الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
زيادات الثقات


178 - واقبل زيادات الثقات منهم ومن سواهم فعليه المعظم      179 - وقيل لا ، وقيل لا منهم وقد
قسمه الشيخ فقال : ما انفرد      180 - دون الثقات ثقة خالفهم
فيه صريحا فهو رد عندهم      181 - أو لم يخالف فاقبلنه وادعى
فيه الخطيب الاتفاق مجمعا      182 - أو خالف الإطلاق نحو : " جعلت
تربة الأرض " فهي فرد نقلت      183 - فالشافعي وأحمد احتجا بذا
والوصل والإرسال من ذا أخذا      184 - لكن في الإرسال جرحا فاقتضى
تقديمه ورد أن مقتضى      185 - هذا قبول الوصل إذ فيه وفي
الجرح علم زائد للمقتفي



وهو فن لطيف تستحسن العناية به ، يعرف بجمع الطرق والأبواب ، ومناسبته لما قبله ظاهرة ، ولكن كان الأنسب - كما قدمنا - ذكره مع تعارض الوصل والإرسال .

وقد كان إمام الأئمة ابن خزيمة لجمعه بين الفقه والحديث مشارا إليه [ ص: 261 ] به ; بحيث قال تلميذه ابن حبان : ما رأيت على أديم الأرض من يحفظ الصحاح بألفاظها ، ويقوم بزيادة كل لفظة زاد في الخبر ثقة ، حتى كأن السنن كلها نصب عينيه - غيره .

وكذا كان الفقيه أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد ، وأبو الوليد حسان بن محمد القرشي النيسابوريان وغيرهما من الأئمة ; كأبي نعيم بن عدي الجرجاني ممن اشتهر بمعرفة زيادات الألفاظ التي تستنبط منها الأحكام الفقهية في المتون .

[ أقوال الأئمة في قبول الزيادة ] ( واقبل ) أيها الطالب ( زيادات الثقات ) من التابعين ، فمن بعدهم مطلقا ( منهم ) أي : من الثقات الراوين للحديث بدونها ، بأن رواه أحدهم مرة ناقصا ومرة بالزيادة .

( ومن سواهم ) أي : من سوى الراوين بدونها من الثقات أيضا ، سواء كانت في اللفظ أم المعنى ، تعلق بها حكم شرعي أم لا ، غيرت الحكم الثابت أم لا ، أوجبت نقصا من أحكام ثبتت بخبر آخر أم لا ، علم اتحاد المجلس أم لا ، كثر الساكتون عنها أم لا .

( فـ ) ـهذا - كما حكاه الخطيب - هو الذي مشى ( عليه المعظم ) من الفقهاء وأصحاب الحديث ; كابن حبان والحاكم ، وجماعة من الأصوليين ، والغزالي في المستصفى ، وجرى عليه النووي في مصنفاته ، وهو ظاهر تصرف مسلم في صحيحه .

وقيده ابن خزيمة باستواء الطرفين في الحفظ والإتقان ، فلو كان الساكت عددا أو واحدا أحفظ منه ، أو لم يكن هو حافظا ، ولو كان صدوقا فلا .

[ ص: 262 ] وممن صرح بذلك ابن عبد البر فقال في التمهيد : ( ( إنما تقبل إذا كان راويها أحفظ ، وأتقن ممن قصر أو مثله في الحفظ ، فإن كانت من غير حافظ ولا متقن ، فلا التفات إليها ) ) ، ونحوه قول الخطيب : ( ( الذي نختاره القبول إذا كان راويها عدلا حافظا ومتقنا ضابطا ) ) .

وكذا قال الترمذي : إنما تقبل ممن يعتمد على حفظه ، ونحوه عن أبي بكر الصيرفي ، وقال ابن طاهر : إنما تقبل عند أهل الصنعة من الثقة المجمع عليه .

وكذا قيد ابن الصباغ في العدة القبول إذا كان راوي الناقصة أكثر بتعدد مجلس التحمل ; لأنهما حينئذ كالخبرين يعمل بهما .

وإمام الحرمين ، بما إذا سكت الباقون عن نفيه ، أما مع النفي على وجه يقبل فلا ، وبعض المتكلمين كما حكاه ابن الصباغ : بما إذا لم تكن مغيرة للإعراب ، وإلا كانا متعارضين أي في اللفظ ، وإن جعله بعضهم في المعنى .

وفريق بما إذا أفادت حكما شرعيا ، وآخرون بما إذا كانت في اللفظ خاصة ; كزيادة ( ( أحاقيف جرذان ) ) في حديث المحرم الذي وقصته ناقته ، فإن ذكر الموضع لا يتعلق به حكم شرعي ، حكاهما الخطيب .

[ وقال : إن [ ص: 263 ] أولهما لا وجه له ; إذ الأحكام محل التشدد ، فقبولها في غيرها أولى ، وكأنه لحظ الحاجة في القبول فلم يتجاوزها ولا لما قصره الآخر عليه مع كونه حاجة في الجملة ; بحيث صارا كطرفي نقيض في التساهل وغيره ] .

وابن السمعاني ومن وافق بما إذا لم يكن الساكتون ممن لا يغفل مثلهم عن مثلها عادة ، أو لم تكن مما تتوفر الدواعي على نقله .

وخرج شيخنا من تفرقة ابن حبان في مقدمة ( الضعفاء ) له بين المحدث والفقيه في الرواية بالمعنى التفرقة أيضا هنا بينهما في الإسناد والمتن ، فتقبل من المحدث في السند لا المتن ، ومن الفقيه عكسه ; لزيادة اعتناء كل منهما بما قبل منه ، قال : بل سياق كلام ابن حبان يرشد إليه إلى غير ذلك .

( وقيل : لا ) تقبل الزيادة مطلقا لا ممن رواه ناقصا ، ولا من غيره ، حكاه الخطيب ، وابن الصباغ عن قوم من المحدثين .

وحكي عن أبي بكر الأبهري قالوا : لأن ترك الحفاظ لنقلها وذهابهم عن معرفتها يوهنها ويضعف أمرها ، ويكون معارضا لها ، وليست كالحديث المستقل ; إذ غير ممتنع في العادة سماع واحد فقط للحديث من الراوي وانفراده به ، ويمتنع فيها سماع الجماعة لحديث واحد ، وذهاب زيادة فيه عليهم ونسيانها إلا الواحد .

( وقيل : لا ) تقبل الزيادة ( منهم ) فقط ; أي : ممن رواه بدونها ثم رواه بها ; لأن روايته له ناقصا أورثت شكا في الزيادة ، وتقبل من غيره من الثقات ، حكاه الخطيب عن فرقة من الشافعية .

[ ص: 264 ] وكذا قال به منهم أبو نصر القشيري . قال بعضهم : سواء كانت روايته للزائدة سابقة ، أو لاحقة .

ونحوه قول ابن الصباغ بوجوب التوقف ; حيث لم يذكر أنه نسيها ، فإنه قال : ولو تكررت روايته ناقصا ، ثم رواه بالزيادة ، فإن ذكر أنه كان نسيها قبلت ، وإلا وجب التوقف .

ورد ابن الخطيب الثاني بأنه لا يمتنع تعدد المجلس وسهو الراوي في اقتصاره على الناقصة في أحدهما ، أو اكتفاؤه بكونه كان أتمه قبل ، وضبطه الثقة عنه ، فنقل كل من الفريقين ما سمعه ، وإنه على تقدير اتحاد المجلس لا يمتنع أن يكون بعضهم حضر في أثناء الكلام ، أو فارق قبل انتهائه ، أو عرض له شاغل من نوم أو فكر أو نحوهما .

والثالث بأنه لا يمتنع أن يكون سمعه من راو تاما ، ومن آخر ناقصا ، ثم حدث به كل مرة عن واحد ، أو يرويه بدونها لشك أو نسيان ثم يتيقنها أو يتذكرها .

واختار الأول كما تقدم ، ولكنه ليس على إطلاقه ، وإن كان في استدلاله على قبولها منه نفسه ، بقبوله إذا روى حديثا مثبتا لحكم ، وحديثا ناسخا له ما يشعر بالقبول مع التنافي ، فتصريح إمام الحرمين بردها عنه نفى الباقين ، وابن الصباغ بأنهما كالخبرين يعمل بهما كما تقدم - قد يؤخذ منه التقييد ، وهو الذي مشى عليه شيخنا تبعا لغيره ، فاشترط لقبولها كونها غير منافية لرواية من هو أوثق من راويها .

[ ص: 265 ] وكلام الشافعي الماضي في المرسل ، مع الإشارة إليه في تعارض الوصل والإرسال ، يشير إلى عدم الإطلا ق .

[ تقسيم ما ينفرد به الثقة ] ( وقد قسمه ) أي : ما ينفرد به الثقة من الزيادة ( الشيخ ) ابن الصلاح ( فقال ) : حسبما حرره من تصرفهم : قد رأيت تقسيم ما ينفرد به الثقة إلى ثلاثة أقسام : ( ما انفرد ) بروايته ( دون الثقات ) أو ثقة أحفظ ( ثقة خالفهم ) أو خالف الواحد الأحفظ ( فيه ) أي : فيما انفرد به ( صريحا ) في المخالفة ; بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، ويلزم من قبولها رد الأخرى ( فهو رد ) أي : مردود ( عندهم ) أي : المحققين ، ومنهم الشافعي .

( أو لم يخالف ) فيما انفرد به ما رووه أو الأحفظ أصلا ( فاقبلنه ) بنون التوكيد الخفيفة ; لأنه جازم بما رواه وهو ثقة ، ولا معارض لروايته ; إذ الساكت عنها لم ينفها لفظا ولا معنى ، ولا في سكوته دلالة على وهمها ، بل هي كالحديث المستقل الذي تفرد بجملته ثقة ، ولا مخالفة فيه أصلا كما سبق كل من هذين القسمين في الشاذ .

( وادعى فيه ) أي : في قبول هذا القسم ( الخطيب الاتفاق ) بين العلماء حال كونه ( مجمعا ) ولكن عزو حكاية الاتفاق في مسألتنا ليس صريحا في كلام الخطيب ، فعبارته : ( ( والدليل على صحة ذلك - أي : القول بقبول الزيادة - أمور :

أحدها : اتفاق جميع أهل العلم على أنه لو انفرد الثقة بنقل حديث لم ينقله غيره وجب قبوله ، ولم يكن ترك الرواة لنقله إن كانوا عرفوه وذهابهم عن العمل به معارضا له ولا قادحا في عدالة راويه ، ولا مبطلا له ، فكذلك سبيل الانفراد بالزيادة ) ) .

( أو خالف الإطلاق ) فزاد لفظة معنوية في حديث لم يذكرها سائر من رواه ( نحو : ( ( جعلت تربة الأرض ) ) ) بالنقل لنا ، طهورا في حديث : فضلت على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجدا . . . .

( فهي ) أي : زيادة التربة ( فرد نقلت ) تفرد بروايتها أبو مالك سعد بن طارق الأشجعي ، عن ربعي ، عن [ ص: 266 ] حذيفة ، أخرجها مسلم في صحيحه ، وكذا أخرجها ابن خزيمة وغيره بلفظ ( التراب ) ، وسائر الروايات الصحيحة من غير حديث حذيفة لفظها : وجعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا .

قال : " فهذا وما أشبهه يشبه القسم الأول ، من حيث إن ما رواه الجماعة عام ، يعني لشموله جميع أجزاء الأرض ، وما رواه المنفرد بالزيادة مخصوص ، يعني بالتراب .

وفي ذلك مغايرة في الصفة ، ونوع مخالفة يختلف بها الحكم ، ويشبه أيضا القسم الثاني من حيث إنه لا منافاة بينهما ( فالشافعي ) بالإسكان ، و ( أحمد احتجا بذا ) أي : باللفظ المزيد هنا ; حيث خصا التيمم بالتراب .

وكذا بزيادة " من المسلمين " في حديث زكاة الفطر ، الذي شوحح ابن الصلاح في التمثيل به ، كما صرح باحتجاجها مع غيرهما من الأئمة بها فيه خاصة ، واستغنى به عن التصريح في هذا القسم بحكم ، حتى قال النووي : كذا قال - يعني ابن الصلاح - والصحيح قبوله .

وأما شيخنا فإنه حقق تبعا للعلائي أن الذي يجري على قواعد المحدثين ، أنهم لا يحكمون عليه بحكم مطرد من القبول والرد ، بل يرجحون بالقرائن كما في تعارض الوصل والإرسال ، فهما على حد سواء ، كما جزم به ابن الحاجب .

والمرجح عنده وعند ابن الصلاح فيهما سواء ، بل قال [ ص: 267 ] ما معناه : ( والوصل والإرسال ) في تعارضهما ( من ذا ) أي : من باب زيادة الثقات ( أخذا ) ، فالوصل زيادة ثقة ، وبينه وبين الإرسال نحو ما ذكر هنا في ثالث الأقسام ، وبيانه في الشق الأول واضح .

وأما في الثاني : فإما أن يكون بحمل أحدهما على الآخر ، أو لكون كل منهما يوافق الآخر في كونه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ( لكن ) بالنون المشددة ( في الإرسال ) فقط ( جرحا ) في الحديث ( فاقتضى تقديمه ) أي : للأكثر من قبيل تقديم الجرح على التعديل ، يعنى : فافترقا ، ونحوه قول غيره : الإرسال علة في السند ، فكان وجودها قادحا في الوصل ، وليست الزيادة في المتن كذلك .

ولكن قال شيخنا : إن الفرق بينهما لا يخلو من تكلف وتعسف . انتهى .

وبالجملة فقد بان تباين مأخذ الأكثرين في الموضعين ، لئلا يكون تناقضا ; حيث يحكي الخطيب هناك عن أكثر أهل الحديث ترجيح الإرسال ، وهنا عن الجمهور من الفقهاء ، وأصحاب الحديث قبول الزيادة ، مع أن الوصل زيادة ثقة .

وإلى الاستشكال أشار ابن الصلاح هنا بعد الحكاية عن الخطيب بقوله : وقد قدمنا - أي : عن الخطيب - حكاية عن أكثر أهل الحديث ترجيح الإرسال ، ثم ختم الباب بإلزامهم مقابله ; لكونه رجحه هناك .

فقال ما معناه : ( ورد ) أي : تقديم الإرسال بـ ( أن مقتضى هذا ) أي : الذي علل به تقديمه ( قبول الوصل ) أيضا ( إذ فيه ) أي : في الوصل (

وفي الجرح علم زائد للمقتفي

) أي : للمتبع .

وأيضا فقد تقدم عن بعض القائلين بترجيح الإرسال تعليله بأن من أرسل معه زيادة علم .

والحق أن الزيادة مع الواصل ، وأن الإرسال نقص في الحفظ لما جبل [ ص: 268 ] عليه الإنسان من النسيان ، وحينئذ فالجواب عن الخطيب : أن يقال : إن المحكي هناك عن أهل الحديث خاصة ، وهو كذلك .

وأما هنا فعن الجمهور من الفقهاء والمحدثين ، فالأكثرية بالنظر للمجموع من الفريقين ، ولا يلزم من ذلك اختصاص أهل الحديث بالأكثرية .

تتمة : الزيادة الحاصلة من بعض الصحابة على صحابي آخر ، إذا صح السند مقبولة بالاتفاق .

التالي السابق


الخدمات العلمية