الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          633 - مسألة : والاعتكاف جائز في كل مسجد جمعت فيه الجمعة أو لم تجمع ، سواء كان مسقفا أو مكشوفا ، فإن كان لا يصلى فيه جماعة ولا له إمام : لزمه فرضا الخروج لكل صلاة إلى المسجد تصلى فيه جماعة إلا أن يبعد منه بعدا يكون عليه فيه حرج فلا يلزمه .

                                                                                                                                                                                          وأما المرأة التي لا يلزمها فرض الجماعة فتعتكف فيه ؟ ولا يجوز الاعتكاف في رحبة المسجد إلا أن تكون منه .

                                                                                                                                                                                          ولا يجوز للمرأة ، ولا للرجل : أن يعتكفا - أو أحدهما - في مسجد داره ؟

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك - : قول الله تعالى : { وأنتم عاكفون في المساجد } فعم الله تعالى ولم يخص - : فإن قيل : قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } ؟

                                                                                                                                                                                          قلنا : نعم ، بمعنى أنه تجوز الصلاة فيه ، وإلا فقد جاء النص والإجماع بأن البول والغائط جائز فيما عدا المسجد .

                                                                                                                                                                                          فصح أنه ليس لما عدا المسجد حكم المسجد .

                                                                                                                                                                                          فصح أن لا طاعة في إقامة في غير المسجد .

                                                                                                                                                                                          فصح أن لا اعتكاف إلا في مسجد ، وهذا يوجب ما قلنا ؟ وقد اختلف الناس في هذا - : فقالت طائفة : لا اعتكاف إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ، أحسبه عن سعيد بن المسيب قال : لا اعتكاف إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 429 ] قال أبو محمد : إن لم يكن قول سعيد فهو قول قتادة ، لا شك في أحدهما .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا اعتكاف إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة فقط .

                                                                                                                                                                                          كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال : لا جوار إلا في مسجد مكة ، ومسجد المدينة ، قلت له : فمسجد إيليا ؟ قال : لا تجاور إلا في مسجد مكة ، ومسجد المدينة ؟

                                                                                                                                                                                          وقد صح عن عطاء : أن الجوار هو الاعتكاف .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا اعتكاف إلا في مسجد مكة ، أو مسجد المدينة ، أو مسجد بيت المقدس .

                                                                                                                                                                                          كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن واصل الأحدب عن إبراهيم النخعي قال : جاء حذيفة إلى عبد الله بن مسعود فقال له : ألا أعجبك من ناس عكوف بين دارك ودار الأشعري ؟ فقال له عبد الله : فلعلهم أصابوا وأخطأت ، فقال له حذيفة : ما أبالي ، أفيه أعتكف ، أو في سوقكم هذه ، إنما الاعتكاف في هذه المساجد الثلاثة : مسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، والمسجد الأقصى ؟ قال إبراهيم : وكان الذين اعتكفوا فعاب عليهم حذيفة - : في مسجد الكوفة الأكبر ؟

                                                                                                                                                                                          ورويناه أيضا من طريق عبد الرزاق عن ابن عيينة عن جامع بن أبي راشد قال : سمعت أبا وائل يقول : قال حذيفة لعبد الله بن مسعود : قوم عكوف بين دارك ودار أبي موسى ، ألا تنهاهم ؟ فقال له عبد الله : فلعلهم أصابوا وأخطأت ، وحفظوا ونسيت ، فقال أبو حذيفة : لا اعتكاف إلا في هذه المساجد الثلاثة : مسجد المدينة ، ومسجد مكة ، ومسجد إيلياء ؟

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا اعتكاف إلا في مسجد جامع ؟

                                                                                                                                                                                          روينا هذا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء ، وهو أول قوليه ؟

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا اعتكاف إلا في مصر جامع ؟

                                                                                                                                                                                          [ ص: 430 ] كما روينا من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال : لا اعتكاف إلا في مصر جامع

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا اعتكاف إلا في مسجد نبي ؟ كما روينا من طريق ابن الجهم : ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا عبيد الله بن عمر وهو القواريري - ثنا معاذ بن هشام الدستوائي ثنا أبي عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال : لا اعتكاف إلا في مسجد نبي

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة ؟

                                                                                                                                                                                          كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري ، ومعمر ، قال سفيان : عن جابر الجعفي عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب ، وقال معمر : عن هشام بن عروة ويحيى بن أبي كثير ، ورجل ، قال هشام : عن أبيه ، وقال يحيى : عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وقال الرجل : عن الحسن ، قالوا كلهم : لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة ؟ وصح عن إبراهيم وسعيد بن جبير وأبي قلابة : إباحة الاعتكاف في المساجد التي لا تصلى فيها الجمعة ، وهو قولنا ، لأن كل مسجد بني للصلاة فإقامة الصلاة فيه جائزة فهو مسجد جماعة ؟

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : الاعتكاف جائز في كل مسجد ، ويعتكف الرجل في مسجد بيته

                                                                                                                                                                                          روينا ذلك عن عبد الرزاق عن إسرائيل عن رجل عن الشعبي قال : لا بأس أن يعتكف الرجل في مسجد بيته

                                                                                                                                                                                          وقال إبراهيم ، وأبو حنيفة : تعتكف المرأة في مسجد بيتها ؟

                                                                                                                                                                                          وقال أبو محمد : أما من حد مسجد المدينة وحده ، أو مسجد مكة ومسجد المدينة ، أو المساجد الثلاثة ، أو المسجد الجامع فأقوال لا دليل على صحتها فلا [ ص: 431 ] معنى لها هو تخصيص لقول الله تعالى : { وأنتم عاكفون في المساجد } .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : فأين أنتم عما رويتموه من طريق سعيد بن منصور : نا سفيان هو ابن عيينة - عن جامع بن أبي راشد عن شقيق بن سلمة قال : قال حذيفة لعبد الله بن مسعود : قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو قال مسجد جماعة } ؟ قلنا : هذا شك من حذيفة أو ممن دونه ، ولا يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشك ، ولو أنه عليه السلام قال : " لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة " لحفظه الله تعالى علينا ، ولم يدخل فيه شكا .

                                                                                                                                                                                          فصح يقينا أنه عليه السلام لم يقله قط

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : فقد رويتم من طريق سعيد بن منصور : نا هشيم أنا جويبر عن الضحاك عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كل مسجد فيه إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصلح } .

                                                                                                                                                                                          قلنا : هذه سوأة لا يشتغل بها ذو فهم ، جويبر هالك ، والضحاك ضعيف ولم يدرك حذيفة .

                                                                                                                                                                                          وأما قول إبراهيم ، وأبي حنيفة ، فخطأ ، لأن مسجد البيت لا يطلق عليه اسم مسجد ، ولا خلاف في جواز بيعه ، وفي أن يجعل كنيفا ؟

                                                                                                                                                                                          وقد صح أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفن في المسجد ، وهم يعظمون خلاف الصاحب ، ولا مخالف لهن من الصحابة ؟

                                                                                                                                                                                          فقال بعضهم : إنما كان ذلك لأنهن كن معه عليه السلام ؟

                                                                                                                                                                                          فقلنا : كذب من قال هذا وافترى بغير علم ، وأثم ؟

                                                                                                                                                                                          [ ص: 432 ] واحتج أيضا بقول عائشة : لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع النساء لمنعهن المساجد .

                                                                                                                                                                                          وقد ذكرنا في كتاب الصلاة بطلان التعلق بهذا الخبر ، وأقرب ذلك بأنه لا يحل ترك ما لم يتركه النبي صلى الله عليه وسلم ولا المنع مما لم يمنع منه عليه السلام - : لظن أنه لو عاش لتركه ومنع منه ، وهذا إحداث شريعة في الدين ، وأم المؤمنين القائلة هذا لم تر قط منع النساء من المساجد فظهر فساد قولهم - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية