فصل
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=28655_28663مرتبة الإعلام والإخبار ، فنوعان : إعلام بالقول ، وإعلام بالفعل ، وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر : تارة يعلمه بقوله ، وتارة بفعله ، ولهذا كان من جعل دارا مسجدا ، وفتح بابها لكل من دخل إليها ، وأذن بالصلاة فيها : معلما أنها وقف ، وإن لم يتلفظ به ، وكذلك من وجد متقربا إلى غيره بأنواع المسار : معلما له ولغيره أنه يحبه ، وإن لم يتلفظ بقوله ، وكذلك بالعكس ، وكذلك شهادة الرب جل جلاله وبيانه وإعلامه ، يكون بقوله تارة ، وبفعله تارة أخرى ، فالقول : هو ما أرسل به رسله ، وأنزل به كتبه ، ومما قد علم بالاضطرار : أن جميع الرسل أخبروا عن الله : أنه شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو وأخبر بذلك ، وأمر عباده أن يشهدوا به ، وشهادته سبحانه أن لا إله إلا هو معلومة من جهة كل من بلغ عنه كلامه .
وأما بيانه وإعلامه بفعله : فهو ما تضمنه خبره تعالى عن الأدلة الدالة على وحدانيته التي تعلم دلالتها بالعقل والفطرة ، وهذا أيضا يستعمل فيه لفظ الشهادة ، كما يستعمل فيه لفظ الدلالة ، والإرشاد والبيان ، فإن الدليل يبين المدلول عليه ويظهره ، كما يبينه الشاهد والمخبر ، بل قد يكون البيان بالفعل أظهر وأبلغ ، وقد يسمى شاهد الحال نطقا وقولا وكلاما ، لقيامه مقامه ، وأدائه مؤداه ، كما قيل :
وقالت له العينان سمعا وطاعة وحدرتا بالدر لما يثقب
وقال الآخر :
شكا إلي جملي طول السرى صبرا جميلا فكلانا مبتلى
[ ص: 422 ] وقال الآخر :
امتلأ الحوض وقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني
ويسمى هذا شهادة أيضا ، كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=17ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله ، فهي شهادة بكفرهم ، وهم شاهدون على أنفسهم بما شهدت به .
والمقصود : أن الله سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه ، فإن دلالتها إنما هي بخلقه وجعله ، ويشهد بآياته القولية الكلامية المطابقة لما شهدت به آياته الخلقية ، فتتطابق شهادة القول وشهادة الفعل ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=53سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، أي أن القرآن حق ، فأخبر أنه يدل بآياته الأفقية والنفسية على صدق آياته القولية الكلامية ، وهذه الشهادة الفعلية قد ذكرها غير واحد من أئمة العربية والتفسير ، قال
ابن كيسان : شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه : أنه لا إله إلا هو .
فَصْلٌ
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28655_28663مَرْتَبَةُ الْإِعْلَامِ وَالْإِخْبَارِ ، فَنَوْعَانِ : إِعْلَامٌ بِالْقَوْلِ ، وَإِعْلَامٌ بِالْفِعْلِ ، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُعْلِمٍ لِغَيْرِهِ بِأَمْرٍ : تَارَةً يُعْلِمُهُ بِقَوْلِهِ ، وَتَارَةً بِفِعْلِهِ ، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ جَعَلَ دَارًا مَسْجِدًا ، وَفَتَحَ بَابَهَا لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ إِلَيْهَا ، وَأَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِيهَا : مُعْلِمًا أَنَّهَا وَقْفٌ ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ وُجِدَ مُتَقَرِّبًا إِلَى غَيْرِهِ بِأَنْوَاعِ الْمَسَارِ : مُعْلِمًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَنَّهُ يُحِبُّهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِقَوْلِهِ ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَبَيَانُهُ وَإِعْلَامُهُ ، يَكُونُ بِقَوْلِهِ تَارَةً ، وَبِفِعْلِهِ تَارَةً أُخْرَى ، فَالْقَوْلُ : هُوَ مَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ ، وَمِمَّا قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ : أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ أَخْبَرُوا عَنِ اللَّهِ : أَنَّهُ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَشْهَدُوا بِهِ ، وَشَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَعْلُومَةٌ مِنْ جِهَةِ كُلِّ مَنْ بَلَّغَ عَنْهُ كَلَامَهُ .
وَأَمَّا بَيَانُهُ وَإِعْلَامُهُ بِفِعْلِهِ : فَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ خَبَرُهُ تَعَالَى عَنِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ الَّتِي تُعْلَمُ دَلَالَتُهَا بِالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ ، وَهَذَا أَيْضًا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الدَّلَالَةِ ، وَالْإِرْشَادِ وَالْبَيَانِ ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ يُبَيِّنُ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ وَيُظْهِرُهُ ، كَمَا يُبَيِّنُهُ الشَّاهِدُ وَالْمُخْبِرُ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْبَيَانُ بِالْفِعْلِ أَظْهَرَ وَأَبْلَغَ ، وَقَدْ يُسَمَّى شَاهِدُ الْحَالِ نُطْقًا وَقَوْلًا وَكَلَامًا ، لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ ، وَأَدَائِهِ مُؤَدَّاهُ ، كَمَا قِيلَ :
وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً وَحَدَّرَتَا بِالدُّرِّ لَمَّا يُثْقَبِ
وَقَالَ الْآخَرُ :
شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى صَبْرًا جَمِيلًا فَكِلَانَا مُبْتَلَى
[ ص: 422 ] وَقَالَ الْآخَرُ :
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي مَهْلًا رُوَيْدًا قَدْ مَلَأْتَ بَطْنِي
وَيُسَمَّى هَذَا شَهَادَةً أَيْضًا ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=17مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ فَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يَفْعَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ وَأَقْوَالِهِ ، فَهِيَ شَهَادَةٌ بِكُفْرِهِمْ ، وَهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا شَهِدَتْ بِهِ .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَشْهَدُ بِمَا جَعَلَ آيَاتِهِ الْمَخْلُوقَةَ دَالَّةً عَلَيْهِ ، فَإِنَّ دَلَالَتَهَا إِنَّمَا هِيَ بِخَلْقِهِ وَجَعْلِهِ ، وَيَشْهَدُ بِآيَاتِهِ الْقَوْلِيَّةِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُطَابِقَةِ لِمَا شَهِدَتْ بِهِ آيَاتُهُ الْخَلْقيَّةُ ، فَتَتَطَابَقُ شَهَادَةُ الْقَوْلِ وَشَهَادَةُ الْفِعْلِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=53سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَدُلُّ بِآيَاتِهِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ عَلَى صِدْقِ آيَاتِهِ الْقَوْلِيَّةِ الْكَلَامِيَّةِ ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ الْفِعْلِيَّةُ قَدْ ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالتَّفْسِيرِ ، قَالَ
ابْنُ كَيْسَانَ : شَهِدَ اللَّهُ بِتَدْبِيرِهِ الْعَجِيبِ وَأُمُورِهِ الْمُحْكَمَةِ عِنْدَ خَلْقِهِ : أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ .