الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 301 ] اعلم أن ما يزعمه بعض من لا علم عنده : من أن الكتاب والسنة دلا على اتخاذ القبور مساجد ، يعني بالكتاب قوله تعالى : قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا [ 18 \ 21 ] ، ويعني بالسنة ما ثبت في الصحيح من أن : موضع مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان فيه قبور المشركين ، في غاية السقوط ، وقائله من أجهل خلق الله .

                                                                                                                                                                                                                                      أما الجواب عن الاستدلال بالآية فهو أن تقول : من هؤلاء القوم الذين قالوا : " لنتخذن عليهم مسجدا " ؟ أهم ممن يقتدى به ؟ أم هم كفرة لا يجوز الاقتداء بهم ؟ ، وقد قال أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله تعالى - في هؤلاء القوم [ 18 \ 21 ] ، ما نصه : " وقد اختلف في قائل هذه المقالة ، أهم الرهط المسلمون أم هم الكفار ؟ فإذا علمت ذلك فاعلم أنهم على القول بأنهم كفار فلا إشكال في أن فعلهم ليس بحجة ; إذ لم يقل أحد بالاحتجاج بأفعال الكفار كما هو ضروري . وعلى القول : بأنهم مسلمون كما يدل له ذكر المسجد ; لأن اتخاذ المساجد من صفات المسلمين ، فلا يخفى على أدنى عاقل أن قول قوم من المسلمين في القرون الماضية : إنهم سيفعلون كذا ، لا يعارض به النصوص الصحيحة الصريحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من طمس الله بصيرته فقابل قولهم : لنتخذن عليهم مسجدا [ 18 \ 21 ] بقوله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى بخمس : " لعن الله اليهود والنصارى ; اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . الحديث . يظهر لك أن من اتبع هؤلاء القوم في اتخاذهم المسجد على القبور ، ملعون على لسان الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - كما هو واضح ، ومن كان ملعونا على لسانه - صلى الله عليه وسلم - ، فهو ملعون في كتاب الله كما صح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ; لأن الله يقول : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] ; ولهذا صرح ابن مسعود - رضي الله عنه - : بأن الواصلة والواشمة ومن ذكر معهما في الحديث ، كل واحدة منهن ملعونة في كتاب الله . وقال للمرأة التي قالت له : قرأت ما بين الدفتين فلم أجد ، إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه ، ثم تلا الآية الكريمة ، وحديثه مشهور في الصحيحين وغيرهما ، وبه تعلم أن من اتخذ المساجد على القبور ملعون في كتاب الله - جل وعلا - على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا دليل في آية : لنتخذن عليهم مسجدا [ 18 \ 21 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الاستدلال : بأن مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة مبني في محل مقابر المشركين فسقوطه ظاهر ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بها فنبشت وأزيل ما فيها . ففي الصحيحين من حديث أنس - رضي [ ص: 302 ] الله عنه - : " فكان فيه ما أقول لكم : قبور المشركين ، وفيه خرب ، وفيه نخل ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين ، فنبشت ، ثم بالخرب فسويت ، وبالنخل فقطع ، فصفوا النخل قبلة المسجد ، وجعلوا عضادتيه الحجارة . . . . . " . الحديث . هذا لفظ البخاري . ولفظ مسلم قريب منه بمعناه . فقبور المشركين لا حرمة لها ; ولذلك أمر - صلى الله عليه وسلم - بنبشها وإزالة ما فيها . فصار الموضع كأن لم يكن فيه قبر أصلا لإزالته بالكلية . وهو واضح كما ترى ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      والتحقيق الذي لا شك فيه : أنه لا يجوز البناء على القبور ولا تجصيصها . كما رواه مسلم في صحيحه ، وغيره عن أبي الهياج الأسدي : أن عليا - رضي الله عنه - قال له : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; ألا تدع تمثالا إلا طمسته ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته " .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ثبت في صحيح مسلم وغيره أيضا عن جابر - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر ، وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه " .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا النهي ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال : " وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " . وقال - جل وعلا - : وما نهاكم عنه فانتهوا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تبين مما ذكرنا حكم الصلاة في مواضع الخسف ، وفي المقبرة ، وإلى القبر ، وفي الحمام .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما أعطان الإبل : فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا النهي عن الصلاة فيها ، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - : أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أأتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : " إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا توضأ " ، قال : أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : " نعم ; توضأ من لحوم الإبل " . قال : أصلي في مرابض الغنم ؟ قال : " نعم " ، قال : أصلي في " مبارك الإبل " : قال " لا " . هذا لفظ مسلم في صحيحه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه ، وابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " صلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في أعطان الإبل " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج النسائي ، والبيهقي ، وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في أعطان الإبل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النووي في ( شرح المهذب ) : إن الإسناد الذي أخرجه به البيهقي حسن . وأخرج أبو داود في سننه في ( باب الوضوء من لحوم الإبل ) ، وفي ( باب النهي عن الصلاة في مبارك [ ص: 303 ] الإبل ) ، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في مبارك الإبل ، فقال : " لا تصلوا في مبارك الإبل ; فإنها من الشياطين " ، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم ، فقال : " صلوا فيها ; فإنها بركة " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن ماجه ، عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " صلوا في مراح الغنم ; ولا تصلوا في معاطن الإبل " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن ماجه ، عن سبرة بن معبد الجهني - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يصلى في أعطان الإبل ، ويصلى في مراح الغنم " .

                                                                                                                                                                                                                                      وترجم البخاري - رحمه الله - في صحيحه لهذه المسألة ، فقال : ( باب الصلاة في مواضع الإبل ) ، ثم قال : حدثنا صدقة بن الفضل ، قال : أخبرنا سليمان بن حيان ، قال : حدثنا عبيد الله عن نافع ، قال : رأيت ابن عمر يصلي إلى بعيره ، وقال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حجر في الفتح في الكلام على هذه الترجمة ، التي لم يأت البخاري بحديث يطابقها ما نصه : كأنه يشير إلى أن الأحاديث الواردة في التفرقة بين الإبل والغنم ليست على شرطه ، ولكن لها طرق قوية ، منها حديث جابر بن سمرة عند مسلم ، وحديث البراء بن عازب عند أبي داود ، وحديث أبي هريرة عند الترمذي ، وحديث عبد الله بن مغفل عند النسائي ، وحديث سبرة بن معبد عند ابن ماجه ، وفي معظمها التعبير بمعاطن الإبل . ووقع في حديث جابر بن سمرة والبراء : " مبارك الإبل " ، ومثله في حديث سليك عند الطبراني ، وفي حديث سبرة ، وكذا في حديث أبي هريرة عند الترمذي : " أعطان الإبل " . وفي حديث أسيد بن حضير عند الطبراني : " مناخ الإبل " ، وفي حديث عبد الله بن عمرو ، عند أحمد : " مرابد الإبل " فعبر المصنف بالمواضع لأنها أشمل ، والمعاطن أخص من المواضع ; لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء خاصة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذهب بعضهم إلى أن النهي خاص بالمعاطن دون غيرها من الأماكن التي تكون فيها الإبل . وقيل مأواها مطلقا ، نقله صاحب المغني عن أحمد . ا هـ كلام ابن حجر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حزم : إن أحاديث النهي عن الصلاة في أعطان الإبل متواترة بنقل تواتر يوجب العلم .

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا علمت ذلك ; فاعلم أن العلماء اختلفوا في صحة الصلاة في أعطان الإبل .

                                                                                                                                                                                                                                      فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنها لا تصح فيها ، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد ، وعليه جل أصحابه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 304 ] قال صاحب ( الإنصاف ) : هذا المذهب وعليه الأصحاب . وفي الفروع هو أشهر وأصح في المذهب . وقال المصنف وغيره : هذا ظاهر المذهب وهو من المفردات .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن قال بهذا القول ( ابن حزم ) .

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب جمهور أهل العلم إلى أن النهي للكراهة ، وأنه لو صلى فيها لصحت صلاته . وقد قدمنا كلام أهل الأصول في مثل هذه المسألة .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن العلماء اختلفوا في علة النهي عن الصلاة في أعطان الإبل .

                                                                                                                                                                                                                                      فقيل : لأنها خلقت من الشياطين ، كما تقدم في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو الصحيح في التعليل ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تصلوا في مبارك الإبل ; فإنها خلقت من الشياطين " ، وترتيبه كونها خلقت من الشياطين بالفاء على النهي ، يدل على أنه هو علته كما تقرر في مبحث مسلك النص ، ومسلك الإيماء والتنبيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال جماعة من أهل العلم : معنى كونها : " خلقت من الشياطين " ، أنها ربما نفرت وهو في الصلاة فتؤدي إلى قطع صلاته ، أو أذاه ، أو تشويش خاطره . وقد قدمنا أن كل عات متمرد تسميه العرب شيطانا . والإبل إذا نفرت فهي عاتية متمردة ، فتسميتها باسم الشياطين مطابق للغة العرب .

                                                                                                                                                                                                                                      والعرب تقول : خلق من كذا للمبالغة ، كما يقولون : خلق هذا من الكرم ، ومنه قوله : خلق الإنسان من عجل [ 21 \ 37 ] ، على أصح التفسيرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في معاطنها ، وبين غيبتها عنها ; إذ يؤمن نفورها حينئذ .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : ويرشد إلى صحة هذا حديث ابن مغفل عند أحمد بإسناد صحيح بلفظ : " لا تصلوا في أعطان الإبل ; فإنها خلقت من الجن ، ألا ترون إلى عيونها وهيئاتها إذا نفرت " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد يحتمل أن علة النهي أن يجاء بها إلى معاطنها بعد شروعه في الصلاة فيقطعها ، أو يستمر فيها مع شغل خاطره ، ا هــ كلام الشوكاني .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا التعليل المنصوص ; فهم العلماء القائلون بعدم بطلانها أنه : لما كانت علة النهي ما ذكر ; دل ذلك على أن الصلاة إذا فعلها تامة أنها غير باطلة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 305 ] وقيل : العلة أن أصحاب الإبل يتغوطون في مباركها بخلاف أهل الغنم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : العلة أن الناقة تحيض ، والجمل يمني .

                                                                                                                                                                                                                                      وكلها تعليلات لا معول عليها . والصحيح التعليل المنصوص عنه - صلى الله عليه وسلم - بأنها خلقت من الشياطين . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية