع كما قاله ابن عبد البر وابن دحية ، بل ونقل ذلك عن مالك ، ولا يلتفت إلى إخراج هذا الحديث في مستدركه ، فإن الأئمة قالوا : من كمال تساهله في كتابه عطل تمام النفع به ، مع أنه لو ثبت يكون التقدير بعد مكة ، فإنه - عليه الصلاة والسلام - لم يكن أحب البلاد إليه إلا ما كان أحب البلاد إلى الله أيضا لما أنه - عليه الصلاة والسلام - خير بين أن يخرج من مكة إلى المدينة ، أو البحرين ، أو قنسرين ، فدعا بهذا الدعاء ليختار الله - تعالى - له خير تلك البلاد ، وأحفظها من الفتن والفساد ، والله رءوف بالعباد . ( ولولا أني أخرجت منك ) : أي : بأمر من الله ( ما خرجت ) : وفيه دلالة على أنه لا ينبغي للمؤمن أن يخرج من مكة إلا أن يخرج منها حقيقة أو حكما ، وهو الضرورة الدينية أو الدنيوية ، ولذا قيل : الدخول فيها سعادة ، والخروج منها شقاوة . ( رواه الترمذي ، وابن ماجه ) : وغيرهما وسنده صحيح .

وأما خبر الطبراني : المدينة خير من مكة فضعيف ; بل منكر وأنه كما قال الذهبي ، وعلى تقدير صحته يكون محمولا على زمانه لكثرة الفوائد في حضرته ، وملازمة خدمته لأن شرف المدينة ليس بذاته ، بل بوجوده - عليه الصلاة والسلام - فيه ، ونزوله مع بركاته ، وناهيك في الفرق بين البقعتين أن السفر إلى مكة واجب بالإجماع ، وإلى المدينة سنة بلا نزاع ، وأيضا نفس المدينة ليس أفضل من مكة اتفاقا ، إذا لا تضاعف فيه أصلا ، بل المضاعفة في المسجدين ، ففي الحديث الصحيح الذي قاله بعض الحفاظ على شرط الشيخين : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة ألف صلاة " . وصح عن ابن عمر موقوفا ، وهو في حكم المرفوع لأنه لا يقال مثله بالرأي : صلاة واحدة بالمسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة بمسجد النبي - عليه الصلاة والسلام .

قال ابن الهمام : اختلف العلماء في كراهة المجاورة بمكة وعدمها ، فذكر بعض الشافعية أن المختار استحبابا إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في المحذور ، وهذا قول أبي يوسف ومحمد - رحمهم الله - وذهب أبو حنيفة ومالك إلى كراهتها ، وكان أبو حنيفة يقول : إنها ليست بدار هجرة . وقال مالك وقد سئل عن ذلك : ما كان الناس إلا على الحج والرجوع ، وهو أي الأول أعجب ، وهذا أي : الثاني أحوط لما في خلافه من تعريض النفس على الخطر ، إذ طبع الإنسان التبرم والملل من توارد ما خالف هواه في المعيشة ، وزيادة الانبساط المخل بما يجب من [ ص: 1869 ] الاحترام لما يكثر تكرره عليه ومداومة نظره إليه ، وأيضا الإنسان محل الخطأ ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : " كل ابن آدم خطؤه المضاعف يضاعف " أي : كمية على ما روي عن ابن مسعود إن صح ، وإلا فلا شك أنها في حرم الله أفحش وأغلظ ، أي تضاعف كيفية فتنهض سببا لغلظ الموجب وهو العقاب ، ويمكن كون هذا هو محمل المروي من التضاعف كيلا يعارض قوله - تعالى : ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها أعني أن السيئة تكون فيه سببا لمقدار من العقاب هو أكثر من مقداره عنها في غير الحرم إلى أن يصل إلى مقدار سيئات منها في غيره ، والله تعالى أعلم .

وكل من هذه الأمور سبب لمقت الله - تعالى ، وإذا كان سجية البشر ، فالسبيل التروح عن ساحته ، وقل من يطمئن إلى نفسه في دعواها البراءة هذه الأمور - إلا وهو في ذلك مغرور ، ألا ترى إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحببين إليه المدعو له ، كيف اتخذ الطائف دارا وقال : لأن أذنب خمسين ذنبا بركية - وهو موضع بقرب الطائف - أحب إلي من أن أذنب ذنبا واحدا بمكة . وعن ابن مسعود : ما من بلدة يؤخذ العبد فيها بالهمة قبل العمل إلا مكة ، وتلا هذه الآية : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم وقال سعيد بن المسيب للذي جاء من أهل المدينة يطلب العلم : ارجع إلى المدينة فإنا نسمع أن ساكن مكة لا يموت حتى يكون الحرم عنده بمنزلة الحل ; لما يستحل من حرمها . وعن عمر - رضي الله عنه - خطيئة أصيبها بمكة أعز علي من سبعين خطيئة بغيرها . نعم أفراد من عباد الله استخلصهم وخلصهم من مقتضيات الطباع ، فأولئك هم أهل الجواز الفائزون بفضيلة من يضاعف له الحسنات والصلاة من غير ما يحبطها من السيئات . وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم : " صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف في مسجده " . وفي رواية لأحمد ، عن ابن عمر سمعته يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من طاف أسبوعا يحصيه وصلى ركعتين كان كعدل رقبة " . قال : سمعته يقول : " ما رفع رجل قدما ولا وضعها إلا كتب الله له عشر حسنات ، وحط عنه عشر سيئات ، ورفع له عشر درجات " . وروى ابن ماجه عن ابن عباس ، عنه - صلى الله عليه وسلم - : " من أدرك رمضان بمكة فصامه ، وقام منه ما تيسر كتب له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه ، وكتب الله له بكل يوم عتق رقبة ، وبكل ليلة عتق رقبة ، وكل يوم حملان فرس في سبيل الله " ، ولكن الفائز بهذا مع السلامة من إحباطها أقل القليل ، فلا يبنى الفقه باعتبارهم ولا بذكر حالهم قيدا في جواز الجوار ، لأن شأن النفوس الدعوى الكاذبة ، والمبادرة إلى الدعوة المهلكة ، والقدرة على ما يشترط فيما يتوجه إليه وتطلبه ، وإنها لأكذب ما يكون إذا حلفت ، فكيف إذا ادعت والله - تعالى - أعلم .

وعلى هذا فيجب كون الجوار في المدينة المشرفة كذلك ، فإن تضاعف السيئات وتعاظمها وإن فقد فيها ، فمخالفة السلامة وقلة الأدب إلى الإخلال بواجب التوقير ، والإحلال قائم أيضا ، وهو أيضا مانع إلا للأفراد ذوي الملكات ، فإن مقامهم وموتهم فيها السعادة الكاملة . في صحيح مسلم : " لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي ; إلا كنت له شفيعا يوم القيامة ، أو شهيدا " . وأخرج الترمذي غيره عن ابن عمر عنه - عليه الصلاة والسلام - : " من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإني أشفع لمن يموت بها " اهـ .

ولو أدرك الأولون ما انتهي إليه الآخرون كما عليه أهل زماننا الغافلون ، لحكموا بحرمة المجاورة في الحرمين الشريفين من شيوع الظلم ، وكثرة الجهل ، وقلة العلم ، وظهور المنكرات ، وفشو البدع والسيئات ، وأكل الحرام والشبهات . وفي الحقيقة ليسوا بمجاورين ، بل لهم مقاصد فاسدة صاروا بها مقيمين غير مسافرين ، من تجارة أو منصب أو جراية أو " جامكية " أو صرة أو شهرة ، غالبهم يأكلونها ، غير استحقاق لحالتهم ومن غير قيام بوظائف خدمتهم ، ومن غير رعاية لشروط الأوقاف في مداخلاتهم ، لكن هذه البلية حيث عمت البلاد وطمت في البلاد " طابت " ، حتى على الزهاد والعباد . قال - تعالى : ظهر الفساد في البر والبحر لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . قال - تعالى : يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان والله المستعان ، وعليه التكلان ، " ولعله لا يؤاخذنا بالفعل والإحسان " . [ ص: 1870 ]



الخدمات العلمية