الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب الإمامة عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقيموا الصف في الصلاة فإن إقامة الصف من حسن الصلاة ولمسلم من حديث أنس فإن تسوية الصف من تمام الصلاة وقال البخاري من إقامة الصلاة وفي رواية له فكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه

                                                            [ ص: 324 ]

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 324 ] (باب الإمامة) (الحديث الأول) عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقيموا الصف في الصلاة فإن إقامة الصف من حسن الصلاة .

                                                            (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) فيه الأمر بإقامة الصفوف في الصلاة والمراد بالصف الجنس ويدخل في إقامة الصف استواء القائمين على سمت واحد والتصاق بعضهم لبعض بحيث لا يكون بينهم خلل وتتميم الصفوف المقدمة أولا فأولا وفي صحيح مسلم وغيره عن النعمان بن بشير قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح حتى رأى أن قد عقلنا عنه ثم خرج يوما فقام حتى كاد أن يكبر فرأى رجلا باديا صدره من الصف فقال : عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم وفي سنن أبي داود وغيره عن النعمان أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بوجهه فقال أقيموا صفوفكم ثلاثا والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم قال فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه وركبته بركبة صاحبه وكعبه بكعبه .

                                                            فهاتان الروايتان دالتان بمجموعهما على أنه يدخل في إقامة الصف استواء القائمين به وانضمام بعضهم لبعض وفي صحيح البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أقيموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه وفي صحيح مسلم وغيره عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ؟ قلنا وكيف [ ص: 325 ] تصف الملائكة عند ربها قال يتمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف وفي سنن أبي داود وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا ، ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله وفي سنن أبي داود وغيره عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رصوا صفوفكم وقاربوا بينهما وحاذوا بالأعناق فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف .

                                                            والأحاديث في هذا المعنى كثيرة (الثانية) هذا الأمر للاستحباب بدليل قوله في تعليله فإن إقامة الصف من حسن الصلاة قال ابن بطال هذا يدل على أن إقامة الصفوف سنة لأنه لو كان فرضا لم يجعله من حسن الصلاة لأن حسن الشيء زيادة على تمامه وذلك زيادة على الوجوب قال ودل هذا على أن قوله في حديث أنس تسوية الصف من إقامة الصلاة أن إقامة الصلاة .

                                                            تقع على السنة كما تقع على الفريضة لما قال ابن بطال في قول أنس ما أنكرت شيئا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف لما كان تسوية الصف من السنة التي يستحق فاعلها المدح عليها دل ذلك أن تاركها يستحق الذم والعتب كما قال أنس رحمه الله غير أن من لم يقم الصفوف لا إعادة عليه ألا ترى أن أنسا لم يأمرهم بإعادة الصلاة انتهى .

                                                            وهذا اللفظ الذي ذكره في حديث أنس وهو قوله من إقامة الصلاة .

                                                            هو لفظ البخاري ولفظ مسلم وغيره من تمام الصلاة وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة قد يؤخذ من قوله من تمام الصلاة أنه مستحب لأنه لم يذكر أنه من أركانها ولا واجباتها وتمام الشيء أمر زائد على حقيقته التي لا يتحقق إلا بها في مشهور الاصطلاح قال وقد ينطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتم الحقيقة إلا به انتهى .

                                                            وهذا مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف وهو قول الأئمة الأربعة .

                                                            وذهب ابن حزم الظاهري إلى وجوبه فقال وفرض على المأمومين تعديل الصفوف الأول والتراص فيها والمحاذاة بالمناكب والأرجل فإن كان نقص كان في آخرها ومن صلى وأمامه في الصف فرجة يمكنه سدها بنفسه فلم يفعل بطلت صلاته فإن لم يجد في الصف مدخلا فليجذب إلى نفسه رجلا يصلي معه فإن لم يقدر فليرجع ولا يصل وحده خلف الصف إلا أن [ ص: 326 ] يكون ممنوعا فيصلي ويجزيه ثم ذكر حديث النعمان بن بشير لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم .

                                                            قال وهذا وعيد شديد والوعيد لا يكون إلا في كبيرة من الكبائر ثم ذكر قول أنس كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه وهو في صحيح البخاري ثم قال هذا إجماع منهم ثم قال وبقولنا يقول السلف الطيب روينا بأصح إسناد عن أبي عثمان النهدي قال كنت فيمن ضرب عمر بن الخطاب قدمه لإقامة الصف في الصلاة قال ابن حزم ما كان رضي الله عنه ليضرب أحدا ويستبيح بشرة محرمة عليه على غير فرض ثم حكى ابن حزم بعث عثمان رضي الله عنه رجلا لذلك وأنه لا يكبر حتى يخبروه باستوائها ثم قال : فهذا فعل الخليفتين بحضرة الصحابة لا يخالفهم في ذلك أحد منهم ثم حكى عن سويد بن غفلة قال كان بلال هو مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب أقدامنا في الصلاة ويسوي مناكبنا .

                                                            ثم قال فهذا بلال ما كان ليضرب أحدا على غير الفرض ثم حكى قولهم لأنس بن مالك أتنكر شيئا مما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا ، إلا أنكم لا تقيمون الصفوف قال ابن حزم المباح ليس منكرا انتهى .

                                                            وقد استدل البخاري بكلام أنس هذا على الوجوب فبوب عليه في صحيحه ، باب إثم من لم يتم الصفوف وقال القاضي أبو بكر بن العربي : هذا الوعيد يعني الذي في حديث النعمان لا يكون إلا في ترك واجب وهذا كان يقتضي الوجوب إلا أن الشرع سمح في ذلك . ا هـ (الثالثة) ذكر العلماء في معنى إقامة الصف أمورا :

                                                            (أحدها) حصول الاستقامة والاعتدال ظاهر كما هو المطلوب باطنا .

                                                            (ثانيها) لئلا يتخللهم الشيطان فيفسد صلاتهم بالوسوسة كما جاء في ذلك الحديث .

                                                            (ثالثها) ما في ذلك من حسن الهيئة .

                                                            (رابعها) أن في ذلك تمكنهم من صلاتهم مع كثرة جمعهم فإذا تراصوا وسع جميعهم المسجد وإذا لم يفعلوا ذلك ضاق عنهم .

                                                            (خامسها) أن لا يشغل بعضهما بعضا بالنظر إلى ما يشغله منه إذا كانوا مختلفين وإذا اصطفوا غابت وجوه بعضهم عن بعض وكثير من حركاتهم وإنما يلي بعضهم من بعض ظهورهم (الرابعة) وجه إيراد المصنف رحمه الله هذا الحديث في باب الإمامة أن الصفوف إنما تحصل مع الجماعة وذلك بالإمام والمأمومين فهي من الأحكام المترتبة على الإمامة وأيضا فتسوية الصفوف من وظائف الإمامة .

                                                            وفي سنن أبي داود وغيره عن البراء بن عازب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول لا تختلفوا فتختلف قلوبكم وكان يقول إن الله عز وجل وملائكته يصلون على الصفوف الأول .

                                                            وروي عن كل من عمر وعثمان رضي الله عنهما أنه كان يبعث رجالا يسوون الصفوف فإذا أخبروه بتسويتها كبر وكان علي رضي الله عنه يتعاهد ذلك أيضا ويقول تقدم يا فلان تأخر يا فلان .




                                                            الخدمات العلمية