الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة السادسة : في زكاة المعادن والركاز .

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أن العلماء أجمعوا على وجوب إخراج حق شرعي من المعادن في الجملة ، لكن وقع بينهم الاختلاف في بعض الصور لذلك ، فقال قوم : لا يجب في شيء من المعادن الزكاة ، إلا الذهب والفضة خاصة ، فإذا أخرج من المعدن عشرين مثقالا من الذهب ، أو مائتي درهم من الفضة ، وجب عليه إخراج ربع العشر من ذلك من حين إخراجه ، ولا يستقبل به حولا .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن قال بهذا : مالك ، والشافعي ، ومذهب الإمام أحمد كمذهبهما . إلا أنه يوجب الزكاة في جميع المعادن من ذهب ، وفضة ، وزئبق ، ورصاص ، وصفر ، وحديد ، وياقوت ، وزبرجد ، ولؤلؤ ، وعقيق ، وسبج ، وكحل ، وزجاج ، وزرنيخ ، ومغرة ، ونحو ذلك ، وكذلك المعادن الجارية ، كالقار ، والنفط ، ونحوهما ، ويقوم بمائتي درهم ، أو عشرين مثقالا ، ما عدا الذهب والفضة ، فجميع المعادن عنده تزكى ، واللازم فيها ربع العشر .

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب أبو حنيفة رحمه الله ، إلى أن المعدن من جملة الركاز ، ففيه عنده الخمس ، وهو عنده الذهب والفضة ، وما ينطبع كالحديد والصفر والرصاص في أشهر الروايتين ، ولا يشترط عنده النصاب في المعدن والركاز .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن قال بلزوم العشر في المعدن : عمر بن عبد العزيز ، وحجة من قال بوجوب الزكاة في جميع المعادن ، عموم قوله تعالى ومما أخرجنا لكم من الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                      وحجة من قال بوجوبها في معدن الذهب والفضة فقط : أن الأصل عدم وجوب الزكاة ، فلم تجب في غير الذهب والفضة للنص عليهما دون غيرهما ، واحتجوا أيضا بحديث : " لا زكاة في حجر " ، وهو حديث ضعيف ، قال فيه ابن حجر في " التلخيص " رواه ابن عدي ، من حديث عمر بن أبي عمر الكلاعي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، ورواه البيهقي ، من طريقه ، وتابعه عثمان الوقاصي ، ومحمد بن عبيد الله العرزمي ، كلاهما عن عمرو بن شعيب ، وهما متروكان . اهـ . وعمر بن أبي عمر الكلاعي ضعيف ، من [ ص: 143 ] شيوخ بقية المجهولين ، قاله في " التقريب " واحتج لوجوب الزكاة في المعدن بما رواه مالك في " الموطإ " عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية ، وهي من ناحية الفرع . فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة . وقال ابن حجر في " التلخيص " : ورواه أبو داود ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي موصولا ، ليست فيه زيادة : وهي من ناحية الفرع ، إلخ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشافعي : بعد أن روى حديث مالك : ليس هذا ما يثبته أهل الحديث ولم يثبتوه ولم يكن فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إقطاعه ، وأما الزكاة دون الخمس فليست مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال البيهقي : وهو كما قال الشافعي في رواية مالك ، وقد روي عن الدراوردي ، عن ربيعة ، موصولا ، ثم أخرجه عن الحاكم ، والحاكم أخرجه في " المستدرك " وكذا ذكره ابن عبد البر من رواية الدراوردي ، قال : ورواه أبو سبرة المديني ، عن مطرف ، عن مالك ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن ابن عباس قلت : أخرجه أبو داود ، من الوجهين . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : الاستدلال بهذه الزيادة على الحديث المرفوع التي ذكرها مالك في " الموطإ " ، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم - من نوع الاستدلال بالاستصحاب المقلوب ، وهو حجة عند جماعة من العلماء من المالكية ، والشافعية .

                                                                                                                                                                                                                                      والاستصحاب المقلوب : هو الاستدلال بثبوت الأمر في الزمن الحاضر على ثبوته في الزمن الماضي ، لعدم ما يصلح للتغيير من الأول إلى الثاني .

                                                                                                                                                                                                                                      قال صاحب " جمع الجوامع " : أما ثبوته في الأول لثبوته في الثاني فمقلوب ، وقد يقال فيه : لو لم يكن الثابت اليوم ثابتا أمس لكان غير ثابت ، فيقتضي استصحاب أمس أنه الآن غير ثابت ، وليس كذلك ، فدل على أنه ثابت .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال : في " نشر البنود " : وقد يقال في الاستصحاب المقلوب ليظهر الاستدلال به : لو لم يكن الثابت اليوم ثابتا أمس لكان غير ثابت أمس ; إذ لا واسطة بين الثبوت وعدمه ، فيقتضي استصحاب أمس الخالي عن الثبوت فيه ، أنه الآن غير ثابت ، وليس كذلك لأنه مفروض الثبوت الآن ، فدل ذلك على أنه ثابت أمس أيضا ، ومثل له بعض المالكية بالوقف ، إذا جهل مصرفه ووجد على حالة فإنه يجري عليها ; لأن وجوده على تلك الحالة [ ص: 144 ] دليل على أنه كان كذلك في عقد الوقف ، ومثل له " المحلى " ، بأن يقال في المكيال الموجود : كان على عهده صلى الله عليه وسلم ، باستصحاب الحال في الماضي ، ووجهه في المسألة التي نحن بصددها ; أن لفظ : فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم يدل بالاستصحاب المقلوب أنها كانت كذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لعدم ما يصلح للتغيير كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أشار في " مراقي السعود " إلى مسألة الاستصحاب المذكور في " كتاب الاستدلال " بقوله : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      ورجحن كون الاستصحاب للعدم الأصلي من ذا الباب بعد قصارى البحث     عن نص فلم يلف وهذا
                                                                                                                                                                                                                                      البحث وفقا منحتم

                                                                                                                                                                                                                                      إلى أن قال ، وهو محل الشاهد : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      وما بماض مثبت للحال     فهو مقلوب وعكس الخالي
                                                                                                                                                                                                                                      كجري ما جهل فيه المصرف     على الذي الآن لذاك يعرف

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الركاز : ففيه الخمس بلا نزاع ; لقوله صلى الله عليه وسلم " وفي الركاز الخمس " أخرجه الشيخان ، وأصحاب السنن ، والإمام أحمد ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، إلا أنهم اختلفوا في المراد بالركاز .

                                                                                                                                                                                                                                      فذهب جمهور ، منهم مالك ، والشافعي ، وأحمد ، إلى أن الركاز هو دفن الجاهلية ، وأنه لا يصدق على المعادن اسم الركاز .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتجوا بما جاء في حديث أبي هريرة المتفق عليه الذي ذكرنا بعضا منه آنفا ; فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس " ، ففرق بين المعدن والركاز بالعطف المقتضي للمغايرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب أبو حنيفة ، والثوري ، وغيرهما إلى أن المعدن ركاز ، واحتجوا بما رواه البيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وفي الركاز الخمس ، قيل يا رسول الله ، وما الركاز ؟ قال : الذهب والفضة المخلوقان في الأرض يوم خلق الله السماوات والأرض " ، ورده الجمهور بأن الحديث ضعيف ، قال ابن حجر في " التلخيص " : رواه : البيهقي من حديث أبي يوسف ، عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي هريرة مرفوعا ، وتابعه حبان بن علي ، عن عبد الله بن سعيد ، [ ص: 145 ] وعبد الله متروك الحديث ، وحبان ضعيف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل الحديث ثابت في " الصحاح " ، وغيرها بدون الزيادة المذكورة . وقال الشافعي في " الجديد " : يشترط في وجوب الخمس في الركاز أن يكون ذهبا ، أو فضة دون غيرهما ، وخالفه جمهور أهل العلم ، وقال بعض العلماء : إذا كان في تحصيل المعدن مشقة ففيه ربع العشر ، وإن كان لا مشقة فيه فالواجب فيه الخمس ، وله وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية