الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
"فصل": في بيان وقف السنة الواقع جله في غير رؤوس الآي، أو في بيان وقف جبريل كما سماه بعضهم.

سبق أن بينا في فصل الوقف الحسن أن الوقف على رؤوس الآي سنة مطلقا، سواء تعلق رأس الآية بما بعده أم لم يتعلق، وقد فصلنا الكلام على ذلك أيما تفصيل، وسقنا الأدلة على ذلك من الخبر المتبع والأثر الصحيح وأقوال أئمة هذا الشأن فيه، وأنه مذهب الجمهور، وذكرنا الاعتراض على ذلك، ورددناه بما يسر الله تعالى ذكره من أقوال علماء هذا الفن، مما تجده في موضعه السابق مستوفى إن شاء الله تعالى.

والآن نشرع بحول الله في بيان الوقف المنسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن العظيم مما أكثره ليس برأس آية، ونص عليه غير واحد ممن يعتد بنقلهم من محققي علماء القراءات، مع عزو ذلك إليهم، ونسبته لهم، فقد قيل: إن من بركة [ ص: 377 ] العلم نسبة القول إلى قائله. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

أولا: نقل صاحب "منار الهدى في بيان الوقف والابتدا" عن العلامة السخاوي أن هذه الوقوف عشرة، وسمى بعضها بوقف جبريل - عليه السلام - وإليك نص عبارته: "قال السخاوي : ينبغي للقارئ أن يتعلم وقف جبريل، فإنه كان يقف في سورة آل عمران عند قوله: قل صدق الله [الآية: 95] ثم يبتدئ فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا [آل عمران : 95] والنبي - صلى الله عليه وسلم - يتبعه.

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقف في سورة البقرة والمائدة عند قوله تعالى: " فاستبقوا الخيرات " [البقرة: 148، والمائدة: 48] وكان يقف على قوله: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق [المائدة: 116] وكان يقف قل هذه سبيلي أدعو إلى الله [يوسف: 108] ثم يبتدئ على بصيرة أنا ومن اتبعني [يوسف: 108] وكان يقف كذلك يضرب الله الأمثال [الرعد: 18] ثم يبتدئ للذين استجابوا لربهم الحسنى [الرعد: 18] وكان يقف والأنعام خلقها [النحل: 5] ثم يبتدئ لكم فيها دفء [النحل: 5] وكان يقف أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا [السجدة: 18] ثم يبتدئ لا يستوون [السجدة: 18] وكان يقف ثم أدبر يسعى فحشر [النازعات: 22] ثم يتبدئ فنادى [النازعات: 23] وكان يقف ليلة القدر خير من ألف شهر [القدر: 3] ثم يبتدئ تنـزل الملائكة [القدر: 4] فكان - صلى الله عليه وسلم - يتعمد الوقف على تلك الوقوف، وغالبها ليس رأس آية، وما ذلك إلا لعلم لدني علمه من [ ص: 378 ] علمه وجهله من جهله، فاتباعه سنة في أقواله وأفعاله، انتهى منه بحرفه.

ثانيا: نقل صاحب انشراح الصدور أن مواضع هذه الوقوف سبعة عشر موضعا، وفيما يلي نص عبارته.

"اعلم أن الوقوف المندوبة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرى الوقوف عليها سبعة عشر موضعا":

الأول والثاني: " فاستبقوا الخيرات " بالبقرة والمائدة.

والثالث: قل صدق الله بآل عمران .

والرابع: ما ليس لي بحق بالمائدة.

والخامس: أن أنذر الناس بيونس.

والسادس: ولا يحزنك قولهم بها أيضا.

والسابع: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله بيوسف.

والثامن: كذلك يضرب الله الأمثال بالرعد.

والتاسع: والأنعام خلقها بالنحل.

والعاشر: إنما يعلمه بشر بها أيضا.

والحادي عشر: يا بني لا تشرك بالله بلقمان.

[ ص: 379 ] والثاني عشر: كمن كان فاسقا بالسجدة.

والثالث عشر: أنهم أصحاب النار بغافر.

والرابع عشر: فحشر بالنازعات.

والخامس عشر: خير من ألف شهر بالقدر.

والسادس عشر: من كل أمر بها أيضا.

والسابع عشر: بحمد ربك واستغفره بالنصر. اهـ منه بلفظه.

ثالثا: نقل صاحب "الرحلة العياشية" أن هذه الوقوف سبعة عشر وقفا، وساقها في نظم مبارك بديع، وها أنذا أنثر مواضع هذا النظم أولا، ثم أذكره بعد ذلك ثانيا.

وإليك بيان مواضع هذه الوقوف حسب ترتيب هذا النظم المبارك:

الأول: قوله تعالى: فاستبقوا الخيرات بالبقرة.

الثاني: قوله سبحانه: وما تفعلوا من خير يعلمه الله بالبقرة أيضا.

الثالث: قوله عز شأنه: وما يعلم تأويله إلا الله بآل عمران .

الرابع: قوله عز من قائل: فاستبقوا الخيرات بالمائدة.

الخامس: قوله جل وعلا: من أجل ذلك بالمائدة أيضا.

[ ص: 380 ] السادس: قوله سبحانه: ما ليس لي بحق بالمائدة كذلك.

السابع والثامن: قوله تعالى: أن أنذر الناس وقوله عز شأنه: قل إي وربي إنه لحق الموضعان بيونس عليه الصلاة والسلام.

التاسع: قوله سبحانه: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله بيوسف عليه الصلاة والسلام.

العاشر: قوله تعالى: كذلك يضرب الله الأمثال بالرعد.

الحادي عشر: قوله تعالى: والأنعام خلقها بالنحل.

الثاني عشر: قوله سبحانه: يا بني لا تشرك بالله بلقمان.

الثالث عشر: قوله عز وجل: وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار بغافر.

الرابع عشر: قوله تعالى: ثم أدبر يسعى فحشر بالنازعات.

الخامس عشر والسادس عشر: قوله جل وعلا: ليلة القدر خير من ألف شهر وقوله عز وجل: تنـزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر الموضعان بالقدر.

السابع عشر: قوله تعالى: فسبح بحمد ربك واستغفره بالنصر.

[ ص: 381 ] وإليك عبارة صاحب (الرحلة العياشية) مع ذكر النظم الذي تكلمنا عنه آنفا.

قال رحمه الله تعالى فيما أنشده شيخه أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الرحمن الربيع اليمني الزبيدي : "وأنشدني أيضا في المواضع التي ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف عليها وأملاها علي من حفظه ولم ينسبها":


أيا سائلي عن ما أتانا به الألى عن المصطفى من وقفه مسلسلا     ففي البكر جا الخيرات والثاني قل بها
أتى بعد يعلمه على الله مسجلا     وعمران إلا الله أولها أتى
عقود بها الخيرات قد جاء مرسلا     وأيضا بها من أجل ذلك جاءنا
وآخرها قد جا بحق مرتلا     وأن أنذر الناس الذي حل يونسا
وقل بعده فيها لحق تنزلا     إلى الله جا في يوسف وبتلوها
أتانا على الأمثال كي يتمثلا     خلقها بنحل بعد الأنعام لفظة
وبعد لا تشرك بلقمان أنزلا     وغافر فيها لفظة النار بعدها
حكاية حمل العرش في قصة الملا     وقل فحشر في النازعات وبعده
على ألف شهر جاء في القدر أولا     ومن كل أمر جا بها وبنصرهم
على لفظ واستغفره تمت فحمدلا

اهـ

[ ص: 382 ] ومن هذه النقول يتبين لك - أيها القارئ الكريم - أن هذه المواضع كلها منها ما هو رأس آية - وهو القليل - ومنها ما ليس برأس آية وهو الكثير، فالذي هو رأس آية قوله تعالى: كذلك يضرب الله الأمثال بالرعد، وقوله سبحانه: وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار بغافر، وقوله عز شأنه: ليلة القدر خير من ألف شهر وقوله جل وعلا: تنـزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر وهذا الموضعان بسورة القدر.

وقد قدمنا لك أن الوقف على رؤوس الآي سنة مطلقا فيكون ذكره هنا في هذه الأوقاف من باب التأكيد عليه عند من وصل رؤوس الآي المتعلقة بما بعدها في غير هذه المواضع فليعلم ذلك.

ولعل أحدا أن يقول: لقد تفاوتت مواضع هذه الأوقاف المذكورة في هذه النقول الثلاثة التي قدمنا، فهل يعتبر تفاوتها مدعاة إلى عدم التسليم ببعضها؟ والجواب عن ذلك ظاهر، فإن هذه النقول - وإن كان فيها تفاوت - لكنه ليس تفاوت التناقض والاضطراب، وإنما هو تفاوت الرواية والحفظ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فكل هذه النقول صحيحة، وسائر نقلتها عدول، وقد ذكر كل منهم ما انتهى إليه علمه بحسب التلقي والمشافهة عن شيوخه، وعليه فلا اختلاف.

وهناك نقول أخرى غير هذه تركنا ذكرها هنا؛ طلبا للاختصار، والله تعالى أعلم.

الكلام على الوقف القبيح

وهو الوقف على كلام لم يتم معناه؛ لتعلقه بما بعده لفظا ومعنى مع عدم الفائدة، أو أفاد معنى غير مقصود، أو أوهم فساد المعنى، فهذه أنواع ثلاثة وإليكها مفصلة:

[ ص: 383 ] أما النوع الأول: فضابطه الوقف على العامل دون معموله، ويشمل هذا الضابط صورا شتى:

منها الوقف على المضاف دون المضاف إليه كالوقف على لفظ "بسم" و" مالك " من نحو: بسم الله [الفاتحة: 1] و مالك يوم الدين [الفاتحة: 4] فالوقف على مثل هذا قبيح؛ لأنه لم يعلم لأي شيء أضيف.

ومنها الوقف على المبتدأ دون خبره، كالوقف على "الحمد" من "الحمد لله".

ومنها الوقف على الموصوف دون صفته، كالوقف على لفظ "الصراط" من قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم [الفاتحة: 6].

ومنها الوقف على الفعل دون فاعله، كالوقف على لفظ "يتقبل" من قوله تعالى: إنما يتقبل الله من المتقين [المائدة: 27] إلى آخر باقي المتعلقات.

فكل هذا وما ماثله لا يجوز الوقف عليه ولا الابتداء بما بعده؛ لأنه لا يتم معه كلام، ولا يفهم منه معنى، فالوقف عليه قبيح كما أسلفنا.

وسمي قبيحا لقبح الوقف عليه؛ لعدم تمام الكلام، وعدم فهم المعنى، لما فيه من التعلق اللفظي والمعنوي معا مع عدم الفائدة.

ولا يجوز للقارئ تعمد الوقف على شيء من هذه الوقوف وما شاكلها إلا لضرورة، كضيق نفس أو عطاس أو عجز أو نسيان، ويسمى حينئذ وقف الضرورة وهو مباح للقارئ - كما تقدم - ثم بعد ذهاب هذه الضرورة التي ألجأته إلى الوقف على هذه الكلمة يبتدئ منها، ويصلها بما بعدها إن صلح الابتداء بها، وإلا فيبتدئ بما قبلها مما يصلح البدء به، إلى أن يصل إلى ما يجوز أن يقف عنده.

وهذا ما أشار إليه الحافظ ابن الجزري في المقدمة الجزرية بقوله المذكور آنفا:

[ ص: 384 ]

وغير ما تم قبيح وله     يوقف مضطرا ويبدأ قبله

اهـ

وأما النوع الثاني: وهو الذي أفاد معنى غير مقصود لتوقف ما بعده عليه ليتم منه المعنى المراد فنحو الوقف على لا تقربوا الصلاة [النساء: 43] وذلك لأنه يوهم النهي عن أداء الصلاة مطلقا وليس كذلك، وإنما المقصود من الآية الكريمة لا تقربوا الصلاة حال كونكم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، وهذا المعنى المقصود لا يتم إلا إذا انضم إليه ما بعده.

وعليه، فالوقف على لا تقربوا الصلاة [النساء: 43] قبيح، فيوصل بما بعده إلى أن يقف على قوله تعالى: حتى تغتسلوا [النساء: 43] وهو كاف.

ومنه الوقف على لفظ "بجناحيه" في قوله تعالى: وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم [الأنعام: 38] لأن ذلك يوهم نفي ما هو مشاهد من مخلوقات الله، وهذا لا يجوز، وإنما يكون الوقف على "أمثالكم" وهو كاف.

ومنه الوقف على لفظ "والظالمين" من قوله تعالى: يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما [الإنسان: 31] لأنه يوهم أن الظالمين داخلون في رحمة الله، وليس كذلك، بل أعد لهم العذاب الأليم، فالوقف يكون على لفظ "رحمته" وهو تام.

ومنه الوقف على "والذين آمنوا" من قوله تعالى: الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير [فاطر: 7] لأنه يوهم دخول المؤمنين مع الكافرين في العذاب الشديد، وليس كذلك، بل أعد المغفرة والأجر الكبير للمؤمنين، أما العذاب الشديد فهو خاص بالكافرين.

فالوقف يكون على قوله تعالى: "لهم عذاب شديد" وهو كاف، وذلك ليفصل بين ما أعد للفريقين من جزاء، أو توصل الجملة الأولى بالثانية، ويوقف على الفاصلة إن كانت هناك طاقة لدى القارئ بحيث يعطي الحروف حقها ومستحقها في التلاوة - كما هو مقرر - وإلا فلا.

[ ص: 385 ] فكل هذا وما ماثله مما هو خارج عن حكم الأول في المعنى لا يجوز الوقف عليه لما تقدم باستثناء الضرورة.

وأما النوع الثالث: وهو ما أوهم فساد المعنى وفيه سوء الأدب مع الله تبارك وتعالى، وهو أقبح من القبيح، فنحو الوقف على لفظ الجلالة "والله" في قوله تعالى: فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين [البقرة: 258] فهذا لا يجوز بحال، وإنما يجوز الوقف على لفظ "كفر" أو على لفظ "الظالمين" وهو آخر الفاصلة.

ومثله الوقف على لفظ "لا يستحيي" في قوله تعالى: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها [البقرة: 26] وهذا لا يجوز بحال، وإنما يكون الوقف على "فما فوقها" ولا يخفى ما في ذلك من فساد المعنى وسوء الأدب مما هو ظاهر، لا يصح التفوه به.

وأقبح من هذا وأشنع الوقف على المنفي الذي بعده الإيجاب، وفي هذا الإيجاب وصف لله تعالى أو لرسله - عليهم الصلاة والسلام - وذلك نحو قوله تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله [محمد: 19] وقوله سبحانه: وما من إله إلا الله [آل عمران : 62] بأن وقف على لفظ "إله" في الآيتين، والقبح في هذا الوقف ظاهر، لا يصح التفوه به أيضا، وإنما يكون الوقف على لفظ "وللمؤمنات" في الآية الأولى وهو تام، وعلى لفظ الجلالة في الثانية وهو كاف.

ومثل ذلك الوقف على لفظ "أرسلناك" في قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء: 107] فإنه يؤدي إلى نفي رسالته - صلى الله عليه وسلم - وإنما يكون الوقف على "للعالمين" آخر الفاصلة.

ومثله الوقف على لفظ "من رسول" في قوله تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله [النساء: 64] وفي قوله سبحانه: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم [إبراهيم: 4] فإنه يؤدي إلى نفي إرسال [ ص: 386 ] جميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وإنما يكون الوقف على لفظ الجلالة في الآية الأولى، وعلى لفظ "لهم" في الآية الثانية.

فكل هذه الوقوف وما ماثلها يجب ألا يوقف على شيء منها؛ لما تقدم إلا من ضرورة كما ذكرنا آنفا، فإن وقف القارئ على شيء منها أو مما شاكلها لضرورة وجب عليه أن يبتدئ بما قبل الكلمة الموقوف عليها ويصلها بما بعدها، إلى أن ينتهي إلى ما يجوز أن يقف عنده، فإن لم يفعل ذلك وتعمد الوقف فقد أثم إثما كبيرا، وأخطأ خطأ فاحشا، وخرق الإجماع، وحاد عن إتقان القراءة وإتمام التجويد، نسأل الله تعالى التوفيق والهداية إلى أقوم طريق.

الأصل في الوقف القبيح من السنة المطهرة

والأصل فيه ما ذكره الحافظ ابن الجزري في (التمهيد) بسنده المتصل إلى عدي بن حاتم قال - أي عدي - : جاء رجلان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فتشهد أحدهما فقال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما ووقف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قم أو اذهب بئس الخطيب أنت اهـ. قالوا: وهذا دليل على أنه لا يجوز القطع على القبيح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقامه لما وقف على المستبشع؛ لأنه جمع بين حال من أطاع الله ورسوله ومن عصى، والأولى أنه كان يقف على (رشد) ثم يقول: ومن يعصهما فقد غوى" انتهى.

وقال أبو عمرو : ففي الخبر دليل على كراهة القطع على المستبشع من اللفظ المتعلق بما يبين حقيقته ويدل على المراد منه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أقام الخطيب لما قطع على ما يقبح؛ إذ جمع بقطعه بين حال من أطاع ومن عصى، ولم يفصل بين ذلك، وإنما كان ينبغي له أن يقف على قوله: (فقد رشد) ثم يستأنف: (ومن يعصهما فقد غوى) أو يصل كلامه إلى آخره.

وإذا كان مثل هذا مكروها مستقبحا في الكلام الجاري بين الناس فهو في كلام الله تعالى أشد كراهة وقبحا، وتجنبه أولى وأحق. اهـ منه بلفظه.

[ ص: 387 ] تنبيهان:

الأول: ما قاله أئمتنا من أنه لا يجوز الوقف على كلمة كذا وكذا إنما يريدون بذلك الوقف الاختياري "بالياء المثناة تحت" الذي يحسن في القراءة ويروق في التلاوة، ولا يريدون به أنه حرام أو مكروه؛ إذ ليس في القرآن الكريم وقف واجب يأثم القارئ بتركه أو حرام يأثم القارئ بفعله؛ لأن الوصل والوقف لا يدلان على معنى حتى يختل بذهابهما، وإنما يتصف الوقف بالحرمة إذا كان هناك سبب يؤدي إليها فيحرم حينئذ، كأن قصد القارئ الوقف من غير ضرورة على لفظ "إله" أو على لفظ "لا يستحيي" أو على لفظ "لا يهدي" في قوله تعالى: وما من إله إلا إله واحد [المائدة: 73] والله لا يستحيي من الحق [الأحزاب: 53] والله لا يهدي القوم الفاسقين [الصف: 5] وما شابه ذلك مما تقدم ذكره في الوقف القبيح؛ إذ لا يفعل ذلك مسلم قلبه مطمئن بالإيمان.

وفي هذا المقام يقول الحافظ ابن الجزري في المقدمة الجزرية:


وليس في القرآن من وقف وجب     ولا حرام غير ما له سبب

اهـ

التنبيه الثاني: اشتهر عند كثير من الناس أن الوقف على لفظ "للمصلين" في قوله تعالى: فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون [الماعون: 4 - 5] قبيح وحرام ولا يجوز مطلقا، وزعموا أن القارئ لو وقف على هذا اللفظ لأوهم تناول الويل كل مصل - وليس كذلك - وإنما الويل "وهو واد في جهنم أو وعيد شديد كما قاله المفسرون" للمصلين الموصوفين بالصفات المذكورة بعد في قوله تعالى: الذين هم عن صلاتهم ساهون [الماعون: 5] إلى آخر السورة، وهذه حجتهم في منع الوقف على هذا اللفظ، وحتموا الوصل بالموصولين بعد؛ ليظهر المراد، ويتم الكلام.

والصواب الذي عليه الجمهور هو جواز الوقف على هذا اللفظ؛ لأنه من رؤوس الآي، والوقف على رؤوس الآي سنة؛ لحديث أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها - وقد تقدم ذكره غير [ ص: 388 ] مرة.

وهذا - كما قلت - المشهور عند جمهور العلماء وأهل الأداء، وإن تعلق رأس الآية بما بعدها لفظا ومعنى - كهذا الموضع - كما تقدم.

غير أن هذا الوقف الجائز مشروط بأن يكون القارئ مستمرا في قراءته إلى تمام الكلام وهو آخر السورة، وبهذا حصل الغرض المطلوب، وهو إيضاح المعنى المراد من الآية الكريمة لكل من القارئ والسامع، وفي الوقت نفسه أتى القارئ بالوصفين المذكورين بعد "للمصلين" الذين يستحقون بهما هذا الوعيد.

ويفهم من قولنا: "غير أن هذا الوقف الجائز مشروط بأن يكون القارئ مستمرا" ... إلخ بأنه لو قطع قراءته وأنهاها عند قوله: "فويل للمصلين" من غير عذر كان الوقف قبيحا، ويقال له فيه، بل ويمنع منه لإيهام خلاف المعنى المراد، ولعدم إتمام الكلام حينئذ؛ لأن إتمامه لا يتأتى إلا بذكر الصفتين المذكورتين بعد.

ومن محاسن الوقف على رأس الآية "فويل للمصلين" هنا أنه لو وصل القارئ قوله: "فويل للمصلين" بما بعده - كما قال مانعو الوقف عليه - فلربما ضاق نفسه قبل الوصول إلى الوقف التام - وهو آخر السورة - لا سيما من كان ضيق النفس لا يستطيع أن يتكلم بكلام كثير في نفس واحد، وخاصة في هذا الزمن الذي عمت فيه البلوى لكثير من الناس، وحينئذ يضطر إلى أن يتنفس في القراءة وهو حرام فيها، ومفسد لها، أو إلى إدماج الحروف وبتر المد مما لا يتفق وقواعد التجويد المجمع عليها، ويكون بذلك أتعب نفسه فوق إفساده القراءة، مع أن السنة المطهرة أباحت له الوقف على رؤوس الآي مطلقا، سواء تم الكلام أم لم يتم كما مر، ولنا في سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة.

هذا، وقد فات مانعي تجويز الوقف على قوله: "فويل للمصلين" وتأكيدهم على وصله بما بعده أن الصفتين المذكورتين بعد من باب التوابع كما هو مقرر، وهذا المعتبر إذا لم نقل بالقطع، فإن قلنا به - كما جوزه علماء العربية - من كل موصول وقع صفة يحتمل أن يكون تابعا أو مقطوعا عن التبعية لعدم ظهور الإعراب عليه لبنائه، بل جوزوا قطع الصفة عن الموصوف في العموم، سواء كان موصولا أو غير موصول، وبناء على جوازقطع الصفة عن الموصوف نقول: إن جعلنا الموصول هنا مع صلته خبرا لمبتدأ محذوف تقديره (هم الذين) إلخ كان الوقف على "للمصلين" كافيا، فضلا عن كونه رأس آية، وهذا أمر لا يخفى، ومثله [ ص: 389 ] حينئذ مثل الوقوف على رؤوس التي بعدها، موصول كهذا، وما أكثرها في القرآن باستثناء سبعة مواضع منها يتعين فيها أن يكون الموصول مبتدأ، كما يتعين الوقف على ما قبلها والابتداء بها، وسنذكرها بعد في "فصل الابتداء" إن شاء الله تعالى.

وصفوة القول في هذه المسألة التي كثر فيها الكلام أن الوقف على قوله تعالى: " فويل للمصلين " جائز؛ لأنه رأس آية، ولا قبح فيه ولا حرمة ما دام القارئ مستمرا في قراءته إلى آخر السورة، بخلاف ما لو قطع قراءته وأنهاها عنده فيمنع من ذلك، ويكون الوقف قبيحا، إلا من عذر قهري صده عن إتمام السورة.

وأما إذا كان القارئ عنده طاقة في نفسه ولم يقف إلا في آخر السورة - بشرط أن تكون القراءة سليمة موافقة لقواعد التجويد المجمع عليها - فلا بأس بذلك، غير أنه على خلاف ما قال به جمهور العلماء، وكثير من أهل الأداء من أن الوقف على رؤوس الآي سنة مطلقا، كما ذكر آنفا، والله تعالى أعلى وأعلم.

وبعد أن فرغنا من كتابة هذا التنبيه، ومضى عليه سنوات - وجدناه منصوصا عليه بمعناه من كلام العلامة الشيخ عبد الواحد المارغني في آخر رسالة (تحرير الكلام في وقف حمزة وهشام ) للعلامة المحقق الشيخ محمد بن يالوشة الشريف التونسي ، ولعظم فائدته آثرنا أن ننقله هنا ليفيد منه ويعتبر به قارؤنا الكريم، قال عفا الله عنه:

"تنبيه": مما اشتهر عند كثير من الناس عدم الوقف على قوله تعالى: فويل للمصلين حتى جرى عندهم مجرى الأمثال، فيقولون في كل شيء يتوقف على ما بعده: لا تقف على "فويل للمصلين" ومرادهم بذلك التحرز من استحقاق المصلين مطلقا لهذا الوعيد، فبالوقف عليه يتناول الوعيد كل المصلين، وهو غير مراد وغير صواب، وإن وصل بالموصول أو الموصولين بعده ظهر المعنى ولاح المراد من الآية الكريمة؛ إذ المراد - والله أعلم - أن المصلين الموصوفين بالصفتين المذكورتين يستحقون العقاب بالويل، وهو واد في جهنم، وقيل: كلمة عذاب.

هذا مراد من يمنع الوقف على ذلك، والتحقيق أنه لا مانع من الوقف على مثل ذلك؛ حيث إنه من الفواصل التي يحسن الوقف عليها حسبما مر تفصيله، والصفتان بعد المصلين مثل الصفتين بعد اسم الجلالة في الفاتحة، أعني "الرحمن" و" مالك يوم الدين" وقفت [ ص: 390 ] السنة على ما قبلهما، فكما حسن الوقف على ما في أم القرآن يحسن الوقف على مثل ذلك في غيرها، ومنه هذا الذي في سورة الماعون، ولا قبح في مثل هذا الوقف؛ حيث إن الوقف على "المصلين" لا يمنع إرادة وملاحظة الصفتين بعده، إذ الواقف عازم على إكمال السورة أو الآيات المتعلقة بالموضوع، والسامع منتظر لباقي السورة أو الآيات، فقد حصل غرض كل من التالي والسامع بإكمال الآيات المطلوبة، ولو مع الأوقاف الفاصلة التي لا يقع الفصل إلا بزمن يتنفس فيه عادة.

نعم لو قطع القارئ قراءته عند قوله: " فويل للمصلين " لمنع إلا لعذر طارئ صده عن إتمام قراءته، وهذا كله إن جعل النعتان في سورة الماعون تابعين كما هو الأصل، فإن جعلا مقطوعين كان الوقف عليه كافيا حينئذ كما لا يخفى على كل من مارس علم القراءة والعربية؛ إذ كل موصول وقع صفة يحتمل كونه تابعا ومقطوعا لعدم ظهور أثر الإعراب عليه لبنائه، كما نص على ذلك بعض علماء العربية.

وعليه، فالسنة لما وقفت على رؤوس الآي التي صفاتها المبدوء بها تابعة لموصوفاتها في الإعراب لظهور الجر عليها المختص بالإتباع - دل على أولوية الوقف على ما احتمل نعته الإتباع والقطع كالموصولات إذا وقع فاصلة من الفواصل المعتبرة سنة وعرفا، ومن ذلك ما كان في سورة الماعون، التي فواصلها بالياء والنون، وبعضها بالواو والنون، وفيها فاصلة بالياء والميم، ولا جرم أن الميم كالنون في مثل ذلك لاشتراكهما في جميع الصفات المتضادة وفي صفة الغنة.

ومن ثم اعتبر ذلك نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فاصلة من فواصل أم القرآن فوقف على الرحيم [الفاتحة: 3] بعد رب العالمين [الفاتحة: 2] وقبل مالك يوم الدين [الفاتحة: 4] كما ثبت في بعض الآثار أنه وقف على المستقيم [الفاتحة: 6] بعد نستعين [الفاتحة: 5] وقبل ولا الضالين [الفاتحة: 7] اهـ منه بلفظه.

[ ص: 391 ] هذا، وقد قرأت بالوقف على رؤوس الآي في العموم - كما هو السنة - على جميع شيوخي في جميع إجازاتي، إفرادا وجمعا، في أكثر من عشر ختمات، في مختلف القراءات، سبعية كانت أم عشرية.

وبالوقف على رؤوس الآي مطلقا آخذ قراءة وإقراء؛ فإن اتباع السنة من صدق الحب لمن سنها - صلى الله عليه وسلم - والله نسأل أن يحشرنا معه في الفردوس الأعلى، آمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية