الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2241 ] ذلك وقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه. كرمه بخلقته على تلك الهيئة، بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان!

                                                                                                                                                                                                                                      وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته والتي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها ويبدل، وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل، ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك..

                                                                                                                                                                                                                                      وكرمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان!

                                                                                                                                                                                                                                      وكرمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملإ الأعلى الباقي في الأرض.. القرآن..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا وحملناهم في البر والبحر والحمل في البر والبحر يتم بتسخير النواميس وجعلها موافقة لطبيعة الحياة الإنسانية وما ركب فيها من استعدادات، ولو لم تكن هذه النواميس موافقة للطبيعة البشرية لما قامت الحياة الإنسانية، وهي ضعيفة ضئيلة بالقياس إلى العوامل الطبيعية في البر والبحر. ولكن الإنسان مزود بالقدرة على الحياة فيها، ومزود كذلك بالاستعدادات التي تمكنه من استخدامها. وكله من فضل الله.

                                                                                                                                                                                                                                      ورزقناهم من الطيبات .. والإنسان ينسى ما رزقه الله من الطيبات بطول الألفة فلا يذكر الكثير من هذه الطيبات التي رزقها إلا حين يحرمها. فعندئذ يعرف قيمة ما يستمتع به، ولكنه سرعان ما يعود فينسى.. هذه الشمس. هذا الهواء. هذا الماء. هذه الصحة. هذه القدرة على الحركة. هذه الحواس. هذا العقل.. هذه المطاعم والمشارب والمشاهد ... هذا الكون الطويل العريض الذي استخلف فيه، وفيه من الطيبات ما لا يحصيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا .. فضلناهم بهذا الاستخلاف في ملك الأرض الطويل العريض. وبما ركب في فطرتهم من استعدادات تجعل المخلوق الإنساني فذا بين الخلائق في ملك الله ...

                                                                                                                                                                                                                                      ومن التكريم أن يكون الإنسان قيما على نفسه، محتملا تبعة اتجاهه وعمله. فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنسانا. حرية الاتجاه وفردية التبعة. وبها استخلف في دار العمل. فمن العدل أن يلقى جزاء اتجاهه وثمرة عمله في دار الحساب:

                                                                                                                                                                                                                                      يوم ندعوا كل أناس بإمامهم. فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا. ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو مشهد يصور الخلائق محشورة. وكل جماعة تنادي بعنوانها باسم المنهج الذي اتبعته، أو الرسول الذي اقتدت به، أو الإمام الذي ائتمت به في الحياة الدنيا. تنادي ليسلم لها كتاب عملها وجزائها في الدار الآخرة.. فمن أوتي كتابه بيمينه فهو فرح بكتابه يقرؤه ويتملاه، ويوفى أجره لا ينقص منه شيئا ولو قدر الخيط الذي يتوسط النواة! ومن عمي في الدنيا عن دلائل الهدى فهو في الآخرة أعمى عن طريق الخير. وأشد ضلالا. وجزاؤه معروف. ولكن السياق يرسمه في المشهد المزدحم الهائل، أعمى ضالا يتخبط، لا يجد من يهديه ولا ما يهتدي به، ويدعه كذلك لا يقرر في شأنه أمرا، لأن مشهد العمى والضلال في ذلك الموقف العصيب هو وحده جزاء مرهوب يؤثر في القلوب!

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية