الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 623 ] وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل : قد ذكرت فيما تقدم من القواعد : أن " الإسلام " الذي هو دين الله الذي أنزل به كتبه ; وأرسل به رسله ; وهو أن يسلم العبد لله رب العالمين ; فيستسلم لله وحده لا شريك له ويكون سالما له بحيث يكون متألها له غير متأله لما سواه كما بينته أفضل الكلام ورأس الإسلام : وهو شهادة أن لا إله إلا الله . وله ضدان : الكبر والشرك ولهذا روي { أن نوحا عليه السلام أمر بنيه بلا إله إلا الله وسبحان الله ونهاهم عن الكبر والشرك } في حديث قد ذكرته في غير هذا الموضع فإن المستكبر عن عبادة الله لا يعبده فلا يكون مستسلما له والذي يعبده ويعبد غيره يكون مشركا به فلا يكون سالما له بل يكون له فيه شرك . ولفظ " الإسلام " يتضمن الاستسلام والسلامة التي هي الإخلاص وقد علم أن الرسل جميعهم بعثوا بالإسلام العام المتضمن لذلك كما قال تعالى : { يحكم بها النبيون الذين أسلموا } وقال موسى : { إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } وقال تعالى : { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه } وقال الخليل لما قال له ربه : { أسلم قال أسلمت لرب العالمين } { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب } - أيضا وصى بها بنيه - { يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وقال يوسف : { توفني مسلما } ونظائره كثيرة . وعلم أن إبراهيم الخليل هو إمام الحنفاء المسلمين بعده كما جعله أمة وإماما وجاءت الرسل من ذريته بذلك فابتدعت اليهود والنصارى ما ابتدعوه مما خرج بهم عن دين الله الذي أمروا به وهو الإسلام العام ولهذا أمرنا أن نقول : { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون } وكل من هاتين الأمتين خرجت عن الإسلام وغلب عليها أحد ضديه فاليهود يغلب عليهم الكبر ويقل فيهم الشرك والنصارى يغلب عليهم الشرك ويقل فيهم الكبر .

                وقد بين الله ذلك في كتابه فقال في اليهود : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } . وهذا هو أصل الإسلام . إلى قوله : { وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون } . وهذا اللفظ الذي هو لفظ الاستفهام ; هو إنكار لذلك عليهم . وذم لهم عليه وإنما يذمون على ما فعلوه فعلم أنهم كانوا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى [ ص: 625 ] أنفسهم استكبروا فيقتلون فريقا من الأنبياء ويكذبون فريقا ; وهذا حال المستكبر الذي لا يقبل ما لا يهواه ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر الكبر في الحديث الصحيح بأنه بطر الحق وغمط الناس ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود . قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم { لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل : يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك ؟ فقال : لا إن الله جميل يحب الجمال ولكن الكبر بطر الحق وغمط الناس } وبطر الحق جحده ودفعه وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم . وكذلك ذكر الله " الكبر " في قوله بعد أن قال : { وكتبنا له في الألواح من كل شيء } إلى أن قال : { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا } .

                وهذا حال الذي لا يعمل بعلمه بل يتبع هواه وهو الغاوي كما قال : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } { ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه } الآية وهذا مثل علماء السوء وقد قال لما رجع موسى إليهم : { ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون } فالذين يرهبون ربهم ; خلاف الذين يتبعون أهواءهم كما قال تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } { فإن الجنة هي المأوى } . [ ص: 626 ] فأولئك المستكبرون المتبعون أهواءهم مصروفون عن آيات الله لا يعلمون ولا يفهمون لما تركوا العمل بما علموه استكبارا واتباعا لأهوائهم عوقبوا بأن منعوا الفهم والعلم ; فإن العلم حرب للمتعالي كما أن السيل حرب للمكان العالي والذين يرهبون ربهم عملوا بما علموه فأتاهم الله علما ورحمة إذ من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم ولهذا لما وصف الله النصارى : { بأن منهم قسيسين ورهبانا } . والرهبان : من الرهبنة { وأنهم لا يستكبرون } كانوا بذلك أقرب مودة إلى الذين آمنوا . كما قال : { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون } . فلما كان فيهم رهبة وعدم كبر كانوا أقرب إلى الهدى فقال في حق المسلمين منهم : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } .

                قال ابن عباس : مع محمد وأمته وهم الأمة الشهداء فإن النصارى لهم قصد وعبادة وليس لهم علم وشهادة ; ولهذا فإن كان اليهود شرا منهم ; بأنهم أكثر كبرا وأقل رهبة وأعظم قسوة فإن النصارى شر منهم فإنهم أعظم ضلالا وأكثر شركا وأبعد عن تحريم ما حرم الله ورسوله . وقد وصفهم الله بالشرك الذي ابتدعوه كما وصف اليهود بالكبر الذي هووه فقال تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } وقال تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } إلى قوله : { أن اعبدوا الله ربي وربكم } الآية وقد ذكر الله قولهم إن الله هو المسيح ابن مريم وإن الله ثالث ثلاثة وقولهم : اتخذ الله ولدا ; في مواضع من كتابه وبين عظيم فريتهم وشتمهم لله وقولهم " الإد " الذي : { تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا } ولهذا يدعوهم في غير موضع إلى ألا يعبدوا إلا إلها واحدا كقوله : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } إلى قوله : { ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد } إلى قوله { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا } وهذا لأن المشركين بمخلوق من البشر أو غيرهم يصيرون هم مشركون . ويصير الذي أشركوا به من الإنس والجن مستكبرا كما قال : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } فأخبر الله أن عباده لا يستكبرون عن عبادته وإن أشرك بهم المشركون .

                وكذلك قال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد } إلى قوله : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة } الآية وقال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة } فأخبر أنه أمرهم بالتوحيد ونهاهم عن أن يشركوا به أو بغيره كما فعلوه . ولما كان أصل دين اليهود الكبر عاقبهم بالذلة : فضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا . ولما كان أصل دين النصارى الإشراك لتعديد الطرق إلى الله أضلهم عنه ; فعوقب كل من الأمتين على ما اجترمه بنقيض قصده { وما ربك بظلام للعبيد } . كما جاء في الحديث : { يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر يطؤهم الناس بأرجلهم } . وكما في الحديث عن عمر بن الخطاب موقوفا ومرفوعا : { ما من أحد إلا في رأسه حكمة فإن تواضع قيل له : انتعش نعشك الله وإن رفع رأسه قيل له : انتكس نكسك الله } . وقال سبحانه وتعالى : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } وقال تعالى : { بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين } { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } { وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم } . ولهذا استوجبوا الغضب والمقت . والنصارى لما دخلوا في البدع : أضلهم عن سبيل الله فضلوا عن سبيل الله وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وهم إنما ابتدعوها ليتقربوا بها إليه ويعبدوه فأبعدتهم عنه وأضلتهم عنه وصاروا يعبدون غيره . [ ص: 629 ] فتدبر هذا والله تعالى يهدينا صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم والضالين .

                وقد وصف بعض اليهود بالشرك في قوله : { وقالت اليهود عزير ابن الله } وفي قوله : { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت } ففي اليهود من عبد الأصنام وعبد البشر ; وذلك أن المستكبر عن الحق يبتلى بالانقياد للباطل فيكون المستكبر مشركا كما ذكر الله عن فرعون وقومه : أنهم كانوا مع استكبارهم وجحودهم مشركين فقال عن مؤمن آل فرعون : { ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار } { تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار } { لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة } . وقال : { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات } الآية . وقال يوسف الصديق لهم : { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } وقد قال تعالى : { وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون } . فإن قيل : كيف يكون قوم فرعون مشركين ؟ وقد أخبر الله عن فرعون [ ص: 630 ] أنه جحد الخالق فقال : { وما رب العالمين } وقال : { ما علمت لكم من إله غيري } وقال : { أنا ربكم الأعلى } وقال عن قومه : { فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين } { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } والإشراك لا يكون إلا من مقر بالله وإلا فالجاحد له لم يشرك به . قيل : لم يذكر الله جحود الصانع إلا عن فرعون موسى وأما الذين كانوا في زمن يوسف فالقرآن يدل على أنهم كانوا مقرين بالله وهم مشركون به ولهذا كان خطاب يوسف للملك وللعزيز ولهم : يتضمن الإقرار بوجود الصانع كقوله : { أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } { ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة } إلى قوله { إن ربي بكيدهن عليم } { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } إلى قوله : { إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم } وقد قال مؤمن آل - حم - { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا } فهذا يقتضي : أن أولئك الذين بعث إليهم يوسف كانوا يقرون بالله .

                ولهذا كان إخوة يوسف يخاطبونه قبل أن يعرفوا أنه يوسف ويظنونه من آل فرعون بخطاب يقتضي الإقرار بالصانع كقولهم : { تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين } وقال لهم : { أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون } وقال : { معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } وقالوا له : [ ص: 631 ] { يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين } وذلك أن فرعون الذي كان في زمن يوسف أكرم أبويه وأهل بيته لما قدموا إكراما عظيما مع علمه بدينهم واستقراء أحوال الناس يدل على ذلك . فإن جحود الصانع لم يكن دينا غالبا على أمة من الأمم قط وإنما كان دين الكفار الخارجين عن الرسالة هو الإشراك وإنما كان يجحد الصانع بعض الناس وأولئك كان علماؤهم من الفلاسفة الصابئة المشركين الذين يعظمون الهياكل والكواكب والأصنام والأخبار المروية من نقل أخبارهم وسيرهم كلها تدل على ذلك ; ولكن فرعون موسى : { فاستخف قومه فأطاعوه } وهو الذي قال لهم - دون الفراعنة المتقدمين - ; { ما علمت لكم من إله غيري } ثم قال لهم بعد ذلك : { أنا ربكم الأعلى } { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } نكال الكلمة الأولى . ونكال الكلمة الأخيرة وكان فرعون في الباطن عارفا بوجود الصانع وإنما استكبر كإبليس وأنكر وجوده ولهذا قال له موسى : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } فلما أنكر الصانع وكانت له آلهة يعبدها بقي على عبادتها ولم يصفه الله تعالى بالشرك وإنما وصفه بجحود الصانع وعبادة آلهة أخرى .

                والمنكر للصانع منهم مستكبر كثيرا ما يعبد آلهة ; ولا يعبد الله قط ; فإنه يقول : هذا العالم واجب الوجود بنفسه . وبعض أجزائه مؤثر في بعض ويقول إنما انتفع بعبادة الكواكب والأصنام ونحو ذلك ولهذا كان باطن قول هؤلاء الاتحادية المنتسبة إلى الإسلام هو قول فرعون . [ ص: 632 ] وكنت أبين أنه مذهبهم وأبين أنه حقيقة مذهب فرعون حتى حدثني الثقة : عن بعض طواغيتهم أنه قال : نحن على قول فرعون ; ولهذا يعظمون فرعون في كتبهم تعظيما كثيرا . فإنهم لم يجعلوا ثم صانعا للعالم خلق العالم ولا أثبتوا ربا مدبرا للمخلوقات وإنما جعلوا نفس الطبيعة هي الصانع ولهذا جوزوا عبادة كل شيء وقالوا من عبده فقد عبد الله ولا يتصور عندهم أن يعبد غير الله فما من شيء يعبد إلا وهو الله وهذه الكائنات عندهم أجزاؤه أو صفاته كأجزاء الإنسان أو صفاته فهؤلاء إذا عبدوا الكائنات فلم يعبدوها لتقربهم إلى الله زلفى ; لكن لأنها عندهم هي الله أو مجلى من مجاليه أو بعض من أبعاضه أو صفة من صفاته أو تعين من تعيناته وهؤلاء يعبدون ما يعبده فرعون وغيره من المشركين لكن فرعون لا يقول : هي الله ولا تقربنا إلى الله والمشركون يقولون : هي شفعاؤنا وتقربنا إلى الله وهؤلاء يقولون هي الله كما تقدم وأولئك أكفر من حيث اعترفوا بأنهم عبدوا غير الله أو جحدوه ; وهؤلاء أوسع ضلالا من حيث جوزوا عبادة كل شيء وزعموا أنه هو الله وأن العابد هو المعبود وإن كانوا إنما قصدوا عبادة الله . وإذا كان أولئك كانوا مشركين كما وصفوا بذلك .

                وفرعون موسى هو الذي جحد الصانع وكان يعبد الآلهة ولم يصفه الله بالشرك . فمعلوم أن المشركين قد يحبون آلهتهم كما يحبون الله أو تزيد محبتهم لهم على محبتهم لله ; ولهذا : يشتمون الله إذا شتمت آلهتهم . كما قال تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } . فقوم فرعون قد يكونون أعرضوا عن الله بالكلية بعد أن كانوا مشركين به واستجابوا لفرعون في قوله : { أنا ربكم الأعلى } و { ما علمت لكم من إله غيري } . ولهذا لما خاطبهم المؤمن ذكر الأمرين فقال : { تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم } فذكر الكفر به الذي قد يتناول جحوده وذكر الإشراك به أيضا ; فكان كلامه متناولا للمقالتين والحالين جميعا . فقد تبين : أن المستكبر يصير مشركا إما بعبادة آلهة أخرى مع استكباره عن عبادة الله لكن تسمية هذا شركا نظير من امتنع مع استكباره عن إخلاص الدين لله كما قال تعالى : { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون } { ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون } فهؤلاء مستكبرون مشركون ; وإنما استكبارهم عن إخلاص الدين لله فالمستكبر الذي لا يقر بالله في الظاهر كفرعون أعظم كفرا منهم وإبليس الذي يأمر بهذا كله ويحبه ويستكبر عن عبادة ربه وطاعته أعظم كفرا من هؤلاء وإن كان عالما بوجود الله وعظمته كما أن فرعون كان أيضا عالما بوجود الله .

                وإذا كانت البدع والمعاصي شعبة من الكفر وكانت مشتقة من شعبه . كما أن الطاعات كلها شعبة من شعب الإيمان ومشتقة منه وقد علم أن الذي يعرف الحق ولا يتبعه غاو يشبه اليهود ; وأن الذي يعبد الله من غير علم وشرع : هو ضال يشبه النصارى ; كما كان يقول من يقول من السلف : من فسد من العلماء [ ص: 634 ] ففيه شبه من اليهود ; ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى . فعلى المسلم أن يحذر من هذين الشبهين الفاسدين ; من حال قوم فيهم استكبار وقسوة عن العبادة والتأله ; وقد أوتوا نصيبا من الكتاب وحظا من العلم ; وقوم فيهم عبادة وتأله بإشراك بالله وضلال عن سبيل الله ووحيه وشرعه وقد جعل في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها وهذا كثير منتشر في الناس ; والشبه تقل تارة وتكثر أخرى ; فأما المستكبرون المتألهون لغير الله الذين لا يعبدون الله . وإنما يعبدون غيره للانتفاع به ; فهؤلاء يشبهون فرعون .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية