الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم بعد بيان بعض آياته في أنفسهم بذكر المبدأ والمنتهى ذكرهم بآياته في الآفاق فقال : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) فالكلام على اتصاله وترتيبه وانتظام جواهره في سلك أسلوبه ، فليس في قوله : ( كيف تكفرون ) . . . إلخ ، انتقال لإثبات البعث كما قال بعض المفسرين غفلة عن هذا الاتصال المتين ، ولعمري إن وجوه الاتصال بين الآيات وما فيها من دقائق المناسبات لهي ضرب من ضروب البلاغة ، وفن من فنون الإعجاز ، إذا أمكن للبشر الإشراف عليه فلا يمكنهم البلوغ إليه ، والكلام في البعث في القرآن كثير جدا فلا حاجة إلى الإسراع إليه هنا .

                          يصور لنا قوله - تعالى - : ( خلق لكم ) قدرته الكاملة ، ونعمه الشاملة ، وأي قدرة أكبر من قدرة الخالق ؟ وأي نعمة أكمل من جعل كل ما في الأرض مهيئا لنا ومعدا لمنافعنا ؟ وللانتفاع بالأرض طريقان : ( أحدهما ) الانتفاع بأعيانها في الحياة الجسدية . ( وثانيهما ) النظر والاعتبار بها في الحياة العقلية ، والأرض : هي ما في الجهة السفلى ، أي ما تحت أرجلنا ، كما أن المراد بالسماء : كل ما في الجهة العليا ، أي فوق رءوسنا وإننا ننتفع بكل ما في الأرض برها وبحرها من حيوان ونبات وجماد ، وما لا تصل إليه أيدينا ننتفع فيه بعقولنا بالاستدلال به على قدرة مبدعه وحكمته ، والتعبير بـ " في " يتناول ما في جوف الأرض من المعادن بالنص الصريح .

                          ( وأقول هنا ) : إن هذه الجملة هي نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء " إن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة " والمراد إباحة الانتفاع بها أكلا وشربا ولباسا وتداويا وركوبا وزينة ، وبهذا التفصيل تدخل الأشياء التي يضر استعمالها في بعض الأشياء وينفع في بعض ، كالسموم التي يضر أكلها وشربها وينفع التداوي بها ، وليس لمخلوق حق في تحريم شيء أباحه الرب لعباده تدينا به إلا بوحيه وإذنه ( قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ) ( 10 : 59 ) وما يحظره الطبيب على المريض من طعام حلال في نفسه ، وما يمنع الحاكم العادل الناس من التصرف فيه من المباحات لدفع مفسدة أو رعاية مصلحة فليس من التحريم الديني للشيء ولا يكون دائما ، وإنما يتبعان في ذلك كما يأمران به بحق وعدل ما دامت علته قائمة .

                          قال - تعالى - : ( ثم استوى إلى السماء ) يقال استوى إلى الشيء : إذا قصد إليه قصدا مستويا خاصا به لا يلوي على غيره ، وقال الراغب : إذا تعدى استوى بـ " إلى " اقتضى الانتهاء [ ص: 207 ] إلى الشيء إما بالذات وإما بالتدبير ، والمراد أن إرادته توجهت إلى مادة السماء كما قال في سورة فصلت : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) ( 41 : 11 ) . . . إلخ ، ( فسواهن سبع سماوات ) فأتم خلقهن من تلك المادة الدخانية فجعلهن سبع سماوات تامات منتظمات الخلق ، وهذا الترتيب يوافق ما كان معروفا عند اليهود عن سيدنا موسى - عليه السلام - من أن الله - تعالى - خلق الأرض أولا ، ثم خلق السماوات والنور ، ولا مانع من الأخذ بظاهر الآية فإن الخلق غير التسوية ، ألا ترى أن الإنسان في طور النطفة والعلقة يكون مخلوقا ولكنه لا يكون بشرا سويا في أحسن تقويم ، كما يكون عند إنشائه خلقا آخر ، وسنبين - إن شاء الله - تعالى - عند تفسير قوله - تعالى - : ( أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) ( 21 : 30 ) أن العالم كان شيئا واحدا ثم فصله الله - تعالى - بالخلق تفصيلا وقدره تقديرا ، فلا مانع إذن من أن يكون خلق الأرض وما فيها سابقا على تسوية السماء سبعا ، نعم إن هذا من أسرار الخلقة التي لا نعرفها ، وربما يتوهم أن هذه الآية تناقض أو تخالف قوله - تعالى - بعد ذكر خلق السماء وأنوارها : ( والأرض بعد ذلك دحاها ) ( 79 : 30 ) والجواب عنه من وجهين : ( أحدهما ) أن البعدية ليست بعدية الزمان ولكنها البعدية في الذكر وهي معروفة في كلام العرب وغيرهم ، فلا بعد في أن تقول فعلت كذا لفلان وأحسنت عليه بكذا ، وبعد ذلك ساعدته في عمل كذا ، كما تقول : وزيادة على ذلك في عمله ، تريد نوعا آخر من أنواع الإحسان ، من غير ملاحظة التأخر في الزمان . ( ثانيهما ) أن الذي كان بعد خلق السماء هو دحو الأرض أي جعلها ممهدة مدحوة قابلة للسكنى والاستعمار لا مجرد خلقها وتقدير أقواتها فيها ، وخلق الله وتقديره لم ينقطع من الأرض ولا ينقطع منها ما دامت ، وكذلك يقال في غيرها .

                          ( وأزيد على ذلك الآن ) أن الدحو في أصل اللغة : دحرجة الأشياء القابلة للدحرجة كالجوز والكرى والحصا ورميها ، ويسمون المطر الداحي ؛ لأنه يدحو الحصا ، وكذا اللاعب بالجوز ، وفي حديث أبي رافع ( ( كنت ألاعب الحسن والحسين رضوان الله عليهما بالمداحي ) ) وهي أحجار أمثال القرصة كانوا يحفرون ويدحون فيها بتلك الأحجار ، فإن وقع الحجر فيها غلب صاحبها وإن لم يقع غلب ، ذكره في اللسان ، وقال بعده الدحو : هو رمي اللاعب بالحجر والجوز وغيره ، وأقول : إن ما ذكره وأعاد القول فيه من لعبة الدحو بالحجارة المستديرة كالقرصة لا يزال مألوفا عند الصبيان في بلادنا ويسمونه لعب الأكرة ، ويحرفها بعضهم فيقول : الدكرة . وقال الراغب في مفردات القرآن قال - تعالى - : ( والأرض بعد ذلك دحاها ) ( 79 : 30 ) أي أزالها عن مقرها كقوله : ( يوم ترجف الأرض والجبال ) ( 73 : 14 ) وهو من قولهم دحا المطر الحصا . . . إلخ ، ولكن فرقا بين دحو الأرض ودحرجتها من مكانها عند التكوين ، ورجفها قبيل خرابها عند قيام الساعة . وقد يكون المراد به - والله أعلم - أنه دحاها عندما [ ص: 208 ] فتقها هي والسماوات من المادة الدخانية التي كانت رتقا ، وفيه دلالة أو إشارة - على الأقل - إلى أنها كرة أو كالكرة في الاستدارة ، وإلا يبعد أن يكون المراد بدحوها ودحرجتها حركتها بقدرته - تعالى - في فلكها ( وكل في فلك يسبحون ) ( 36 : 40 ) وهذا لا ينافي ما قيل من أن معناه بسطها أي وسعها ومد فيها ، وأنه سطحها أي جعل لها سطحا واسعا يعيش عليه الناس وغيرهم ، فمن جعل مسألة كرويتها وسطحها أمرين متعارضين يقول بكل منهما قوم يطعنون في الآخرين فقد ضيقوا من اللغة والدين واسعا بقلة بضاعتهم فيهما معا .

                          وحاصل القول : أن الله - تعالى - خلق هذه الأرض وهذه السماوات التي فوقنا بالتدريج وما أشهدنا خلقهن ، وإنما ذكر لنا ما ذكره للاستدلال على قدرته وحكمته وللامتنان علينا بنعمته ، لا لبيان تاريخ تكوينهما بالترتيب ؛ لأن هذا ليس من مقاصد الدين ، فابتداء الخلق غير معروف ولا ترتيبه ، إلا أن تسوية السماء سبع سماوات يظهر أنه كان بعد تكوين الأرض ، ويظهر أن السماء كانت موجودة إلا أنها لم تكن سبعا ، ولذلك ذكر الاستواء إليها وقال : ( فسواهن سبع سماوات ) ( 2 : 29 ) فنؤمن بأنه فعل ذلك لحكم يعلمها ، وقد عرض علينا ذلك لنتدبر ونتفكر ، فمن أراد أن يزداد علما فليطلبه من البحث في الكون ( وعليه بدراسة ما كتب الباحثون فيه من قبل ، وما اكتشف المكتشفون من شئونه وليأخذ من ذلك بما قام عليه الدليل الصحيح لا بما يتخرص به المتخرصون ويخترعونه من الأوهام والظنون ) وحسبه أن الكتاب أرشده إلى ذلك وأباحه له .

                          هذه الإباحة للنظر والبحث في الكون ، بل هذا الإرشاد إليها بالصيغ التي تبعث الهمم وتشوق النفوس ، ككون كل ما في الأرض مخلوقا لنا محبوسا على منافعنا هو مما امتاز به الإسلام في ترقية الإنسان ، فقد خاطبنا القرآن بهذا على حين أن أهل الكتاب كانوا متفقين في تقاليدهم وسيرتهم العملية على أن العقل والدين ضدان لا يجتمعان ، والعلم والدين خصمان لا يتفقان ، وأن جميع ما يستنتجه العقل خارجا عن نص الكتاب فهو باطل .

                          ولذلك جاء القرآن يلح أشد الإلحاح بالنظر العقلي ، والتفكر والتدبر والتذكر ، فلا تقرأ منه قليلا إلا وتراه يعرض عليك الأكوان ، ويأمرك بالنظر فيها واستخراج أسرارها ، واستجلاء حكم اتفاقها واختلافها ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ) ( 10 : 101 ) ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) ( 29 : 20 ) ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ) ( 22 : 46 ) ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) ( 88 : 17 ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا ، وإكثار القرآن من شيء دليل على تعظيم شأنه ووجوب الاهتمام به ، ومن فوائد الحث على النظر في الخليقة - للوقوف على أسرارها بقدر الطاقة واستخراج علومها لترقية النوع الإنساني الذي خلقت هي لأجله - مقاومة تلك التقاليد [ ص: 209 ] الفاسدة التي كان عليها أهل الكتاب فأودت بهم وحرمتهم من الانتفاع بما أمر الله الناس أن ينتفعوا به .

                          كانت أوروبا المسيحية في غمرة من الجهل وظلمات من الفتن ، تسيل الدماء فيها أنهارا لأجل الدين وباسم الدين وللإكراه على الدين ، ثم فاض طوفان تعصبها على المشرق ، ورجعت بعد الحروب الصليبية تحمل قبسا من دين الإسلام وعلوم أهله ، فظهر فيهم بعد ذلك قوم قالوا : إن لنا الحق في أن نتفكر وأن نعلم وأن نستدل ، فحاربهم الدين ورجاله حربا عوانا انتهت بظفر العلم ورجاله بالدين ورجاله ، وبعد غسل الدماء المسفوكة قام - منذ مائتي سنة إلى اليوم - رجال منهم يسمون هذه المدنية القائمة على دعائم العلم : المدنية المسيحية ، ويقولون بوجوب محق سائر الأديان ومحوها - بعد انهزامها - من أمام الدين المسيحي ؛ لأنها لا تتفق مع العلم وفي مقدمتها الدين الإسلامي ، وحجتهم على ذلك حال المسلمين ، نعم إن المسلمين أمسوا وراء الأمم كلها في العلم حتى سقطوا في جاهلية أشد جهلا من الجاهلية الأولى ، فجهلوا الأرض التي هم عليها ، وضعفوا عن استخراج منافعها ، فجاء الأجنبي يتخطفها من بين أيديهم وهم ينظرون ، وكتابهم قائم على صراطه يصيح بهم : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) ( 2 : 29 ) ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ) ( 45 : 13 ) ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ) ( 7 : 32 ) الآيات . وأمثال ذلك . ولكنهم ( صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) ( 2 : 171 ) إلا من رحم الله ، ولو عقلوا لعادوا ، ولو عادوا لاستفادوا وبلغوا ما أرادوا ، وها نحن أولاء نذكرهم بكلام الله لعلهم يرجعون ، ولا نيأس من روح الله ( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) ( 12 : 87 ) .

                          ثم ختم الآية سبحانه وتعالى بقوله : ( وهو بكل شيء عليم ) ( 2 : 29 ) أي فهو المحيط بكيفية التكوين وحكمته وبما ينفع الناس بيانه ، وإذا كان العاقل يدرك أن هذا النظام المحكم لا يكون إلا من عليم حكيم ، فكيف يصح له أن ينكر عليه أن يرسل من يشاء من خلقه لهداية من شاء من عباده ؟ فهذا الآخر يتصل بأول الآية في تقرير رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم ، وإبطال شبه الذين أنكروا أن يكون البشر رسولا ، والذين أنكروا أن يكون من العرب رسول ؛ لأن قصارى ذلك كله اعتراض الجاهلين على من هو بكل شيء عليم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية