الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ( الأصل الثاني الذي تبنى عليه أفعال الرب تعالى اللازمة والمتعدية وهو أنه سبحانه هل تقوم به الأمور الاختيارية المتعلقة بقدرته ومشيئته أم لا ؟ فمذهب السلف وأئمة الحديث وكثير من طوائف الكلام والفلاسفة جواز ذلك . وذهب نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة والكلابية من مثبتة الصفات إلى امتناع قيام ذلك به . أما " نفاة الصفات " فإنهم ينفون هذا وغيره ويقولون : هذا كله أعراض والأعراض لا تقوم إلا بجسم والأجسام محدثة فلو قامت به الصفات ; لكان محدثا . أما " الكلابية " فإنهم يقولون : نحن نقول تقوم به الصفات ولا نقول هي أعراض فإن العرض لا يبقى زمانين وصفات الرب تبارك وتعالى عندنا باقية بخلاف الأعراض القائمة بالمخلوقات ; فإن الأعراض عندنا لا تبقى زمانين .

                وأما جمهور العقلاء فنازعوهم في هذا وقالوا : بل السواد والبياض الذي كان موجودا من ساعة هو هذا السواد بعينه كما قد بسط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا التنبيه على مقالات الطوائف في هذا الأصل . قالت " الكلابية " : وأما الحوادث فلو قامت به للزم أن لا يخلو منها فإن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده . وإذا لم يخل منها لزم أن يكون حادثا فإن هذا هو الدليل على حدوث الأجسام . هذا عمدتهم في هذا الأصل ; والذين خالفوهم قد يمنعون المقدمتين كليهما وقد يمنعون واحدة منهما . وكثير من أهل الكلام والحديث منعوا الأولى : كالهشامية والكرامية ; وأبي معاذ وزهير الإبري وكذلك الرازي والآمدي وغيرهما من الأشعرية منعوا المقدمة الأولى وبينوا فسادها ; وأنه لا دليل لمن ادعاها على دعواه . بل قد يكون الشيء قابلا للشيء وهو خال منه ومن ضده كما هو الموجود ; فإن القائلين بهذا الأصل التزموا أن كل جسم له طعم ولون وريح ; وغير ذلك من أجناس الأعراض التي تقبلها الأجسام . فقال جمهور العقلاء : هذا مكابرة ظاهرة ; ودعوى بلا حجة وإنما التزمته الكلابية لأجل هذا الأصل .

                وأما ( المقدمة الثانية ; وهو منع دوام نوع الحادث فهذه يمنعها أئمة السنة والحديث القائلون بأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته ; وأن كلماته لا نهاية لها ; والقائلون بأنه لم يزل فعالا ; كما يقوله البخاري وغيره . والذين يقولون الحركة من لوازم الحياة فيمتنع وجود حياة بلا حركة أصلا ; كما يقوله الدارمي وغيره وقد روى الثعلبي في " تفسيره " بإسناده عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا } لم خلق الله الخلق ؟ فقال : لأن الله كان محسنا بما لم يزل فيما لم يزل إلى ما لم يزل فأراد الله أن يفيض إحسانه إلى خلقه وكان غنيا عنهم لم يخلقهم لجر منفعة ولا لدفع مضرة ولكن خلقهم وأحسن إليهم وأرسل إليهم الرسل حتى يفصلوا بين الحق والباطل فمن أحسن كافأه بالجنة ومن عصى كافأه بالنار .

                وقال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى { وكان الله غفورا رحيما } { وكان الله عليما حكيما } ونحو ذلك قال : كان ولم يزل ولا يزال . ويمنعها أيضا جمهور الفلاسفة ولكن الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية يقولون بامتناعها وهي من الأصول الكبار التي يبتنى عليها الكلام في كلام الله تعالى وفي خلقه . وهذا القول هو أصل الكلام المحدث في الإسلام الذي ذمه السلف والأئمة . فإن أصحاب هذا الكلام في الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم ظنوا أن معنى كون الله خالقا لكل شيء - كما دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم - أنه سبحانه وتعالى لم يزل معطلا لا يفعل شيئا ولا يتكلم بشيء أصلا بل هو وحده موجود بلا كلام يقوله ولا فعل يفعله . ثم إنه أحدث ما أحدث من كلامه ومفعولاته المنفصلة عنه . فأحدث العالم . وظنوا أن ما جاءت به الرسل واتفق عليه أهل الملل - من أن كل ما سوى الله مخلوق والله خالق كل شيء - هذا معناه وأن ضد هذا قول من قال بقدم العالم أو بقدم مادته فصاروا في كتبهم الكلامية لا يذكرون إلا قولين .

                ( أحدهما : قول المسلمين وغيرهم من أهل الملل أن العالم محدث ومعناه عندهم ما تقدم . ( والثاني : قول الدهرية الذين يقولون : العالم قديم وصاروا يحكون في كتب الكلام والمقالات أن مذهب أهل الملل قاطبة من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم أن الله كان فيما لم يزل لا يفعل شيئا ولا يتكلم بشيء ثم إنه أحدث العالم ; ومذهب الدهرية أن العالم قديم . والمشهور عن القائلين بقدم العالم أنه لا صانع له ; فينكرون الصانع جل جلاله . وقد ذكر أهل المقالات أن أول من قال من الفلاسفة بقدم العالم " أرسطو " صاحب التعاليم الفلسفية : المنطقي والطبيعي والإلهي . وأرسطو وأصحابه القدماء يثبتون في كتبهم العلة الأولى ويقولون : إن الفلك يتحرك للتشبه بها ; فهي علة له بهذا الاعتبار إذ لولا وجود من تشبه به الفلك لم يتحرك وحركته من لوازم وجوده فلو بطلت حركته لفسد . ولم يقل أرسطو : إن العلة الأولى أبدعت الأفلاك ; ولا قال هو موجب بذاته كما يقوله من يقول من متأخري الفلاسفة كابن سينا وأمثاله ولا قال : إن الفلك قديم وهو ممكن بذاته ; بل كان عندهم ما عند سائر العقلاء أن الممكن هو الذي يمكن وجوده وعدمه ولا يكون كذلك إلا ما كان محدثا والفلك عندهم ليس بممكن بل هو قديم لم يزل وحقيقة قولهم إنه واجب لم يزل ولا يزال . فلهذا لا يوجد في عامة كتب الكلام المتقدمة القول بقدم العالم إلا عمن ينكر الصانع . فلما أظهر من أظهر من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله أن العالم قديم عن علة موجبة بالذات قديمة صار هذا قولا آخر للقائلين بقدم العالم أزالوا به ما كان يظهر من شناعة قولهم من إنكار صانع العالم وصاروا أيضا يطلقون ألفاظ المسلمين من أنه مصنوع ومحدث ونحو ذلك ولكن مرادهم بذلك أنه معلول قديم أزلي لا يريدون بذلك . أن الله أحدث شيئا بعد أن لم يكن وإذا قالوا : إن الله خالق كل شيء فهذا معناه عندهم ; فصار المتأخرون من المتكلمين يذكرون هذا القول والقول المعروف عن أهل الكلام في معنى حدوث العالم الذي يحكونه عن أهل الملل كما تقدم كما يذكر ذلك الشهرستاني والرازي والآمدي وغيرهم .

                وهذا الأصل الذي ابتدعه الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام من امتناع دوام فعل الله وهو الذي بنوا عليه أصول دينهم وجعلوا ذلك أصل دين المسلمين فقالوا : الأجسام لا تخلو من الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث لأن ما لا يخلو عنها ولا يسبقها يكون معها أو بعدها وما كان مع الحوادث أو بعدها فهو حادث . وكثير منهم لا يذكر على ذلك دليلا لكون ذلك ظاهرا إذ لم يفرقوا بين نوع الحوادث وبين الحادث المعين . لكن من تفطن منهم للفرق فإنه يذكر دليلا على ذلك بأن يقول : الحوادث لا تدوم بل يمتنع وجود حوادث لا أول لها . ومنهم من يمنع أيضا وجود حوادث لا آخر لها كما يقول ذلك إماما هذا الكلام : الجهم بن صفوان وأبو الهذيل : ولما كان حقيقة هذا القول أن الله سبحانه لم يكن قادرا على الفعل في الأزل ; بل صار قادرا على الفعل بعد أن لم يكن قادرا عليه ; كان هذا مما أنكره المسلمون على هؤلاء حتى إنه كان من البدع التي ذكروها : من بدع الأشعري في الفتنة التي جرت بخراسان لما أظهروا لعنة أهل البدع والقصة مشهورة . ثم إن أهل الكلام وأئمتهم كالنظام والعلاف وغيرهما من شيوخ المعتزلة والجهمية ومن اتبعهم من سائر الطوائف يقولون : إن دين الإسلام إنما يقوم على هذا الأصل وأنه لا يعرف أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الأصل ; فإن معرفة الرسول متوقفة على معرفة المرسل فلا بد من إثبات العلم بالصانع أولا ومعرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز عليه . قالوا : وهذا لا يمكن معرفته إلا بهذه الطريقة فإنه لا سبيل إلى معرفة الصانع فيما زعموا إلا بمعرفة مخلوقاته ولا سبيل إلى معرفة حدوث المخلوقات إلا بهذه الطريق فيما زعموا ويقول أكثرهم : أول ما يجب على الإنسان معرفة الله ; ولا يمكن معرفته إلا بهذا الطريق . ويقول كثير منهم : إن هذه طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام المذكورة في قوله { لا أحب الآفلين } قالوا : فإن إبراهيم استدل بالأفول - وهو الحركة والانتقال - على أن المتحرك لا يكون إلها .

                قالوا : ولهذا يجب تأويل ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفا لذلك من وصف الرب بالإتيان والمجيء والنزول وغير ذلك ; فإن كونه نبيا لم يعرف إلا بهذا الدليل العقلي فلو قدح في ذلك لزم القدح في دليل نبوته فلم يعرف أنه رسول الله وهذا ونحوه هو الدليل العقلي الذي يقولون إنه عارض السمع والعقل . ونقول إذا تعارض السمع والعقل امتنع تصديقهما وتكذيبهما وتصديق السمع دون العقل ; لأن العقل هو أصل السمع فلو جرح أصل الشرع كان جرحا له . ولأجل هذه الطريق أنكرت الجهمية والمعتزلة الصفات والرؤية وقالوا : القرآن مخلوق ; ولأجلها قالت الجهمية بفناء الجنة والنار ; ولأجلها قال العلاف بفناء حركاتهم ; ولأجلها فرع كثير من أهل الكلام ; كما قد بسط في غير هذا الموضع . فقال لهم الناس : أما قولكم إن هذه الطريق هي الأصل في معرفة دين الإسلام ونبوة الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام . فإنه من المعلوم لكل من علم حال الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما جاء به من الإيمان والقرآن أنه لم يدع الناس بهذه الطريق أبدا ولا تكلم بها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان فكيف تكون هي أصل الإيمان والذي جاء بالإيمان وأفضل الناس إيمانا لم يتكلموا بها ألبتة ولا سلكها منهم أحد . والذين علموا أن هذه طريق مبتدعة حزبان ; ( حزب ظنوا أنها صحيحة في نفسها لكن أعرض السلف عنها لطول مقدماتها وغموضها وما يخاف على سالكها من الشك والتطويل . وهذا قول جماعة كالأشعري في رسالته إلى الثغر والخطابي والحليمي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي بكر البيهقي وغير هؤلاء . ( والثاني : قول من يقول : بل هذه الطريقة باطلة في نفسها ولهذا ذمها السلف وعدلوا عنها .

                وهذا قول أئمة السلف كابن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ; وأبي يوسف ومالك بن أنس وابن الماجشون عبد العزيز وغير هؤلاء من السلف . وحفص الفرد لما ناظر الشافعي في مسألة القرآن - وقال القرآن مخلوق وكفره الشافعي - كان قد ناظره بهذه الطريقة . وكذلك أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث - كان من المناظرين للإمام أحمد بن حنبل في مسألة القرآن بهذه الطريقة .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية