الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1371 [ ص: 8 ] حديث أول لمحمد بن يحيى بن حبان

مالك عن محمد بن يحيى بن حبان ، وعن أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الملامسة والمنابذة

التالي السابق


( قال أبو عمر : هكذا هذا الحديث في الموطأ عند جماعة رواته بهذا الإسناد ) ، وقد روى فيه مسلم بن خالد عن مالك إسنادا آخر ( محفوظا أيضا ) من حديث ابن شهاب وإن كان غير معروف لمالك .

حدثنا خلف بن قاسم : حدثنا أحمد بن أحمد بن الحسن بن إسحاق بن عتبة الرازي : حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح بن صفوان السهمي : حدثنا أبي : حدثنا مسلم بن خالد الزنجي : أخبرنا مالك بن أنس وزياد عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الملامسة والمنابذة . والملامسة : لمس الرجل الثوب [ ص: 9 ] لا ينظر إليه ولا يخبر عنه ، والمنابذة أن يطرح الرجل الثوب إلى الرجل قبل أن يقلبه وينظر إليه ، هكذا جاء هذا التفسير في درج هذا الحديث ، وقد فسر مالك في الموطأ بمثل ذلك المعنى ، وذكر الدارقطني هذا الخبر عن أبي العباس أحمد بن الحسن الرازي بإسناده مثله إلا أنه قال في موضع " وزياد " وابن زياد ، وقال : هو عبد الله بن زياد بن سمعان المزني ، متروك الحديث ، وهذا وهم وغلط وظن لا يغني من الحق شيئا ، وليس ذكر ابن زياد في هذا الحديث له وجه ، وإنما هو زياد لا ابن زياد ، وهو زياد بن سعد الخراساني ، والله أعلم . وقال مالك بأثر هذا الحديث : والملامسة أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره ، ولا يتبين ما فيه ، أو يبتاعه ليلا وهو لا يعلم ما فيه . قال : والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه ، وينبذ الرجل الآخر ( إليه ) ثوبه على غير تأمل منهما ، ويقول كل واحد منهما لصاحبه : هذا بهذا ، فهذا الذي نهى عنه من الملامسة والمنابذة ) .

قال أبو عمر : في هذا الحديث على المعنى الذي فسره مالك دليل على أن بيع من باع ما لا يقف على عينه ولا يعرف مبلغه من كيل أو وزن أو ذرع أو عدد أو شراء من اشترى [ ص: 10 ] ما لا يعرف قدره ، ولا عينه ، ولا وقف عليه فتأمله ولا اشتراه على صفة باطل ، وهو عندي داخل تحت جملة ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيع الغرر والملامسة وقد جاء نحو هذا التفسير مرفوعا في الحديث من حديث أبي سعيد الخدري .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا المطلب بن شعيب ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني يونس عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عامر بن سعد أن أبا سعيد الخدري قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبستين ، وعن بيعتين ; نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع ; والملامسة : لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل والنهار ولا يقلبه إلا بذلك ، والمنابذة : أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه ، ويكون ذلك بيعهما على غير نظر ولا تراض ، هكذا روى هذا الحديث يونس عن ابن شهاب عن عامر بن سعد عن أبي سعيد الخدري [ ص: 11 ] حدث به عنه ابن وهب وعنبسة ، والليث ولم يذكر بعضهم فيه هذا التفسير وقد يمكن أن يكون التفسير قول الليث أو لابن شهاب ، فالله أعلم .

وروى هذا الحديث معمر وابن عيينة عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري ، وليس في حديثهما التفسير الذي في حديث الليث عن يونس ، وهو تفسير مجتمع عليه لا تدافع ولا تنازع فيه ، والملامسة والمنابذة بيوع كان أهل الجاهلية يتبايعونها ، وهي ما تقدم وصفه ، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها ، وهي كلها داخلة تحت الغرر ( والقمار ) فلا يجوز شيء منها بحال .

وقد روى هذا الحديث جعفر بن برقان عن الزهري عن سالم عن أبيه فأخطأ في إسناده عند أهل العلم بالحديث ، وفسره أيضا تفسيرا بمعنى ما تقدم .

حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا كثير [ ص: 12 ] بن هشام قال : نا جعفر بن برقان عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين ; عن الملامسة ، والمنابذة ، وهي بيوع كانوا يتبايعون بها في الجاهلية قال كثير : فقلت لجعفر : ما المنابذة وما الملامسة ؟ قال : المنابذة أن يقول الرجل للرجل إذا نبذته إليك فهو لك بكذا وكذا ، والملامسة أن يعطى للرجل الشيء ثم يلمسه المشتري وهو مغطى لا يراه .

قال أبو عمر : الأصل في هذا الباب كله النهي عن القمار والمخاطرة ، وذلك الميسر المنهي عنه مع نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر وعن بيع الحصاة ، ومعنى بيع الحصاة : أنهم ( كانوا ) يقولون ، إذا تبايعوا بيع الحصاة في أشياء حاضرة العين : أي شيء منها وقعت عليه حصاتي هذه فهو لك بكذا ، ثم يرمي الحصاة . هذا كله ( كان ) من بيوع أهل الجاهلية ، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها ، وقال مالك في الساج المدرج في جرابه والثوب القبطي المدرج : إنه لا يجوز بيعهما حتى ينشر أو ينظر إلى ما في أجوافهما ، وذلك أن بيعهما من بيع الغرر وهو من الملامسة ، قال : وفرق بين ذلك وبين بيع البز وغيره في الأعدال على البرنامج الأمر المعمول به من عمل الماضين .

[ ص: 13 ] ( وعند مالك وأصحابه من الملامسة البيع من الأعمى على اللمس بيده ، وبيع البز وسائر السلع ليلا دون صفة . قال الشافعي في تفسير الملامسة والمنابذة نحو قول مالك ) قال الشافعي : معنى الملامسة : أن يأتيه بالثوب مطويا فيلمسه المشتري ، أو يأتيه به في ظلمة فيقول رب الثوب أبيعك هذا على أنه إذا وجب البيع فنظرت إليه فلا خيار لك ، والمنابذة : أن يقول : أنبذ إليك ثوبي هذا وتنبذ إلي ثوبك على أن كل واحد منهما بالآخر ، ولا خيار إذا عرفنا الطول والعرض فهذا يدل من قوله على أن الملامسة والمنابذة لو كان فيهما خيار الرؤية والنظر لم يبطل ، والله أعلم .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : الملامسة والمنابذة بيعان لأهل الجاهلية ; كان إذا وضع يده على ما ساوم به ملكه بذلك صاحبه ، وإذا نبذه إليه ملكه ثمنه عليه وإن لم تطب نفسه ، فكان ذلك يجري مجرى القمار ، لا على جهة التبايع .

وقال الزهري : الملامسة أن القوم كانوا يتبايعون السلع ولا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها ، والمنابذة أن يتنابذ القوم السلع ولا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها ، فهذا من أبواب القمار .

[ ص: 14 ] قال أبو عمر ، في قول الزهري : هذا إجازة للبيع على الصفة ، ألا ترى إلى قوله ولا يخبرون ( عنها ) ؟ وقال ربيعة : الملامسة والمنابذة من أبواب القمار .

قال أبو عمر : أبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان عليه أهل الجاهلية من أخذ الشيء على وجه القمار ، وإباحته بالتراضي ، وبذلك نطق القرآن في قوله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيوع كثيرة ، وإن تراضى بها المتبايعان كلها أو أكثرها مذكورة في كتابنا هذا في مواضعها والحمد لله . ( والحكم في بيع الملامسة والمنابذة كله ، وما كان مثله ، إن أدرك فسخ وإن فات رد إلى قيمته يوم قبض بالغا ما بلغ ) .

واختلف الفقهاء من هذا الباب في البيع على البرنامج ، وهو بيع ثياب أو سلع غيرها على صفة موصوفة ، والثياب حاضرة لا يوقف على عينها لغيبتها في عدلها ولا ينظر إليها ; فأجاز ذلك مالك وأكثر أهل المدينة إذا كان فيه الذرع والصفة ، فإن وافقت الثياب الصفة لزمت المبتاع على ما أحب أو كره وهذا ( عنده ) من باب بيع الغائب على الصفة لمغيب الثياب [ ص: 15 ] والمتاع في الأعدال ، وقال أبو حنيفة والشافعي وجماعة : لا يجوز البيع على البرنامج البتة ; لأنه بيع عين حاضرة غير مرئية ( والوصول إلى رؤيتها ممكن ) فدخل بيعها في باب الملامسة والغرر والقمار عندهم ، وأما مالك فالصفة عنده تقوم مقام المعاينة ( وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا تصف المرأة المرأة لزوجها ، حتى كأنه ينظر إليها ) فأقام هنا الصفة مقام المعاينة ، وقال مالك : يجوز بيع السلع كلها وإن لم يرها المشتري إذا وصفها له ، ولم يشترط النقد ، قال : فإن لم يصفها لم يجز ، ولا يجوز بيع الغائب عنده البتة إلا بالصفة أو على رؤية تقدمت ، واختلفوا أيضا في بيع الغائب على الصفة ; فقال مالك : لا بأس ببيع الأعيان الغائبة على الصفة وإن لم يرها البائع ولا المشتري إذا وصفوها ، فإذا جاءت على الصفة لزمهما البيع ولا يكون لواحد منهما خيار الرؤية ، إلا أن يشترطه ، فإن اشترطه كان ذلك ( له ) .

وبقول مالك في ذلك قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد وأبو ثور ، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي : جائز بيع الغائب على الصفة وعلى غير الصفة وصف أو لم يوصف ، وللمشتري خيار الرؤية إذا رآه ، وروى محمد بن كثير عن الأوزاعي في بيع الغائب على الصفة : أنه جائز ويلزم البائع والمشتري إذا وافق [ ص: 16 ] الصفة ، ولا خيار في ذلك ، كقول مالك سواء ، وإن لم يوافق الصفة فله الخيار ، إلا أن الأوزاعي فيما روى عنه محمد بن كثير يجعل المصيبة من المشتري إذا كان على الصفة وإن لم يقبضه المشتري على مذهب ابن عمر ، واختلف قول مالك في هذا الموضع فمرة قال : المصيبة من المشتري إذا خرج البيع على الصفة وأدركته الصفقة على ذلك حيا سالما قبضه أو لم يقبضه ، وهو قول ابن عمر ، وسليمان بن يسار ومرة قال : المصيبة من البائع أبدا حتى يقبضه المبتاع ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وإليه ذهب ابن القاسم ; جعل النماء والنقصان والموت في ذلك من البائع ( أبدا ) حتى يقبضه المبتاع .

وتحصيل قول مالك في هذه المسألة ( في بيع الغائب ) خاصة على الصفة أو على رؤية كانت أن البيع إذا انعقد في ذلك أو في شيء منه فهلك المبيع بعد الصفقة وقبل القبض أن مصيبته من البائع ، إلا أن يكون المشتري قد اشترط عليه البائع أن المصيبة منك إن أدركته حيا ، وهو أحد قولي مالك وقد كان مالك يقول : إن المصيبة من المبتاع ، إلا أن يشترط أنها من البائع حتى يقبضها مبتاعها ، والشرط عنده في ذلك لمن اشترطه نافع لازم .

[ ص: 17 ] وذكر إسماعيل بن إسحاق عن عبد الملك بن الماجشون أن بيع الصفة ما يحدث فيه بعد الصفقة ليس فيه عهدة ، وأنه كبيع البراءة ومصيبته أبدا قبل القبض من المبتاع ، ولا يجوز عند مالك النقد في بيع الغائب من العروض كلها ، حيوانا أو غيره ، إذا كانت غيبته بعيدة ، فإذا كانت غيبته قريبة مثل اليوم واليومين جاز النقد فيه .

وقد اختلف أصحابه عنه واختلفت أقوالهم في حد المغيب الذي يجوز فيه النقد في الطعام والحيوان مما يطول ذكره ، ولا خلاف عنهم أن النقد في العقار المأمون كله جائز إذا لم يكن بيع خيار ، وللشافعي في بيع الغائب ثلاثة أقوال ; أحدها كقول مالك ، والثاني كقول أبي حنيفة ، والثالث الذي حكاه عنه الربيع والبويطي أنه لا يجوز بيع الأعيان الغائبة بحال ، فلا يجوز عنده على القول الثالث ، وهو الذي حكاه البويطي عنه ، إلا بيع عين مرئية قد أحاط البائع والمبتاع علما بها ، أو بيع مضمون في الذمة موصوف ، وهو السلم .

وقال المزني : الصحيح من قول الشافعي أن شراء الغائب لا يجوز وصف أو لم يوصف ، ذكر أبو القاسم القزويني القاضي قال : الصحيح عن الشافعي إجازة بيع الغائب على خيار الرؤية [ ص: 18 ] إذا نظر إليه ، وافق الصفة أو لم يوافقها ، مثل قول أبي حنيفة والثوري سواء ، قال هذا في كتبه المصرية ، وقال بالعراق في بيع الغائب مثل قول مالك ، سواء أنه لا خيار له إذا وافق الصفة ، حكاه عنه أبو ثور ، وبه قال أبو ثور ، وقال أبو حنيفة وأصحابه ، في المشتري يرى الدار من خارجها ويرى الثياب مطوية من ظهورها فيرى مواضع طيها ، ثم يشتريها : أنه لا يكون له خيار الرؤية في شيء من ذلك ، وأما هلاك المبيع قبل القبض ، غائبا كان أو حاضرا ، عند الشافعي وأبي حنيفة فمن البائع أبدا .

ومن الدليل على جواز بيع الغائب مع ما تقدم في هذا الباب أن السلف كانوا يتبايعونه ويجيزون بيعه ، فمن ذلك أن عثمان وعبد الرحمن بن عوف تبايعا فرسا غائبا عنهما ، وتبايع عثمان أيضا وطلحة دارا لعثمان بالكوفة ولم يعينها عثمان ولا طلحة ، وقضى جبير بن مطعم لطلحة فيها بالخيار ، وهو المبتاع ، فحمله العراقيون على خيار الرؤية ، وحمله أصحاب مالك على أنه كان اشترط الخيار فكأن بيع الخيار إجماع من الصحابة إذ لا يعلم لهؤلاء مخالف منهم . ودخل في معنى الملامسة والغرر أشياء بالاستدلال يطول ذكرها ، إن ذكرناها خرجنا عن شرطنا وعمالة قصدنا وبالله عصمتنا وتوفيقنا .




الخدمات العلمية