الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ( الوجه الثالث : أن القضايا الكلية العامة لا توجد في الخارج كلية عامة وإنما تكون كلية في الأذهان لا في الأعيان . وأما الموجودات في الخارج فهي أمور معينة كل موجود له حقيقة تخصه يتميز بها عما سواه لا يشركه فيها غيره فحينئذ لا يمكن الاستدلال بالقياس على خصوص وجود معين وهم معترفون بذلك وقائلون إن القياس لا يدل على أمر معين وقد يعبرون عن ذلك بأنه لا يدل على جزئي وإنما يدل على كلي . فإذا القياس لا يفيد معرفة أمر موجود بعينه . وكل موجود فإنما هو موجود بعينه فلا يفيد معرفة شيء من حقائق الموجودات وإنما يفيد أمورا كلية مطلقة مقدرة في الأذهان لا محققة في الأعيان . فما يذكره النظار من الأدلة القياسية التي يسمونها براهين على إثبات الصانع سبحانه لا يدل شيء منها على عينه . وإنما يدل على أمر مطلق لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه .

                [ ص: 234 ] فإذا قال : هذا محدث وكل محدث فلا بد له من محدث . إنما يدل هذا على محدث مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإنما تعلم عينه بعلم آخر يجعله الله في القلوب . وهم معترفون بهذا ; لأن النتيجة لا تكون أبلغ من المقدمات والمقدمات فيها قضية كلية لا بد من ذلك . والكلي لا يدل على معين وهذا بخلاف ما يذكره الله في كتابه من الآيات كقوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض } الآية . إلى غير ذلك يدل على المعين كالشمس التي هي آية النهار . والدليل أعم من القياس ; فإن الدليل قد يكون بمعين على معين كما يستدل بالنجم وغيره من الكواكب على الكعبة فالآيات تدل على نفس الخالق سبحانه لا على قدر مشترك بينه وبين غيره فإن كل ما سواه مفتقر إليه نفسه فيلزم من وجوده وجود عين الخالق نفسه .

                ( الوجه الرابع ) : أن الحد الأوسط المكرر في قياس الشمول وهو الخمر من قولك : كل مسكر خمر وكل خمر حرام هو مناط الحكم في قياس التمثيل وهو القدر المشترك الجامع بين الأصل والفرع فالقياسان متلازمان . كل ما علم بهذا القياس يمكن علمه بهذا القياس . ثم إن كان الدليل قطعيا فهو قطعي في القياسين أو ظنيا فظني فيهما .

                وأما دعوى من يدعي من المنطقيين وأتباعهم : أن اليقين إنما يحصل بقياس الشمول دون قياس التمثيل . فهو قول في غاية الفساد . وهو قول [ ص: 235 ] من لم يتصور حقيقة القياسين . وقد يعلم بنص : أن كل مسكر حرام كما ثبت في الحديث الصحيح . وإذا كان كذلك لم يتعين قياس الشمول لإفادة الحكم بل ولا قياس من الأقيسة . فإنه قد يعلم بلا قياس فبطل قولهم لا علم تصديقي إلا بالقياس المنطقي كما تقدم .

                والمقصود هنا : بيان قلة منفعته أو عدمها . فإن المطلوب إن كان ثم قضية علمت من جهة الرسول تفيد العموم . وهو أن كل مسكر حرام حصل مدعاه . فالقضايا الكلية المتلقاة عن الرسول تفيد العلم في المطالب الإلهية . وأما ما يستفاد من علومهم فالقضايا الكلية فيه إما منتقضة وإما أنها بمنزلة قياس التمثيل وإما أنها لا تفيد العلم بالموجودات المعينة بل بالمقدرات الذهنية كالحساب والهندسة فإنه وإن كان ذلك يتناول ما وجد على ذلك المقدار فدخول المعين فيه لا يعلم بالقياس بل بالحس فلم يكن القياس محصلا للمقصود أو تكون مما لا اختصاص لهم بها بل يشترك فيها سائر الأمم بدون خطور منطقهم بالبال مع استواء قياس التمثيل وقياس الشمول .

                وإثبات العلم بالصانع والنبوات ليس موقوفا على الأقيسة بل يعلم بالآيات الدالة على معين لا شركة فيه يحصل بالعلم الضروري الذي لا يفتقر إلى نظر وما يحصل منها بالشمول فهو بمنزلة ما يحصل بالتمثيل أمر كلي لا يحصل به العلم بما يختص به الرب وما يختص به الرسول إلا بانضمام علم آخر إليه .

                [ ص: 236 ] ( الوجه الخامس ) أن يقال : هذا القياس الشمولي - وهو العلم بثبوت الحكم لكل فرد من الأفراد - فنقول قد علم وسلموا أنه لا بد أن يكون العلم بثبوت بعض الأحكام لبعض الأفراد بديهيا ; فإن النتيجة إذا افتقرت إلى مقدمتين فلا بد أن ينتهي الأمر إلى مقدمتين تعلمان بدون مقدمتين وإلا لزم الدور أو التسلسل الباطلان وإذا فرض مقدمتان طريق العلم بهما واحد لم يحتج إلى القياس كالعلم بأن كل إنسان حيوان وكل حيوان حساس متحرك بالإرادة . فالعلم بأن كل إنسان متحرك بالإرادة أبين وأظهر . فالمقدمتان إن كان طريق العلم بهما واحدا وقد علمتا فلا حاجة إلى بيانهما . وإن كان طريق العلم بهما مختلفا فمن لم يعلم إحداهما احتاج إلى بيانها ولم يحتج إلى بيان الأخرى التي علمها . وهذا ظاهر في كل ما يقدره . فتبين أن منطقهم يعطي تضييع الزمان وكثرة الهذيان وإتعاب الأذهان .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية