الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      قال نفطويه : حدثنا أبو العباس المنصوري قال : لما قتل أبو جعفر أبا مسلم قال : رحمك الله أبا مسلم ، بايعتنا وبايعناك ، وعاهدتنا وعاهدناك ، ووفيت لنا ووفينا لك . وإنا بايعنا على ألا يخرج علينا أحد إلا قتلناه ، فخرجت علينا فقتلناك . وقيل : قال لأولئك : إذا سمعتم تصفيقي فاضربوه ، فضربه شبيب بن واج ، ثم ضربه القواد ، فدخل عيسى وكان قد كلم المنصور فيه . فلما رآه قتيلا ، استرجع .

                                                                                      وقيل : لما قتله ودخل جعفر بن حنظلة ، فقال : ما تقول في أمر أبي مسلم ؟ قال : إن كنت أخذت من شعره فاقتله ، فقال : وفقك الله . ها هو في البساط قتيلا ، فقال : يا أمير المؤمنين : عد هذا اليوم أول خلافتك ، وأنشد المنصور : [ ص: 70 ]

                                                                                      فألقت عصاها واستقرت بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر



                                                                                      وقرأت في كتاب : أن المنصور لم يزل يخدع أبا مسلم ويتحيل عليه حتى وقع في براثنه بعهود وأيمان .

                                                                                      وكان أبو مسلم ينظر في الملاحم . ويجد أنه مميت دولة ، ومحيي دولة ، ثم يقتل ببلد الروم . وكان المنصور يومئذ برومية المدائن ، وهي معدودة من مدائن كسرى بينها وبين بغداد سبعة فراسخ ، قيل : بناها الإسكندر لما أقام بالمدائن . فلم يخطر ببال أبي مسلم أن بها مصرعه ، وذهب وهمه إلى الروم .

                                                                                      وقيل : إن المنصور كان يقول : فعلت وفعلت ، فقال أبو مسلم : ما يقال لي هذا بعد بيعتي واجتهادي ، قال : يا ابن الخبيثة ، إنما فعلت ذلك بجدنا وحظنا ، ولو كان مكانك أمة سوداء ، لعملت عملك ، وتفعل كذا ، وتخطب عمتي ، وتدعي أنك عباسي ، لقد ارتقيت مرتقى صعبا .

                                                                                      فأخذ يفرك يده ويقبلها ، ويخضع ، وأبو جعفر يتنمر .

                                                                                      وعن مسرور الخادم قال : لما رد أبو مسلم ، أمره أبو جعفر أن يركب في خواص أصحابه ، فركب في أربعة آلاف غلام جرد مرد ، عليهم أقبية الديباج والسيوف بمناطق الذهب ، فأمر المنصور عمومته أن يستقبلوه ، وكان [ ص: 71 ] قد بقي من عمومته : صالح ، وسليمان ، وداود ، فلما أن أصحر ، سايره صالح بجنبه ، فنظر إلى كتائب الغلمان ، ورأى شيئا لم يعهد مثله ، فأنشأ صالح يقول :

                                                                                      سيأتيك ما أفنى القرون التي مضت     وما حل في أكناف عاد وجرهم
                                                                                      ومن كان أقوى منك عزا ومفخرا     وأقيد للجيش اللهام العرمرم



                                                                                      فبكى أبو مسلم ولم يحر جوابا .

                                                                                      قال أبو حسان الزيادي ، ويعقوب الفسوي ، وغيرهما : قتل في شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة .

                                                                                      قلت : وعمره سبعة وثلاثون عاما .

                                                                                      ولما قتل ، خرج بخراسان سنباذ للطلب بثأر أبي مسلم ، وكان سنباذ مجوسيا ، فغلب على نيسابور والري ، وظفر بخزائن أبي مسلم ، واستفحل أمره ، فجهز المنصور لحربه جمهور بن مرار العجلي في عشرة آلاف فارس ، وكان المصاف بين الري وهمذان ، فانهزم سنباذ ، وقتل من عسكره نحو من ستين ألفا ، وعامتهم كانوا من أهل الجبال ، فسبيت ذراريهم ، ثم قتل سنباذ بأرض طبرستان .

                                                                                      أنبأتنا فاطمة بنت علي ، أنبأنا فرقد بن عبد الله الكناني سنة ثمان وستمائة أنبأنا أبو طاهر السلفي ، أنبأنا أبو الفضل أحمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن سليم المعلم ، أنبأنا أبو علي الحسين بن عبد الله بن محمد بن المرزبان بن منجويه ، أنبأنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المقرئ . حدثني أبو نصر غلام ابن الأنباري ، سمعت ابن الأنباري ، سمعت محمد بن يحيى النحوي ، سمعت مسرورا الخادم يقول : لما استرد المنصور أبا مسلم من حلوان ، أمره أن ينصرف في خواص غلمانه ، فانصرف في أربعة آلاف غلام جرد مرد ، [ ص: 72 ] عليهم أقبية الديباج والسيوف ، ومناطق الذهب ، فأمر المنصور عمومته أن يستقبلوه . وكان قد بقي من عمومته يومئذ : صالح ، وسليمان وداود ، فلما أن أصحروا ، سايره صالح بجنبه ، فنظر إلى كتائب الغلمان فرأى شيئا لم يعهد مثله فأنشأ يقول :

                                                                                      سيأتيك ما أفنى القرون التي مضت     وما حل في أكناف عاد وجرهم
                                                                                      ومن كان أقوى منك عزا ومفخرا     وأقيد للجيش اللهام العرمرم



                                                                                      فبكى أبو مسلم ولم يحر جوابا ، ولم ينطق حتى دخل على المنصور . فأجلسه بين يديه ، وجعل يعاتبه ويقول : تذكر يوم كذا وكذا فعلت كذا وكذا وكتبت إلي بكذا وكذا ثم أنشأ يقول :

                                                                                      زعمت أن الدين لا يقتضى     فاقتض بالدين أبا مجرم
                                                                                      واشرب بكأس كنت تسقي بها     أمر في الحلق من العلقم



                                                                                      ثم أمر أهل خراسان فقطعوه إربا إربا .

                                                                                      وبه إلى منجويه : حدثنا أبو أحمد بن عبد الله بن عبد الوهاب الأنماطي ، حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ، حدثنا حسين بن فهم ، حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا محمد بن عمارة ، سمعت أبا مسلم صاحب الدولة يقرأ : ( فلا تسرف في القتل ) بالتاء .

                                                                                      قال ابن منجويه : حكى لي الثقة عن أبي أحمد ، أنبأنا الإمام أن عبد الله بن [ ص: 73 ] منده كتب عنه هذا ، وحسين بن فهم هو ابن بنت أبي مسلم .

                                                                                      وبه : حدثنا محمد بن أحمد بن عبد الواحد الطبري إملاء من أصله ، حدثنا أبو الحسين محمد بن موسى الحافظ ، حدثنا أحمد بن يحيى بن زكير ، حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن نجيح ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن منيب الخراساني ، حدثنا أبي عن أبي مسلم صاحب الدولة ، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أراد هوان قريش أهانه الله -عز وجل .

                                                                                      وبه أخبرناه أحمد بن موسى الحافظ ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثني محمد بن جعفر الرقي بحران ، حدثني جعفر بن موسى بدمشق ، حدثني عبد الرحمن بن خالد بهذا . لم يقل : ابن منيب عن أبيه وهو أشبه . . آخر سيرة أبي مسلم -والله سبحانه أعلم .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية