الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب [فيمن عجز عن البر بسبب خارج عنه]

                                                                                                                                                                                        فيمن قال حلف ليقضين فلانا حقه رأس الشهر، فغاب الطالب، أو مات، أو حلف ليركبن دابة فماتت، أو ليلبس ثوبا، أو يأكل طعاما، فسرق. أو حلف بالطلاق، أو بعتق عبده، ليفعلن فعلا، فمات الحالف، أو المحلوف عليه قبل أن يفعل.

                                                                                                                                                                                        ومن حلف لغريمه ليقضينه رأس الشهر، فغاب الطالب وله وكيل مفوض إليه، دفع إليه، وبر في يمينه، وبرئ من الدين. وسواء كان بالموضع سلطان، أم لا.

                                                                                                                                                                                        وإن لم يكن مفوضا إليه دفع إلى السلطان، وبر وبرئ. فإن لم يكن سلطان أو لم يقدر على الوصول إليه، أو كان غير عدل، دفع إلى هذا الوكيل أو غيره، وأوقفه على يديه، فيبر في يمينه، ولا يبرأ من الدين.

                                                                                                                                                                                        وإن أتى بالحق وأشهد على وزنه أو عدده ثم رجع به، بر; لأنه لم يكن منه لدد، وهو قول مالك في كتاب محمد . قال محمد : وقد قيل لو دفع إلى بعض الناس لغير عذر من سلطان، وأشهد، لم يحنث .

                                                                                                                                                                                        وإن كان السلطان غير عدل، فرفع إليه وهو عالم أنه غير عدل، بر في يمينه ، ولم يبرأ من الدين. قال محمد : وإن لم يعلم ذلك من الإمام، فلا ضمان عليه. [ ص: 1770 ]

                                                                                                                                                                                        وأرى أن يضمن ولا يبرأ; لأن الدين في ذمته، وقد أخطأ على نفسه. وقال سحنون: إن أشهد على الحق في الأجل، ثم جاء الطالب بعد الأجل فمطله; لم يحنث .

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في كتاب محمد : إن حلف ليقضينه رأس الشهر إلا أن يؤخره، فأخره شهرا، ثم قال المطلوب بعد حلول الشهر الآخر: ما علي يمين. قال مالك : اليمين عليه، فإن لم يقضه، حنث قال: وإن أنظره الطالب من قبل نفسه، ولم يعلم الحالف، فقال: عسى به أن يجزئه. وقال ابن وهب : هو في سعة من يمينه . وهذا على مراعاة الألفاظ; لأنه قال: إلا أن تؤخرني ، فقد أخره . وعلى مراعاة المقاصد يحنث. وهو أحسن; لأنه قصد أن لا يلد، فإذا لم يعلم بتأخيره، فقد لد.

                                                                                                                                                                                        واختلف أيضا إذا غاب الحالف فقضى عنه بعض أهله من ماله أو من مال الغائب، فقال ابن الماجشون : يبر وقال ابن القاسم : لا يبر وهو أبين إذا تأخر عن القدوم للقضاء عمدا.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم فيمن حلف ليقضين فلانا حقه إلى أجل، إلا أن يؤخره، فأراد سفرا، فسأل الطالب أن يؤخره، وذكر مدة سفره، فأخره إلى بلوغه، وزاده عشرين ليلة، ثم لم يسافر لأنه خاف اللصوص، قال: يقضيه عند الأجل الأول، وإلا حنث . وقال فيمن حلف ليركبن هذه الدابة غدا فماتت قبل غد [ ص: 1771 ] فلا شيء عليه .

                                                                                                                                                                                        وإن حلف ليلبسن هذا الثوب أو ليأكلن هذا الطعام، فسرق، حنث. وقال أشهب : لا حنث عليه وهو أحسن، إلا أن تكون اليمين بما يقضى عليه به، ولم تعلم السرقة إلا من قوله. وقال فيمن حلف ليذبحن حمامات يتيمة، فوجدها قد ماتت قبل ذلك: فلا شيء عليه.

                                                                                                                                                                                        وقال في كتاب الأيمان بالطلاق، فيمن حلف ليبيعن أمته، فوجدها حاملا: حنث فعلى هذا يحنث الذي حلف ليذبحن الحمامات فماتت .

                                                                                                                                                                                        والخلاف في هذا راجع إلى الوجهين المتقدم ذكرهما، فمن راعى الألفاظ أحنثه، ومن راعى المقاصد لم يحنثه.

                                                                                                                                                                                        وقال فيمن حلف ليضربن فلانا بعتق عبده، فمات فلان بعد أن مضى قدر ما يضربه فيه: حنث. فإن كان الحالف صحيحا أعتق من رأس المال، وإن كان مريضا أعتق من الثلث. وإن مات الحالف أعتق من الثلث .

                                                                                                                                                                                        وإن ضرب أجلا فمات أعتق من الثلث وإن مات الحالف أعتق من الثلث ، وإن ضرب أجلا فمات الحالف أو المحلوف عليه في الأجل فرط أو لم يفرط، وقد حلف بعتق أو طلاق، فلا شيء عليه. [ ص: 1772 ]

                                                                                                                                                                                        وقال ابن كنانة في كتاب المدنيين فيمن حلف بطلاق امرأته أن يبيع عبده إلى شهر فمات العبد في الشهر، قال: إن فرط في بيعه ولو شاء باعه، فقد وقع الطلاق; لأنه لم يبق له شيء يبر فيه. قال: ولو حلف بالطلاق أن يخرج بامرأته إلى شهر فماتت: حنث إن فرط. قال: ولو مات هو قبل أن يخرج بها، ورثته. قال: والفرق بينهما أن المرأة حين ماتت يأتي الأجل، وليس له شيء يبر فيه، وإن مات هو كان بمنزلة من طلق بعد الموت ، وقد يطلق المريض فترثه.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن أبي حازم، فيمن قال: إن لم أضرب غلامي قبل الهلال فامرأته طالق، فمات العبد قبل الهلال، وقبل أن يضربه، فقال: أمره عندي أبين من كل شيء، وهي طالق.

                                                                                                                                                                                        فسوى ابن كنانة وابن أبي حازم في الحنث إذا ضرب أجلا، وجعلاه بمنزلة من لم يضرب الأجل، ورأيا أن أجل الآخر حياة الحالف فأحنثاه بمجرد اللفظ; لأن كليهما حلف ليوجدن منه فعل، فلم يوجد. فهذا جعل لنفسه أن يضرب ما بينه وبين شهر، والآخر فسح لنفسه أن يضرب ما بينه وبين أن يموت .

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية