الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد

                                                          * * *

                                                          هذه أول آية من السورة، وهي تأمر المؤمنين بأن يوفوا بالعهود التي أخذت عليهم بمقتضى الإيمان، وهي الطاعة لله تعالى ولرسوله، والقيام بالتكليفات الشرعية، فالعقد هو كل ما يلتزمه المؤمنون، سواء أكان في الأحكام التكليفية أم من العهود التي يلتزم بها العباد، وبذلك تشمل ما يعقده الإنسان مع غيره من عقود واجبة الوفاء، وما يتبادلان فيه الالتزام، كالبيع والإجارة، وغيرهما، وتشمل ما يلتزمه المؤمن من صدقات، وما يلزمه الوفاء به بحكم الإيمان، فإن الإيمان ميثاق يلتزم فيه العبد بالطاعة، فإذا عصى فقد نقض ذلك الميثاق، وذلك كما كان [ ص: 2009 ] يفعل اليهود من نقض للمواثيق المؤكدة، وإن الأصل اللغوي لمعنى كلمة عقد أنه ربط لطرفي شيء، ومنه العقدة، وقد أطلق على الربط بين كلامين كالعقود القائمة، وأطلقه القرآن كما في هذا النص على كل الأحكام الواجبة الطاعة لها; لأنها تشمل معنى الربط; لأن المؤمن بمقتضى إيمانه قد عاهد الله تعالى على طاعته، والأخذ بكل ما يأمر به، وبكل ما ينهى عنه، وقد جمع الراغب الأصفهاني معنى كلمة عقد فقال: "العقد: الجمع بين أطراف الشيء، ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل، وعقد البناء، ثم يستعار للمعاني فيقال نحو عقد البيع والعهد وغيرهما، يقال: عاقدته، وعقدته، وتعاقدنا، وعقدت يمينه ...".

                                                          والعقد على هذا: كل ارتباط يرتبط به المؤمن بموجب النقل أو بموجب العقل، وهو ما يدركه بالبديهة وأدنى نظر، سواء أكان بينه وبين نفسه بمقتضى إيمانه وخلقه وإنسانيته، أم كان بينه وبين غيره، وكل هذا واجب الوفاء بحكم الله تعالى، فأوامر الله تعالى ونواهيه واجبة الوفاء، وعقود الإنسان مع غيره واجبة الوفاء إلا أن يكون فيها مخالفة لأمر الله تعالى ونهيه، فكل اتفاق على خلاف ذلك رد على صاحبه، ولا وفاء فيه، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا" ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو كان مائة شرط" ولأن تنفيذ العقود التي تتضمن خلاف ما جاء عليه الشرع يكون تنفيذها نقضا لعهد المؤمن الذي يجب تنفيذه، وهو طاعة [ ص: 2010 ] الله تعالى ورسوله، وعهد الله تعالى أولى بالوفاء; ولأن عقود الناس تستمد قوة الوفاء من أمر الله، فلا يصح أن تكون على خلافه.

                                                          فالعقد: معناه في اللغة العربية ضم طرف إلى طرف، وربطهما ربطا محكما. يقال: عقد الرجل طرفي الحبل أو الحبلين إذا ربط أحدهما بالآخر، وضده الحل أي فك هذا الربط، وسمي الإيجاب والقبول عقدا لأنهما يضمان إرادتي المتعاقدين، ويربطان أحدهما بالآخر.

                                                          والعقد معناه في استعمال القرآن الارتباط، والعقود والعهود والمواثيق والمعاهدات والمحالفات والتعهدات والاتفاقات والالتزامات كلها في استعمال القرآن والاصطلاح الشرعي ألفاظ متقاربة المعنى المراد بها الارتباطات، سواء أكانت ارتباطات بين أفراد أو حكومات أو جماعات، وسواء أكانت ارتباطات على عمل أو على كف عن عمل. والفروق التي يقررها علماء القانون الدولي لهذه الألفاظ لا تعرف في الاصطلاح الشرعي.

                                                          والإيفاء بالعقد معناه تنفيذ ما يقتضيه والقيام بما يوجبه وافيا تاما غير منقوص، والإيفاء بالعقد والوفاء به والتوفية به ألفاظ مترادفة معناها واحد.

                                                          والمعنى بالإجمال: يا أيها المؤمنون نفذوا ارتباطاتكم، وقوموا بما تعاقدتم على القيام به وافيا تاما. وقد ذكر سبحانه العقود التي أمر بالإيفاء بها بصيغة العموم ولم يخصصها بنوع لتشمل كل ارتباط يرتبط به المؤمن، سواء أكان ارتباطه مع ربه أم ارتباطه مع نفسه أم ارتباطه مع فرد آخر، وسواء أكان ارتباط جماعتهم أو حكومتهم على عمل، أو كف عن عمل; ولهذا قال المحققون من المفسرين: العقود التي أمر الله المؤمنين أن يوفوا بها تشمل أربعة أنواع:

                                                          الأول: العقود التي عقدها المؤمن مع ربه بسبب إيمانه. فكل من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد التزم لله بأن يطيعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وإحلال ما أحله وتحريم ما حرمه. فهذا عقد بين المؤمن وربه.

                                                          وسبب الالتزام فيه إيمانه. وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله: [ ص: 2011 ] واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا وبقوله: الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق [الرعد].

                                                          الثاني: العقود التي عقدها المؤمن مع نفسه بسبب حلفه على أن يفعل فعلا أو يكف عن فعل، أو نذره أن يفعل فعلا أو يكف عن فعل; فكل من حلف على فعل أو كف عن فعل أو نذر فعلا أو كفا عن فعل فقد التزم أن يبر بيمينه، وأن يوفي بنذره. وسبب الالتزام يمينه أو نذره. وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله: وليوفوا نذورهم [الحج].

                                                          الثالث: العقود التي يعقدها الأفراد بعضهم مع بعض من بيع وإجارة ورهن وشركة ومضاربة وزواج ونحوها; فكل من ارتبط مع غيره بعقد فعليه أن ينفذ موجب هذا العقد ولا يخل بشيء مما يقتضيه، وسبب الالتزام عقده بإرادته واختياره.

                                                          الرابع: العقود التي تعقدها الحكومة الإسلامية مع غيرها من الحكومات في السلم والحرب، فإذا تعاقدت دولة إسلامية مع أية دولة على أحكام عسكرية أو مدنية، دفاعية أو هجومية، إيجابية أو سلبية، فعلى الحكومة أن توفي بعقودها، وتنفذ التزاماتها.

                                                          فالله سبحانه أمر المؤمنين بأن يوفوا بكل الارتباطات التي يرتبطون بها أفرادا أو جماعات أو حكومات، مع ربهم، أو مع أنفسهم، أو مع أبناء نوعهم.

                                                          قال الإمام أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص المتوفى سنة (370 هـ) في كتابه في تفسير آيات الأحكام: العقد ما يعقده العاقد مع نفسه على أمر يفعله هو، أو ما يعقده مع غيره، ويسمى اليمين على المستقبل عقدا، لأن الحالف قد ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من فعل أو ترك. وكذلك العهد والأمان، لأن معطيه قد ألزم نفسه الوفاء به. وكذلك كل شرط شرطه الإنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد. وكذلك النذر وإيجاب القرب وما جرى مجرى [ ص: 2012 ] ذلك. وقد اشتمل قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود على كل ذلك، وعلى إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس، وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان. ثم قال: ومتى اختلفنا في جواز عقد من العقود أو فساده أو في صحة نذر ولزومه صح الاحتجاج على جوازه ولزومه بعموم قوله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود

                                                          وإذا تعارض الإيفاء بعقد من هذه الأنواع الأربعة مع الإيفاء بعقد آخر منها، وجب على المؤمن أن يوفي بعقده مع ربه، ولا يجب عليه أن يوفي بعقده مع نفسه أو مع غيره إذا كان إيفاؤه بعقد منهما يخل بإيفائه بعقد ربه. فإذا حلف على ما فيه مخالفة أمر ربه فليحنث في يمينه وليوف عقده مع ربه ولا يوف بما حلف عليه; ولهذا ورد في الحديث "من حلف على شيء ورأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه". وإذا عقد عقدا أو شرط شرطا يقضي بتحليل محرم أو تحريم حلال أو التزام بباطل شرعا فعليه أن يوفي بعقده مع ربه ولا يوفي بما يخالفه من عقود وشروط; ولهذا ورد في الحديث: "المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا".

                                                          وقد خاطب الله المخاطبين في أمرهم بالإيفاء بالعقود بوصف الإيمان ليشير إلى أن الإيفاء بالعقود مما يقتضيه الإيمان، وفي هذا حث على امتثال الأمر والإيفاء بالعقد. وهذا الذي أشار إليه القرآن صرح به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنته إذ عد الوفاء بالعهود من شعائر الإيمان وآيات المؤمن، ففي الحديث: "آية المؤمن ثلاث: إذا حدث صدق، وإذا اؤتمن أدى، وإذا وعد وفى" وكما ذكرهم بإيمانهم في بدء هذه السورة إذ أمرهم بالإيفاء بالعقود جملة، ذكرهم بإيمانهم في [ ص: 2013 ] أمرهم بكل عقد فصله فيها. ففي تفصيل ما حرمه قال:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية