الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              4844 5137 - حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق ، قال : أخبرنا الليث ، عن ابن أبي مليكة ، عن أبي عمرو -مولى عائشة - عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله ، إن البكر تستحي . قال : " رضاها صمتها " . [انظر : 6946 ، 6971 - مسلم: 1420 - فتح: 9 \ 191 ] .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث هشام ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، أن أبا هريرة - رضي الله عنه - حدثهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ، ولا البكر حتى تستأذن " . قالوا : يا رسول الله ، وكيف إذنها ؟ قال : "أن تسكت " .

                                                                                                                                                                                                                              ويأتي في الحيل ، وأخرجه أيضا مسلم والأربعة .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي عمرو (مولى عائشة ) واسمه ذكوان وكانت دبرته ، وهو ثقة ، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : يا رسول الله ، إن البكر تستحي . قال : "رضاها صمتها " .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 418 ] ويأتي في ترك الحيل والإكراه ، وأخرجه مسلم أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              ذكر الإسماعيلي في "جمعه " حديث يحيى بن أبي كثير أن جماعة رووا عنه هذا الحديث ، عد منهم اثني عشر ، منهم : الأوزاعي ، وبحر بن كنيز ، وقد أسلفنا في باب لا نكاح إلا بولي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - : "يستأذنها أبوها " .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو داود : أبوها ليس بمحفوظ .

                                                                                                                                                                                                                              وفي الباب : عن عدي بن عدي عن أبيه عدي بن عميرة ، أخرجه ابن ماجه وابن وهب ، وجعله البيهقي وأبو عبيد العرس بن عميرة : "وأمروا النساء في أنفسهن ، فإن الثيب تعرب عن نفسها ، والبكر رضاها صمتها " .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه أيضا : عن ابن عمر ، أخرجه الدارقطني . وزعم الترمذي أن عمر رواه كذلك -يعني مرفوعا - والذي في أبي عبيد عنه موقوفا .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 419 ] قال البيهقي : يحمل حديث أبي هريرة على أنه يحتمل أن يكون المراد بالبكر المذكورة فيه اليتيمة التي لا أب لها ، فقد رواه محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة مرفوعا : "اليتيمة تستأمر في نفسها ، فإن سكتت فهو إذنها ، وإن أبت فلا جواز عليها " .

                                                                                                                                                                                                                              ونحن نعلم أن يحيى بن أبي كثير ومحمد بن عمرو إذا اختلفا فالحكم لرواية يحيى ; لمعرفته وحفظه ، إلا أن هذا يشبه ألا يكون اختلافا ، فيحيى أدى ما سمع في البكر والثيب جميعا ، ومحمد أدى ما سمع في البكر وحدها ، وحفظ زيادة صفة في البكر لم يروها يحيى ، وليس في الحديث ما يدفعها ، ومحمد وإن كان لا يبلغ درجة يحيى فقد قبل أهل العلم بالحديث حديثه فيما لا يخالف فيه أهل الحفظ . كيف وقد وافقه غيره في هذا اللفظ من وجه آخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر حديث شبابة بن سوار ، عن يونس بن أبي إسحاق ، سمعت أبا بردة يحدث عن أبيه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تستأمر اليتيمة في نفسها ، فإن سكتت فقد أذنت ، وإن كرهت لم تكره " وهذا إسناد موصول ، رواه جماعة من الأئمة عن يونس .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية صالح بن كيسان ، عن نافع بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - رفعه : "ليس للولي مع (الثيب أمر ) ، واليتيمة تستأمر " . رواه معمر عن صالح ، ورواه ابن إسحاق ، عن صالح ، عن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 420 ] عبد الله بن الفضل ، عن نافع بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ، وكذا رواه شعبة وغيره من القدماء ، عن مالك ، عن ابن الفضل ، عن نافع . وفي الحديث الثابت عن عائشة ، فذكر حديثها السالف . وفي لفظ : "تستأمر اليتيمة " .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الدارقطني : يشبه أن يكون قوله : "والبكر تستأمر " إنما أراد البكر اليتيمة ; لأنا قد روينا في رواية صالح ومن تابعه ممن روى أنه عليه السلام قال : "اليتيمة تستأمر " وأما قول ابن عيينة عن زياد بن سعد : "والبكر يستأمرها أبوها " . فإنا لا نعلم أن أحدا وافق ابن عيينة على هذا اللفظ ، ولعله ذكره من حفظه ، فسبق إليه لسانه .

                                                                                                                                                                                                                              قال أحمد : فعلى هذا الحديث في استئمار البكر ورد في الولي غير الأب .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : "الثيب أحق بنفسها من وليها " . فيه دلالة على أن الثيب لا تجبر على النكاح ، وكأنه جعل ثيوبتها علة في ذلك ، ودل على أن التي تخالفها وهي البكر تجبر على النكاح ، ودل قوله في البكر : "اليتيمة تستأمر في نفسها " أن التي لا أب لها لا تجبر على النكاح ، فدل أن البكر التي تجبر على النكاح هي التي لها أب ، وترك هذا الأصل في موضع ، لدليل أقوى منه منع من استعماله لا يدل على تركه في سائر المواضع .

                                                                                                                                                                                                                              واستدل بعض أصحابنا بحديث ابن عمر السالف ، قال : يجعل العلة في امتناع الإجبار كونها يتيمة ، فدل أن التي ليست يتيمة بخلافها فيما لم

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 421 ] يرد الجبر ; لكونها أحق بنفسها من وليها .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو عبيد : أهل العراق لا يرون النكاح جائزا على البكر البالغ أبدا إلا بإذنها وإن أنكحها عليها ويوجبونه عليها بالصمت ، ويرون أن زوجها إن طلقها أو مات عنها قبل دخوله ثم زوجها الأب غيره ، أن حكمها حكم البكر إذا ، ولا تكون بمنزلة الثيب حتى تجامع جماعا يوجب لها الصداق .

                                                                                                                                                                                                                              وفرق الخطابي بين الاستئمار والاستئذان أن الأول طلب الأمر من قبلها ، وأمرها لا يكون إلا بنطق ، والاستئذان : طلب الإذن ، وإذنها قد يعلم بسكوتها ; لأنها إذا سكتت استدل على رضاها .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المنذر : في هذا الحديث النهي عن نكاح الثيب قبل الاستئمار وعن نكاح البكر قبل الاستئذان ، ودل هذا الحديث على أن البكر الذي أمر باستئذانها البالغ ; إذ لا معنى لاستئذان من لا إذن لها ، ومن سخطها وسكوتها سواء ؟ !

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              اختلف في تأويل هذا الحديث ، فقالت طائفة : لا يجوز للأب أن ينكح البالغ من بناته بكرا كانت أو ثيبا إلا بإذنها ، قالوا : والأيم : التي لا زوج لها ، وقد تكون بكرا أو ثيبا .

                                                                                                                                                                                                                              وظاهر هذا الحديث يقتضي أن تكون البكر لا ينكحها وليها أبا كان

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 422 ] أو غيره حتى يستأمرها ، وذلك لا يكون إلا في البوالغ ; لما دل عليه الحديث ; ولتزويجه - عليه السلام - عائشة وهي صغيرة ، وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور ، واحتجوا بهذا الحديث ; لأنه - عليه السلام - قال قولا عاما : "لا تنكح البكر حتى تستأذن ، ولا الثيب حتى تستأمر " . وكل من عقد (نكاحها ) على غير ما سنه الشارع فهو باطل . ودل الحديث على أن البكر إذا نكحت قبل إذنها بالصمت أن النكاح باطل ، كما يبطل نكاح الثيب قبل أن تستأمر .

                                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : للأب أن يزوج ابنته بغير إذنها ، صغيرة كانت أو كبيرة ، ولا يزوج الثيب إلا بأمرها ، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو قرة : سألت مالكا عن قوله - عليه السلام - : "البكر تستأذن في نفسها " أيدخل في هذا الأب ؟ قال : لا ، لم يعن بهذا الحديث الأب ، وإنما عنى به غير الأب . وإنكاح (البكر ) جائز على الصغار ، ولا خيار للواحدة منهن قبيل البلوغ .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حبيب : وقد ساوى الشارع بين البكر والثيب في مشاورتهما في نفسهما ولم يفرق بينهما إلا في الجواب بالرضى ، فإنه جعل جواب البكر بالرضى في صماتها لاستحيائها ، وجعل جوابها بالكراهة لذلك في الكلام ، فإنه لا حياء عليها في كراهيتها كما يكون الحياء في رضاها ، ولم يلزم الشارع الثيب بالصمات حتى تتكلم بالرضى ; لمفارقتها في الحياء حال البكر ; لما تقدم من نكاحها .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 423 ] والدليل على أن المراد باستئمار البكر غير ذات الأب حديث أبي موسى - رضي الله عنه - السالف : "تستأمر اليتيمة في نفسها ، فإن سكتت فقد أذنت " . ففرق بتسميته إياها يتيمة بينها وبين من لها أب ، فإذا كانت يتيما فيلزم الأب مؤامرتها ، ولا يجوز نكاحه عليها بغير إذنها .

                                                                                                                                                                                                                              وقول الكوفيين : الأيم : التي لا زوج لها ، وقد تكون كذا ، جوابه أن العرب وإن كانت تسمي كل من لا زوج لها أيما فهو على الاتساع . وأصل اللغة : عدم الزوج بعد أن كان . لكن المراد بالأيم هنا : الثيب ، والدليل على ذلك أنه قد روى جماعة عن مالك : "والثيب أحق بنفسها من وليها " مكان قوله : "والأيم أحق بنفسها ، والبكر تستأمر " فذكر الأب بعد ذكره الأيم يدل على أنها الثيب ، ولو كانت الأيم هنا البكر لبطل الولي في النكاح ، ولكانت كل بكر لا زوج لها أحق بنفسها من وليها ، وكان هذا التأويل ردا لقوله تعالى : فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن [البقرة : 232 ] يخاطب بذلك الأولياء .

                                                                                                                                                                                                                              واختلفوا في الثيب الصغيرة ، فقال مالك وأبو حنيفة : يزوجها أبوها جبرا كالبكر ، وسواء أصيبت بنكاح أو زنا ، وهو أحد الوجهين عند الحنابلة .

                                                                                                                                                                                                                              وعن أبي حنيفة ومالك : إذا حملت من زنا كالبكر . وقال الشافعي : لا تزوج حتى تبلغ فتزوج بإذنها ، وسواء جومعت بنكاح أو زنا . ووافقه أبو يوسف ومحمد إذا كان الوطء زنا ، واعتلوا بأنها إذا خبرت الرجال كانت أعرف بخطبها من الولي ، فوجب أن يكون الأمر لها .

                                                                                                                                                                                                                              واحتج الآخرون فقالوا : لما كانت محجورا عليها في مالها حجر الصغير جاز أن تجبر على النكاح . وأيضا فإنها قد ساوت البكر الصغيرة في أنه لا يصح إجبارها ، فلا معنى لاستئمارها .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 424 ] وعن أحمد رواية : أنه لا يملك إجبارها . وأخرى : نعم . ويحمل الحديث على غير الأب . وعندهم إذا بلغت تسع سنين لها إذن معتبر ، وإن لم تبلغها فلا إذن لها ، ولا يجوز عندهم لغير الأب تزويجها كمذهبنا .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة : يجوز لكل وارث -وفي رواية : يجوز لكل عصبة - ويكون لها الخيار بعد البلوغ ، وعن أحمد مثله . والجد عندنا عند عدمه كالأب .

                                                                                                                                                                                                                              وقال صاحب "المغني " : الكبيرة لا يجوز للأب ولا لغيره تزويجها إلا بإذنها في قول أهل العلم ، إلا الحسن فإن عنده للأب تزويجها وإن كرهت . وقال النخعي : يزوج ابنته إذا كانت في عياله ، وإن كانت بائنة مع عياله استأمرها .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية