الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          الثامن : الردة عن الإسلام . ومن تيقن الطهارة ، وشك في الحدث ، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة ، بنى على اليقين ، فإن تيقنهما ، وشك في السابق منهما ، نظر في حاله قبلهما ، فإن كان متطهرا ، فهو محدث ، إن كان محدثا فهو متطهر ، ومن أحدث حرم عليه الصلاة ، والطواف ، ومس المصحف .

                                                                                                                          [ ص: 175 ]

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          ( الثامن : الردة عن الإسلام ) هذا هو المجزوم به عند أكثر الأصحاب ، وهو أشهر الروايتين لقوله تعالى لئن أشركت ليحبطن عملك [ الزمر 65 ] ولقول ابن عباس : الحدث حدثان ، حدث اللسان ، وحدث الفرج ، وحدث اللسان أشد ، وفيهما الوضوء ، لكن في إسناده بقية بصيغة " عن " ، قال في " التحقيق " : لا يصح ، ورواه ابن شاهين مرفوعا ، فيدخل في عموم قوله عليه السلام : لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ متفق عليه . ولأنها [ ص: 171 ] طهارة عن حدث ، فأبطلتها الردة كالتيمم ، لكن الآية دالة على أن الردة تحبط العمل بمجردها ، والأشهر عن أصحابنا أنها لا تحبطه إلا بالموت لقوله تعالى ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم [ البقرة 217 ] وبنوا على ذلك صحة الحج في الإسلام الأول ، وقضاء ما فاته من صلاة ، وزكاة ، وصوم على المشهور ، ثم الإحباط إنما ينصرف إلى الثواب دون الفعل ، بدليل مصل خلفه ، وهو مسلم ، ولقائل أن يقول : هذا تمسك بدليل الخطاب ، والمنطوق مقدم عليه ، وعنه : لا نقض ، حكاها ابن الزاغوني ، ولم يذكرها القاضي وعامة أصحابه في النواقض ، لعدم فائدتها لوجوب الغسل عليه إذا عاد إلى الإسلام ، فيدخل فيه الوضوء ، وصرح به جماعة ، ورده الشيخ تقي الدين بأن فائدته تظهر إذا عاد إلى الإسلام ، فإنا نوجبهما عليه ، فإن نواهما بغسله أجزأه على المشهور ، ولو لم ينقض لم يجب إلا الغسل فقط ، ويمكن أن يكون مراد القاضي ما أوجب غسلا أوجب وضوءا فهو ملازم له ، وظاهره أنه لا نقض بغيرها من غيبة ، ونميمة ، وقهقهة ، ونقله الجماعة . نعم ، يستحب من الكلام المحرم ، وفي استحبابه من القهقهة وجهان .



                                                                                                                          ( ومن تيقن الطهارة ) اليقين : ما أذعنت النفس للتصديق به ، وقطعت به ، وقطعت بأن قطعها صحيح ( وشك في الحدث ) الشك خلاف اليقين ( أو تيقن الحدث وشك في الطهارة بنى على اليقين ) لما روى عبد الله بن زيد قال : شكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ، فقال : لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا متفق عليه . ولمسلم معناه مرفوعا من حديث [ ص: 172 ] أبي هريرة ، ولم يذكر فيه ، وهو في الصلاة ، ولأنه إذا شك تعارض عنده الأمران ، فيجب سقوطهما ، كالبينتين إذا تعارضتا ، ويرجع إلى اليقين ، وسواء كان في الصلاة أو خارجها تساوى عنده الأمران ، أو غلب على ظنه أحدهما ، لأن غلبة الظن إذا لم يكن لها ضابط في الشرع لم يلتفت إليها ، كظن صدق أحد المتداعيين بخلاف القبلة والوقت ، هذا اصطلاح الفقهاء ، وعند الأصوليين إن تساوى الاحتمالان فهو شك ، والراجح ظن ، والمرجوح وهم ( فإن تيقنهما ) أي : تيقن الطهارة ، والحدث في وقت الظهر مثلا ( وشك في السابق منهما ) أي : لم يعلم الآخر منهما ( نظر في حاله قبلهما ) أي : قبل الطهارة والحدث ، وهو ما قبل الزوال ( فإن كان محدثا فهو ) الآن ( متطهر ) لأنه تيقن زوال ذلك الحدث بطهارة ، ولم يتيقن زوال تلك الطهارة بحدث آخر ، لاحتمال أن يكون الحدث الذي تيقنه بعد الزوال هو الذي كان قبله ، فلم يزل يقين الطهارة بالشك ( وإن كان متطهرا فهو محدث ) لما ذكرنا . هذا في تيقن الحالين ، وأما تيقن الفعلين ، فإذا تيقن أنه في وقت الظهر مثلا تطهر عن حدث ، وأحدث عن طهر ، ولا يعلم أسبقهما فإنه يكون على مثل حاله قبلهما جزما ، فإن كان متطهرا فهو الآن متطهر ، لأن الطهارة التي قبل الزوال قد تيقن زوالها بالحدث ، وتيقن زوال الحدث بالطهارة التي في وقت الظهر ، والأصل بقاؤها ، وإن كان محدثا فهو الآن محدث ، وكذا لو عين وقتا لا يسعهما ، فإن جهل حالهما ، وأسبقهما ، أو تيقن حدثا ، وفعل طهارة فقط ، فبضد حاله قبلهما ، وإن تيقن أن الطهارة عن حدث ، ولا يدري الحدث عن طهارة ، فمتطهر مطلقا ، وعكس هذه بعكسها .

                                                                                                                          مسألة : إذا سمعا صوتا أو شما ريحا من أحدهما لا بعينه ، فلا وضوء عليهما [ ص: 173 ] على الأصح ، ولا يأتم أحدهما بصاحبه ، ولا يصاففه في الصلاة إن كانا وحدهما ، وإن كان أحدهما إماما أعادا صلاتهما ، نص عليه ، وقيل عنه : ينوي كل منهما الانفراد ، ويتم صلاته وحده .



                                                                                                                          ( ومن أحدث حرم عليه الصلاة ) لما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يقبل الله صلاة بغير طهور رواه مسلم ، وهو يعم الفرض والنفل ، والسجود المجرد كسجدة التلاوة ، والقيام المجرد كصلاة الجنازة ، وسواء كان عالما أو جاهلا ، فلو صلى مع الحدث لم يكفر ، وحكى ابن حزم ، والنووي ، عن بعض العلماء جواز الصلاة على الجنازة بغير وضوء ولا تيمم ( والطواف ) لما روى الترمذي بإسناده ، عن عطاء بن السائب ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الطواف حول البيت مثل الصلاة ، إلا أنكم تتكلمون فيه ، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير إسناده جيد إلى عطاء ، وهو مختلف فيه ، واختلط في آخر عمره ، قال أحمد : عطاء رجل صالح ، قال الترمذي : وقد روي عن طاوس ، عن ابن عباس موقوفا ، ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن السائب . ( ومس المصحف ) لقوله تعالى لا يمسه إلا المطهرون [ الواقعة ] أي : لا يمس القرآن ، وهو خبر بمعنى النهي ، وحرك بالضم لالتقاء الساكنين ، ورد بأنه اللوح المحفوظ ، والمطهرون الملائكة ، لأن المطهر من طهره غيره ، ولو أريد بنو آدم لقيل : المتطهرون ، وجوابه بأن المراد هم وبنو آدم قياسا عليهم ، بدليل ما روى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن [ ص: 174 ] أبيه ، عن جده : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن كتابا ، وكان فيه : لا يمس القرآن إلا طاهر رواه الأثرم ، والنسائي ، والدارقطني متصلا ، قال الأثرم : واحتج به أحمد ، ورواه مالك مرسلا ، ومقتضاه أنه لا يباح مسه بشيء من جسده حتى يتطهر ، ولو بتيمم ، قال المؤلف : إن احتاجه ، وهو شامل لما يسمى مصحفا من الكتابة ، والجلد ، والحواشي ، والورق الأبيض المتصل به ، بدليل البيع على المذهب ، وله حمله بعلاقته ، أو بحائل منفصل عنه ، لا يتبعه في البيع كغلافه ، أو بحائل تابع للحامل ، كحمله في كمه ، أو ثوبه ، أو تصفحه بعود ، ونحوه على المشهور ، جزم به أبو الخطاب ، والقاضي ، والمؤلف ، وعنه : المنع من حمله بعلاقته ، وتصفحه بكمه ، وخرجه القاضي منه إلى بقية الحوائل ، ولم يعول عليه في " المغني " ، وله الكتابة منه من غير مس ، جزم به كثير من الأصحاب ، وقيل : هو كالتقليب بالعود ، وقيل : يجوز للمحدث دون الجنب ، وهذا إذا لم يحمله على مقتضى ما هو في " التلخيص " وغيره .

                                                                                                                          وله مس تفسير على المذهب ، ومنسوخ تلاوته على الأصح ، والأحاديث المأثورة ، والتوراة ، والإنجيل ، لأنها ليست بقرآن ، وحكم البعض كالكل ، فلو كتب بعضه منفردا لم يجز مسه ، وإن لم يسم مصحفا ، نعم ، في مس الصبيان ألواحهم ، وفي رواية ذكرها القاضي ، ومس الدراهم المكتوب عليها القرآن ، وثوب طرز به ، روايتان ، أظهرهما : الجواز لمسيس الحاجة إليه ، وعلم منه أن طهارة الخبث لا يشترط انتفاؤها ، نعم ، يمنع من مسه بعضو نجس لا بغيره على المذهب ، والذي لا يمسه ، لكن له نسخه دون حمل ومس ، وعنه : المنع ، وحمله القاضي على حمله حال كتابته ، ولا يجوز مسه بعضو طهره حتى يكملها .



                                                                                                                          [ ص: 175 ] مسائل :

                                                                                                                          الأولى : لا يكره تحليته بذهب ، أو فضة لتضييق النقدين ، وعنه : لا كالضبة ، وكتطييبه ، نص عليه ، وكيسه الحرير ، نقله الجماعة ، لأن ذلك قدر يسير ، وقيل : يكره للرجال لا للنساء ، وقيل : يحرم ، جزم به جماعة ، ككتب العلم في الأصح . قال ابن الزاغوني : كتبه بذهب حرام ، لأنه زخرفة ، ويؤمر بحكه ، فإن اجتمع منه ما يتمول زكاه . قال أبو الخطاب : إذا بلغ نصابا . وكره أحمد توسده ، وفي تحريمه وجهان ، وكذا كتب العلم التي فيها قرآن ، وفي معناه التخطي ، ورميه بالأرض ، بلا وضع ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك ، ويحرم كتبه بحيث يهان ، كبول حيوان ، ونحوه ، وتجب إزالته ، ويحرم دوسه ، والمراد غير المسجد ، قال في " الفصول " ، وغيره : يكره أن يكتب على حيطان المسجد ذكرا ، وغيره ، لأن ذلك يشغل المصلي ، ويلهيه ، ويدفن إذا بلي لتعظيمه وصيانته ، وله نقطه ، وشكله ، وكتابة الأعشار ، والسور ، وعدد الآيات في رواية ، وعنه : يستحب نقطه ، وعلله أحمد بأن فيه منفعة الناس ، واختاره أبو الحسين بن المنادي .

                                                                                                                          الثانية : يجوز تقبيله ، وعنه : يستحب ، ونقل جماعة الوقف ، ولا يجعله على عينيه لعدم النقل ، وظاهره أنه لا يقام له ، لكن يؤخذ من فعل أحمد الجواز .

                                                                                                                          الثالثة : له أخذ الفأل فيه ، فعله ابن بطة ، ولم يره غيره من الأصحاب ، ونقل ابن العربي أنه يحرم ، حكاه القرافي عن الطرطوشي المالكي ، وظاهر مذهب الشافعي الكراهة .

                                                                                                                          [ ص: 176 ] الرابعة : يحرم السفر به إلى دار الحرب ، وقيل : إلا مع غلبة السلامة ، وفي " المستوعب " يكره بدون غلبتها .

                                                                                                                          الخامسة : لا يجوز أن يملكه لكافر ، فلو ملكه بإرث ألزم على إزالة ملكه عنه ، لأنه يتدين بانتهاكه ، وإزالة حرمته .




                                                                                                                          الخدمات العلمية