الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون .

                                                                                                                                                                                                                                      أنكر الله - جل وعلا - على الذين يعملون السيئات من الكفر والمعاصي ، ومع ذلك يأمنون عذاب الله ولا يخافون أخذه الأليم ، وبطشه الشديد ، وهو قادر على أن يخسف بهم الأرض ، ويهلكهم بأنواع العذاب . والخسف : بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل ; كما فعل الله بقارون ، قال الله تعالى فيه : فخسفنا به وبداره الأرض الآية [ 28 \ 81 ] ، وبين هذا المعنى في مواضع كثيرة ; كقوله : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في [ ص: 381 ] السماء الآية [ 67 \ 16 ، 17 ] ، وقوله : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا [ 17 \ 68 ] ، وقوله : أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [ 7 \ 99 ] ، وقد قدمنا طرفا من هذه في أول " سورة الأعراف " .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف العلماء في إعراب : " السيئات " [ 16 \ 45 ] ، في هذه الآية الكريمة ; فقال بعض العلماء : نعت لمصدر محذوف ، أي : مكروا المكرات السيئات ، أي : القبيحات قبحا شديدا ; كما ذكر الله عنهم في قوله : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك الآية [ 8 \ 30 ] ، وقال بعض العلماء : مفعول به لـ " مكروا " على تضمين " مكروا " معنى فعلوا . وهذا أقرب أوجه الإعراب عندي . وقيل : مفعول به لـ " أمن " ، أي : أأمن الماكرون السيئات ، أي : العقوبات الشديدة التي تسوءهم عند نزولها بهم . ذكر الوجه الأول : الزمخشري ، والأخيرين ابن عطية . وذكر الجميع أبو حيان في " البحر المحيط " .

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه .

                                                                                                                                                                                                                                      كل ما جاء في القرآن من همزة استفهام بعدها واو العطف أو فاؤه ; كقوله : أفنضرب عنكم الذكر صفحا [ 43 \ 5 ] ، أفلم يروا إلى ما بين أيديهم [ 34 \ 9 ] ، أفلم تكن آياتي تتلى عليكم [ 45 \ 31 ] ، إلخ ، وفيه وجهان معروفان عند علماء العربية : أحدهما : أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة ما بعدها على محذوف دل المقام عليه ; كقولك مثلا : أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحا ؟ أعموا فلم يروا إلى ما بين أيديهم ؟ ألم تأتكم آياتي أفلم تكن تتلى عليكم ؟ وهكذا وإلى هذا الوجه أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      وحذف متبوع بدا هنا استبح وعطفك الفعل على الفعل يصح



                                                                                                                                                                                                                                      ومحل الشاهد في الشطر الأول دون الثاني .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة للجملة المصدرة بهمزة الاستفهام على ما قبلها ; إلا أن همزة الاستفهام تزحلقت عن محلها فتقدمت على الفاء والواو ; وهي متأخرة عنهما في المعنى ، وإنما تقدمت لفظا عن محلها معنى ; لأن الاستفهام له صدر الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 382 ] فبهذا تعلم : أن في قوله تعالى في هذه الآية التي هي قوله : أفأمن الذين مكروا السيئات الآية [ 16 \ 45 ] ، الوجهين المذكورين ; فعلى الأول : فالمعنى أجهل الذين مكروا السيئات وعيد الله بالعقاب ؟ أفأمن الذين مكروا السيئات ، إلخ . وعلى الثاني فالمعنى فأأمن الذين مكروا السيئات ; فالفاء عاطفة للجملة المصدرة بالاستفهام ، والأول : هو الأظهر . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية