الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الركن الثالث : رأس المال وشروطه ستة .

                                                                                                                الشرط الأول : أن يكون نقدا ، وقاله ( ش ) و ( ح ) ففي الكتاب لا يجوز إلا بالدنانير والدراهم دون الفلوس ; لأنها تبطل ، وعنه الجواز خلافا لـ ( ش ) ( ح ) : لأنها في معنى النقد ، ويمتنع بالعروض والمثلى من المكيل والموزون للغرر بتغير الأسواق عند المفاضلة ; لأنه يرد مثل ما أخذ فيذهب عمله مجانا بغلاء السعر ، ورأس المال يرخصه ، فإن وقع فله أجر مثله في البيع ، وقراض مثله في التجر لفساد العقد ، قال ابن يونس : إن نزل بالفلوس رد فلوسا مثلها ، إلا أن يشترط عليه صرفها دراهم ويعمل بها ، فأجرة المثل وقراض المثل ، وعن مالك [ ص: 31 ] إجازته بها ابتداء . قال اللخمي لمالك في الحلي الجواز والمنع ; لأن الصياغة عرض ، وهو أقسام ثلاثة : جائز إن كانوا يتعاملون به ، وإلا فمكروه إن لم يتعذر المثل وإلا فممنوع ، وفي الفلوس أقوال ، وثالثها الكراهة لشبهها بالعروض والنقود اعتبارا للشبهين . قال صاحب المقدمات القراض بالعروض له أربعة أحوال إن جعل رأس المال فهو غرر ، أو الثمن الذي يباع به فهو اشتراط منفعة لك من حمل مؤونة البيع أو القيمة يوم الدفع كان بيعا منك للعرض بتلك القيمة ، فإن باعه بأقل جبره بالربح ، فهو غرر ، أو القيمة يوم التفاضل فهو يعمل برأس مال مجهول وتختلف هذه الوجوه على أصل ابن القاسم ، فله في الثاني أجرة مثله في البيع ، وقراض مثله في العمل إن لم يعثر عليه إلا بعده ، وفي الثلاثة الأخر أجرة المثل ، قال التونسي : بع لي هذه السلعة ولك في إجارتها كذا واعمل بثمنها قراضا ، القياس المنع ; لأن القراض في حكم الجعل ، فلا يجتمع مع الإجارة على المشهور ، قال اللخمي : القراض بالمثليات والعروض إن جعل رأس المال ما تباع به امتنع ; لأنها إجارة بأجرة مجهولة ، وقراض في عقد ، إلا أن يكون ذلك يسيرا ويكون شأنه يعمل ذلك له من غير قراض ، أو يقول كلف من يبيع ويأتيك بالثمن ، فيجوز لعدم الإجارة ، وإن باع العرض بعرض ثم ينقد ، فله أجرة مثله في العرضين ثم قراض مثله في وقت العين ، فإن قال له : بعه بالعين فباع بالعرض تعديا خيرا بين إجارة فعله فيكون كما تقدم ، أو يضمنه ويكون الربح والخسارة للعامل وعليه ، وله قراض المثل [ ص: 32 ] فيما عمل فيه بعد بيع الثاني إلا أن يكون الثمن الذي بيع به الثاني أكبر من قيمة الأول فيكون ربح الزائد وخسارته له وعليه ، وقال ابن حبيب رأس المال قيمة الأول إذا لم يأمره أن يبيع بعين فباع بعرض ، وإن أمره بالعين فرأس المال الأكثر من قيمة الأول وثمن الثاني ، وله الأجرة في بيع الأول دون الثاني ; لأنه متعد قال اللخمي : جعله الأجرة له مع جعله رأس المال قيمته لا وجه له ; لأن القيمة قبل البيع ، فالبيع داخل في عمل القراض .

                                                                                                                فرع : مرتب : في الكتاب أكره شراءه من رب المال سلعة لرجوع رأس المال وصار القراض بهذا العرض ، قال ابن يونس وعنه إباحته ، وإذا اشترى منه لنفسه لا للتجارة ، جاز قاله اللخمي ، ويجوز لك بيع عروض من العامل للقراض بالنقد ، وكرهه مالك بالنسيئة وإن باع كأنه أخره ليرضخه فيه . وفي المنتقى إذا اشترى منك عروضا بمال القراض للقراض كرهه مالك حذرا من مغابنته لك ، وعنه التخفيف قياسا على الأجنبي ، وإن باع منك بعرض قبل التفاضل ، جوزه يحيى بن سعيد ومنعه مالك ، وبعد التفاضل يجوز نقدا ويمتنع نسيئة عند مالك خشية الربا ، وجوزه ابن القاسم برأس المال فأقل ، ويمنع إلى أجل بأكثر من رأس المال لقوة التهمة ، قال اللخمي : إن باعه بالنسيئة فسخه ابن القاسم وألزم [ ص: 33 ] القيمة عند الفوت معجلة ، وأجازه يحيى بن سعيد ابتداء ، فإن غاب العرض ، امتنع اتفاقا خشية خسارة رأس المال فيؤخره فيتوقع البيع والسلف .

                                                                                                                الشرط الثاني : أن يكون معلوما ؛ ليعلم الربح وما يرد عند الانفصال ، وفي الجواهر يمتنع بصبرة دراهم .

                                                                                                                الشرط الثالث : أن يكون مسكوكا ، ففي الكتاب يمتنع بالنقار وقاله : ( ش و ح ) ; لاحتياجها للتصرف فيها قبل عمل القراض كالعرض ، قال ابن يونس : قال محمد : إذا نزل بالنقار أمضي بعد العمل ، وأمضاه أصبغ قبله لقوة الاختلاف ، قال ابن حبيب يرد مثلها عند المفاصلة إن عرف الوزن ، وإلا فما بيعت به والعدد الخارج من ضربها ، إلا أن يكون قال له : بعها أو استصرفها فما باعها به أو ما حصل في الصرف عرف وزنها أم لا ; لأنه الذي قدر رأس المال ، وللعامل أجرته في الصرف والضرب إن كان له مؤونة وله قراض المثل ، وأجازه ابن القاسم في البلد الذي يجري فيه التبرؤ وليس خلافا للمدونة ; لأنها حينئذ كالنقدين ، قال اللخمي : في النقار أقوال لمالك ثالثها الكراهة .

                                                                                                                الشرط الرابع : أن يكون خالصا ، فإن المغشوش فيه عرض وقاله : ( ش ) وقال ( ح ) إن كان الغش النصف فأقل جاز ; لأنه تبع وإلا فلا ، وفي الجواهر استثنى القاضي أبو الوليد المسكوك منها في بلد يكون التعامل فيه بها ; لأنها هناك أصول الأموال ، واتفق الأصحاب على تعلق الزكاة بعينها ، وهو دليل إعطائها حكم الخالص .

                                                                                                                الشرط الخامس : أن يكون مسلما ، ففي الكتاب يمتنع جعل وديعتك عنده أو دينك عليه قراضا ، لئلا يزيدك بتأخير الدين ، ولعله أنفق الوديعة فتصير [ ص: 34 ] دينا ، قال اللخمي : القراض بالدين جائز إذا كان على موسر حاضر غير ملد ويتيسر اجتماع العامل به ، كأنه قبض المال منك ، فإن كان على غائب يخرج لطلبه فهو في معنى الإجارة والقراض ، فيمنع للجهالة بالأجرة ; لأنها بعض الربح ، وإن كان الدين عليه فأحضره واستشهد وبرئ من ضمانه ، جاز أخذه قراضا ، فإن عمل قبل الإشهاد فالربح والخسارة له وعليه استصحابا لحكم الدين ، قاله : مالك ، وقال أشهب : الربح بينهما ، فعلى هذا تكون الخسارة منك ، وإذا كان المودع لا يتصرف في الودائع جاز جعلها قراضا ، أو كانت مما لا يتصرف فيها غالبا كالعرض جاز إذا قال : كلف من يبيعه - والثمن قراض - وإن كانت عينا وهو ممن يتسلف ، منع إلا بعد إحضارها فإن عمل قبل ذلك وادعى ضياعا أو خسارة صدق ; لأنه إما مودع أو عامل ، وكلاهما أمين يصدق ، إلا أن يتهم بأن يعلم أنه تسلفها وهو متهم على ذلك فيصدق بالربح ، وإن كان شأنه التصرف في الودائع لا يصدق في الضياع للتهمة ، وجوز ( ش ) الوديعة من غير تفصيل ; لأن يده يدك .

                                                                                                                فرع : في الكتاب يمتنع اصرف هذه الدنانير ثم اعمل بها أو اقبض من غريمي دينا واعمل به ، فإن فعل فله أجرة الصرف والتقاضي وقراض المثل ، قال صاحب التنبيهات : هذا إذا كان الصرف له بال ، وإذا كانت معاملة البلد بالدراهم ويصرفها ليشتري بالدراهم جاز ; لأنه نوع من التجر ، قال اللخمي : إذا دفعها [ ص: 35 ] ليصرفها بالدراهم ، ويكون رأس المال الدراهم ويكون بيعها بالدراهم من جنس النظر جاز ، وإن كان ليكون رأس المال الدراهم منعه ابن القاسم وأجازه أشهب إن كان أجيرا لبيع الشيء اليسير ، وإلا فلا ، إلا أن يكون لا يتولى بيعا بل يجلس عند من يتولى ذلك فيجوز . قال صاحب المنتقى : قال مالك : إذا لم يحضر الدين فليس لك إلا رأس مالك أو أحضره ولم تقتضه فالمشهور المنع ، وقاله ( ش ) . وقال عبد الوهاب : إذا أحضر الغاصب الدراهم ، وقلت : لا أقبضها اجعلها قراضا يجوز ، فيجوز في الدين ، ويحتمل الفرق بأن يكون الغاصب أحضر المال تبرعا والمديون اتفق معك على الإحضار ، فلو تبرع كان كالقبض فإن نزل فلك الدين فقط قاله مالك ; لأن القبض يفتقر إلى نقد ووزن ولم يتفق فلا قبض ، وقال أشهب : يمضي ; لأنه لما أحضره علمت براءته ، وأما الوديعة فكرهها ابن القاسم حتى يحضرها ، وكرهها ابن حبيب من غير الثقة ، وجوزها محمد ، فإذا نزل فالربح بينكما على الأقوال الثلاثة ، ولو أحضرها انتفت الكراهة ، وكذلك المرتهن لنفسه لا لغيره .

                                                                                                                نظائر : قال العبدي يخرج المال من الذمة إلى الأمانة في ثمان مسائل : إذا عزل عشر زرعه في بيته فضاع ، ضمن ، إلا أن يشهد على ذلك البينة وقال المخزومي : لا ضمان عليه ، وإذا قلت : كل في طعام السلم في غرائرك أو بيتك ثم قال : ضمن إلا أن تشهد البينة عند ابن القاسم ، وإذا أمرته بالإنفاق على مرمة دراك من الكراء ، صدق إذا ظهر ما يصدقه ، وإلا فلا ، وقال غيره : لا [ ص: 36 ] يصدقه إلا البينة ، وإذا باعه سلعة بثمن على أن يتجر به سنة ، جاز إذا أخرجه من ذمته ببينة ، وقيل : يصدق بغير بينة ، وإذا قلت : اشتر لي بالدين الذي عليك عبدا ، فقال : فعلت وأبق ، صدقه ابن القاسم ، أو قلت : اعمل بديني قراضا ، منعه ابن القاسم وجوزه أشهب ، وإذا قال : أنفقت الوديعة ورددتها موضعها ، فأقوال ثالثها يصدق بالبينة ، والخروج من الأمانة كالوديعة تجعل قراضا ، والخروج من الأمانة إلى الذمة كالمودع يقترض أو العامل أو الوكيل أو الشريك .

                                                                                                                فرع : قال الأبهري يجوز إن احتجت ( إلى فضل ) ، فإذا اشترى بأكثر فأخذ الفضل جاز ، وإن قال هذا مال القراض كلما اشتريت دفعت لك امتنع ; لأنه لم يأتمنه .

                                                                                                                السادس : أن يكون معينا ، قال في الجواهر احترازا من القراض على دين في الذمة ، وجعل هذا الشرط مع شرط التسليم شرطا آخر .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية