الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى. وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون .

                                                                                                                                                                                                                                      فطبيعة تكوينهم هم أنفسهم، وطبيعة هذا الكون كله من حولهم توحي بأن هذا الوجود قائم على الحق، ثابت على الناموس، لا يضطرب، ولا تتفرق به السبل، ولا تتخلف دورته، ولا يصطدم بعضه ببعض، [ ص: 2760 ] ولا يسير وفق المصادفة العمياء، ولا وفق الهوى المتقلب، إنما يمضي في نظامه الدقيق المحكم المقدر تقديرا. وأن من مقتضيات هذا الحق الذي يقوم عليه الوجود أن تكون هناك آخرة، يتم فيها الجزاء على العمل، ويلقى الخير والشر عاقبتهما كاملة. إنما كل شيء إلى أجله المرسوم. وفق الحكمة المدبرة، وكل أمر يجيء في موعده لا يستقدم لحظة ولا يستأخر. وإذا لم يعلم البشر متى تكون الساعة، فإن هذا ليس معناه أنها لا تكون! ولكن تأجيلها يغري الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ويخدعهم: وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذه الجولة في ضمير السماوات والأرض وما بينهما. وهي جولة بعيدة الآماد والآفاق في هيكل الكون الهائل، وفي محتوياته المنوعة، الشاملة للأحياء والأشياء، والأفلاك والأجرام، والنجوم والكواكب، والجليل والصغير، والخافي والظاهر، والمعلوم والمجهول.. من هذه الجولة البعيدة في ضمير الكون ينقلهم إلى جولة أخرى في ضمير الزمان، وأبعاد التاريخ، يرون فيها طرفا من سنة الله الجارية، التي لا تتخلف مرة ولا تحيد:

                                                                                                                                                                                                                                      أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات، فما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى، أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهي دعوة إلى التأمل في مصائر الغابرين، وهم ناس من الناس، وخلق من خلق الله، تكشف مصائرهم الماضية عن مصائر خلفائهم الآتية. فسنة الله هي سنة الله في الجميع. وسنة الله حق ثابت يقوم عليه هذا الوجود، بلا محاباة لجيل من الناس، ولا هوى يتقلب فتتقلب معه العواقب. حاشا لله رب العالمين!

                                                                                                                                                                                                                                      وهي دعوة إلى إدراك حقيقة هذه الحياة وروابطها على مدار الزمان، وحقيقة هذه الإنسانية الموحدة المنشإ والمصير على مدار القرون. كي لا ينعزل جيل من الناس بنفسه وحياته، وقيمه وتصوراته، ويغفل عن الصلة الوثيقة بين أجيال البشر جميعا، وعن وحدة السنة التي تحكم هذه الأجيال جميعا، ووحدة القيم الثابتة في حياة الأجيال جميعا.

                                                                                                                                                                                                                                      فهؤلاء أقوام عاشوا قبل جيل المشركين في مكة كانوا أشد منهم قوة .. وأثاروا الأرض .. فحرثوها وشقوا عن باطنها، وكشفوا عن ذخائرها وعمروها أكثر مما عمروها .. فقد كانوا أكثر حضارة من العرب ، وأقدر منهم على عمارة الأرض.. ثم وقفوا عند ظاهر الحياة الدنيا لا يتجاوزونه إلى ما وراءه: وجاءتهم رسلهم بالبينات .. فلم تتفتح بصائرهم لهذه البينات، ولم يؤمنوا فتتصل ضمائرهم بالنور الذي يكشف الطريق. فمضت فيهم سنة الله في المكذبين ولم تنفعهم قوتهم، ولم يغن عنهم علمهم ولا حضارتهم، ولقوا جزاءهم العادل الذي يستحقونه: فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى .. كانت السوأى هي العاقبة التي لقيها المسيئون وكانت جزاء وفاقا على أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ..

                                                                                                                                                                                                                                      والقرآن الكريم يدعو المكذبين المستهزئين بآيات الله أن يسيروا في الأرض فلا ينعزلوا في مكانهم كالقوقعة; وأن يتدبروا عاقبة أولئك المكذبين المستهزئين ويتوقعوا مثلها، وأن يدركوا أن سنة الله واحدة، وأنها لا تحابي أحدا، وأن يوسعوا آفاق تفكيرهم فيدركوا وحدة البشرية، ووحدة الدعوة، ووحدة العاقبة في أجيال البشرية [ ص: 2761 ] جميعا. وهذا هو التصور الذي يحرص الإسلام على أن يطبع به قلب المؤمن وعقله، ويكرر القرآن الإيقاع حوله كثيرا.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هاتين الجولتين في أغوار الكون وأغوار التاريخ يردهم إلى الحقيقة التي يغفل عنها الغافلون. حقيقة البعث والمآب. وهي طرف من الحق الأكبر الذي يقوم عليه الوجود:

                                                                                                                                                                                                                                      الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهي حقيقة بسيطة واضحة. والترابط والتناسق بين جزأيها أو بين حلقتيها واضح كذلك. فالإعادة كالبدء لا غرابة فيها. وهما حلقتان في سلسلة النشأة، مترابطتان لا انفصام بينهما. والرجعة في النهاية إلى رب العالمين، الذي أنشأ النشأة الأولى والنشأة الآخرة، لتربية عباده ورعايتهم ومجازاتهم في النهاية على ما يعملون.

                                                                                                                                                                                                                                      وعندما يصل السياق إلى البعث والمآب يعرض مشهدا من مشاهد القيامة، ويرسم مصائر المؤمنين والمكذبين حين يرجعون، ويكشف عن عبث اتخاذ الشركاء وسخف عقيدة المشركين:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية