الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        4980 حدثنا عبد الله بن رجاء أخبرنا شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن الأسود أن عائشة أرادت أن تشتري بريرة فأبى مواليها إلا أن يشترطوا الولاء فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم فقيل إن هذا ما تصدق به على بريرة فقال هو لها صدقة ولنا هدية حدثنا آدم حدثنا شعبة وزاد فخيرت من زوجها [ ص: 321 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 321 ] قوله ( باب ) كذا لهم بغير ترجمة ، وهو من متعلقات ما قبله ، وأورد فيه قصة بريرة عن عبد الله بن رجاء عن شعبة عن الحكم وهو ابن عتيبة بمثناة وموحدة مصغر عن إبراهيم وهو النخعي عن الأسود وهو ابن يزيد " أن عائشة أرادت أن تشتري بريرة " فساق القصة مختصرة وصورة سياقه الإرسال ، لكن أورده في كفارات الأيمان مختصرا عن سليمان بن حرب عن شعبة فقال فيه " عن الأسود عن عائشة " وكذا أورده في الفرائض عن حفص بن عمر عن شعبة وزاد في آخره " قال الحكم : وكان زوجها حرا " ثم أورده بعده من طريق منصور عن إبراهيم عن الأسود أن عائشة فساق نحو سياق الباب وزاد فيه " وخيرت فاختارت نفسها وقالت : لو أعطيت كذا وكذا ما كنت معه ، قال الأسود : وكان زوجها حرا " قال البخاري : قول الأسود منقطع ، وقول ابن عباس " رأيته عبدا " أصح . وقال في الذي قبله في قول الحكم نحو ذلك ، وقد أورد البخاري عقب رواية عبد الله بن رجاء هذه عن آدم عن شعبة ولم يسق لفظه لكن قال " وزاد : فخيرت من زوجها " وقد أورده في الزكاة عن آدم بهذا الإسناد فلم يذكر هذه الزيادة ، وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر عن آدم شيخ البخاري فيه فجعل الزيادة من قول إبراهيم ولفظه في آخره " قال الحكم قال إبراهيم : وكان زوجها حرا فخيرت من زوجها " فظهر أن هذه الزيادة مدرجة وحذفها في الزكاة لذلك ، وإنما أوردها هـنا مشيرا إلى أن أصل التخيير في قصة بريرة ثابت من طريق أخرى وقد قال الدارقطني في " العلل " : لم يختلف على عروة عن عائشة أنه كان عبدا ، وكذا قال جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن عائشة ، وأبو الأسود وأسامة بن زيد عن القاسم .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وقع لبعض الرواة فيه غلط ، فأخرج قاسم بن أصبغ في مصنفه وابن حزم من طريقه قال أنبأنا أحمد بن يزيد المعلم حدثنا موسى بن معاوية عن جرير عن هشام عن أبيه عن عائشة " كان زوج بريرة حرا " وهذا وهم من موسى أو من أحمد ، فإن الحفاظ من أصحاب هشام ومن أصحاب جرير قالوا كان عبدا ، منهم إسحاق بن راهويه وحديثه عن النسائي ، وعثمان بن أبي شيبة وحديثه عند أبي داود ، وعلي بن حجر وحديثه عند الترمذي ، وأصله عند مسلم وأحال به على رواية أبي أسامة عن هشام وفيه أنه كان عبدا ، قال الدارقطني : وكذا قال أبو معاوية عن هشام بن عروة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه . قلت : ورواه شعبة عن عبد الرحمن فقال كان حرا ، ثم رجع عبد الرحمن فقال ما أدري ، وقد تقدم في العتق قال الدارقطني وقال عمران بن حدير عن عكرمة عن عائشة كان حرا وهو وهم ، قلت : في شيئين في قوله حر وفي قوله عائشة ، وإنما هـو من رواية عكرمة عن ابن عباس ، ولم يختلف على ابن عباس في أنه كان عبدا ، وكذا جزم به الترمذي عن ابن عمر وحديثه عند الشافعي والدارقطني وغيرهما ، وكذا أخرجه النسائي من حديث صفية بنت أبي عبيد قالت كان زوج بريرة عبدا وسنده صحيح ، وقال النووي : يؤيد قول من قال إنه كان عبدا قول عائشة كان عبدا ، ولو كان حرا لم يخيرها ، فأخبرت وهي صاحبة القصة بأنه كان عبدا ، ثم عللت بقولها " ولو كان حرا لم يخيرها " ومثل هذا لا يكاد أحد يقوله إلا توقيفا ، وتعقب بأن هذه الزيادة في رواية جرير عن هشام بن عروة في آخر الحديث ، وهي مدرجة من قول عروة ، بين ذلك في رواية مالك وأبي داود والنسائي .

                                                                                                                                                                                                        نعم وقع في رواية أسامة بن زيد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت " كانت بريرة مكاتبة لأناس من الأنصار وكانت تحت عبد " الحديث أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي ، وأسامة فيه مقال ، وأما دعوى أن ذلك لا يقال إلا بتوقيف فمردودة فإن للاجتهاد فيه مجالا ، وقد تقدم قريبا توجيهه من حيث النظر أيضا ، قال الدارقطني " وقال إبراهيم عن الأسود عن عائشة : كان حرا " . قلت : وأصرح ما رأيته في ذلك رواية أبي معاوية " حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت : كان زوج بريرة حرا فلما عتقت خيرت " الحديث أخرجه أحمد عنه ، وأخرج ابن أبي شيبة عن إدريس عن الأعمش بهذا السند عن عائشة قالت " كان زوج بريرة حرا " ومن وجه آخر [ ص: 322 ] عن النخعي عن الأسود أن عائشة حدثته " أن زوج بريرة كان حرا حين أعتقت " فدلت الروايات المفصلة التي قدمتها آنفا على أنه مدرج من قول الأسود أو من دونه فيكون من أمثلة ما أدرج في أول الخبر وهو نادر فإن الأكثر أن يكون في آخره ودونه أن يقع في وسطه ، وعلى تقدير أن يكون موصولا فترجح رواية من قال كان عبدا بالكثرة ، وأيضا فآل المرء أعرف بحديثه ، فإن القاسم ابن أخي عائشة وعروة ابن أختها وتابعهما غيرهما فروايتهما أولى من رواية الأسود فإنهما أقعد بعائشة وأعلم بحديثها والله أعلم . ويترجح أيضا بأن عائشة كانت تذهب إلى أن الأمة إذا عتقت تحت الحر لا خيار لها ، وهذا بخلاف ما روى العراقيون عنها فكان يلزم على أصل مذهبهم أن يأخذوا بقولها ويدعوا ما روي عنها لا سيما وقد اختلف عنها فيه ، وادعى بعضهم أنه يمكن الجمع بين الروايتين بحمل قول من قال كان عبدا على اعتبار ما كان عليه ثم أعتق ، فلذلك قال من قال كان حرا ، ويرد هذا الجمع ما تقدم من قول عروة " كان عبدا ولو كان حرا لم تخير " وأخرجه الترمذي بلفظ " أن زوج بريرة كان عبدا أسود يوم أعتقت " فهذا يعارض الرواية المتقدمة عن الأسود ، ويعارض الاحتمال المذكور احتمال أن يكون من قال كان حرا أراد ما آل إليه أمره ، وإذا تعارضا إسنادا واحتمالا احتيج إلى الترجيح ورواية الأكثر يرجح بها وكذلك الأحفظ وكذلك الألزم ، وكل ذلك موجود في جانب من قال كان عبدا .

                                                                                                                                                                                                        وفي قصة بريرة من الفوائد وقد تقدم بعضها في المساجد وفي الزكاة والكثير منها في العتق : جواز المكاتبة بالسنة تقريرا لحكم الكتاب ، وقد روى ابن أبي شيبة في " الأوائل " بسند صحيح أنها أول كتابة كانت في الإسلام ، ويرد عليه قصة سلمان ، فيجمع بأن أوليته في الرجال وأولية بريرة في النساء ، وقد قيل إن أول مكاتب في الإسلام أبو أمية عبد عمر ، وادعى الروياني أن الكتابة لم تكن تعرف في الجاهلية وخولف . ويؤخذ من مشروعية نجوم الكتابة البيع إلى أجل والاستقراض ونحو ذلك ، وفيه إلحاق الإماء بالعبيد لأن الآية ظاهرة في الذكور ، وفيه جواز كتابة أحد الزوجين الرقيقين ، ويلحق به جواز بيع أحدهما دون الآخر ، وجواز كتابة من لا مال له ولا حرفة ، كذا قيل وفيه نظر لأنه لا يلزم من طلبها من عائشة الإعانة على حالها أن يكون لا مال لها ولا حرفة ، وفيه جواز بيع المكاتب إذا رضي ولم يعجز نفسه إذا وقع التراضي بذلك ، وحمله من منع على أنها عجزت نفسها قبل البيع ويحتاج إلى دليل ، وقيل إنما وقع البيع على نجوم الكتابة وهو بعيد جدا ويؤخذ منه أن المكاتب عبد ما بقي عليه شيء ، فيتفرع منه إجراء أحكام الرقيق كلها في النكاح والجنايات والحدود وغيرها . وقد أكثر بسردها من ذكرنا أنهم جمعوا الفوائد المستنبطة من حديث بريرة . ومن ذلك أن من أدى أكثر نجومه لا يعتق تغليبا لحكم الأكثر ، وأن من أدى من النجوم بقدر قيمته يعتق ، وأن من أدى بعض نجومه لم يعتق منه بقدر ما أدى ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في شراء بريرة من غير استفصال .

                                                                                                                                                                                                        وفيه جواز بيع المكاتب والرقيق بشرط العتق ، وأن بيع الأمة المزوجة ليس طلاقا كما تقدم تقريره قريبا وأن عتقها ليس طلاقا ولا فسخا لثبوت التخيير ، فلو طلقت بذلك واحدة لكان لزوجها الرجعة ولم يتوقف على إذنها ، أو ثلاثا لم يقل لها لو راجعتيه لأنها ما كانت تحل له إلا بعد زوج آخر ، وأن بيعها لا يبيح لمشتريها وطأها لأن تخييرها يدل على بقاء علقة العصمة وأن سيد المكاتب لا يمنعه من الاكتساب وأن اكتسابه من حين الكتابة يكون له جواز سؤال المكاتب من يعينه على بعض نجومه وإن لم تحل ، وأن ذلك لا يقتضي تعجيزه ، وجواز سؤال ما لا يضطر السائل إليه في الحال ، وجواز الاستعانة بالمرأة المزوجة ، وجواز تصرفها في مالها بغير إذن زوجها ، وبذل المال في طلب الأجر حتى في الشراء بالزيادة على ثمن المثل بقصد التقرب بالعتق ، ويؤخذ منه جواز شراء من يكون مطلق التصرف السلعة بأكثر من ثمنها لأن عائشة بذلت نقدا ما جعلوه نسيئة في تسع سنين لحصول الرغبة في النقد أكثر من النسيئة ، وجواز السؤال في الجملة لمن يتوقع الاحتياج إليه فتحمل الأخبار الواردة في الزجر عن السؤال على الأولوية . وفيه جواز سعي المرقوق في فكاك رقبته ولو كان بسؤال من يشتري ليعتق وإن أضر ذلك بسيده لتشوف [ ص: 323 ] الشارع إلى العتق ، وفيه بطلان الشروط الفاسدة في المعاملات وصحة الشروط المشروعة لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل " وقد تقدم بسطه في الشروط ، ويؤخذ منه أن من استثنى خدمة المرقوق عند بيعه لم يصح شرطه ، وأن من شرط شرطا فاسدا لم يستحق العقوبة إلا إن علم بتحريمه وأصر عليه ، وأن سيد المكاتب لا يمنعه من السعي في تحصيل مال الكتابة ولو كان حقه في الخدمة ثابتا ، وأن المكاتب إذا أدى نجومه من الصدقة لم يردها السعيد وإذا أدى نجومه قبل حلولها كذلك ، ويؤخذ منه أنه يعتق أخذا من قول موالي بريرة " إن شاءت أن تحتسب عليك " فإن ظاهره في قبول تعجيل ما اتفقوا على تأجيله ومن لازمه حصول العتق ، ويؤخذ منه أيضا أن من تبرع عن المكاتب بما عليه عتق ، واستدل به على عدم وجوب الوضع عن المكاتب لقول عائشة " أعدها لهم عدة واحدة " ولم ينكر ، وأجيب بجواز قصد دفعهم لها بعد القبض . وفيه جواز إبطال الكتابة وفسخ عقدها إذا تراضى السيد والعبد ، وإن كان فيه إبطال التحرير لتقرير بريرة على السعي بين عائشة ومواليها في فسخ كتابتها لتشتريها عائشة .

                                                                                                                                                                                                        وفيه ثبوت الولاء للمعتق والرد على من خالفه ، ويؤخذ من ذلك عدة مسائل كعتق السائبة واللقيط والحليف ونحو ذلك كثر بها العدد من تكلم على حديث بريرة . وفيه مشروعية الخطبة في الأمر المهم والقيام فيها ، وتقدمة الحمد والثناء ، وقول أما بعد عند ابتداء الكلام في الحاجة ، وأن من وقع منه ما ينكر استحب عدم تعيينه ; وأن استعمال السجع في الكلام لا يكره إلا إذا قصد إليه ووقع متكلفا . وفيه جواز اليمين فيما لا تجب فيه ولا سيما عند العزم على فعل شيء ، وأن لغو اليمين لا كفارة فيه لأن عائشة حلفت أن لا تشترط ثم قال لها النبي صلى الله عليه وسلم اشترطي ولم ينقل كفارة . وفيه مناجاة الاثنين بحضرة الثالث في الأمر يستحي منه المناجي ويعلم أن من ناجاه يعلم الثالث به ويستثنى ذلك من النهي الوارد فيه ، وفيه جواز سؤال الثالث عن المناجاة المذكورة إذا ظن أن له تعلقا به وجواز إظهار السر في ذلك ولا سيما إن كان فيه مصلحة للمناجي . وفيه جواز المساومة في المعاملة والتوكيل فيها ولو للرقيق ، واستخدام الرقيق في الأمر الذي يتعلق بمواليه وإن لم يأذنوا في ذلك بخصوصه . وفيه ثبوت الولاء للمرأة المعتقة فيستثنى من عموم الولاء لحمة كلحمة النسب فإن الولاء لا ينتقل إلى المرأة بالإرث بخلاف النسب .

                                                                                                                                                                                                        وفيه أن الكافر يرث ولاء عتيقه المسلم وإن كان لا يرث قريبه المسلم ، وأن الولاء لا يباع ولا يوهب وقد تقدم في باب مفرد في العتق ، ويؤخذ منه أن معنى قوله في الرواية الأخرى " الولاء لمن أعطى الورق " أن المراد بالمعطى المالك لا من باشر الإعطاء مطلقا فلا يدخل الوكيل ، ويؤيده قوله في رواية الثوري عند أحمد " لمن أعطى الورق وولي النعمة " وفيه ثبوت الخيار للأمة إذا عتقت على التفصيل المتقدم وأن خيارها يكون على الفور لقوله في بعض طرقه " إنها عتقت فدعاها فخيرها فاختارت نفسها " وللعلماء في ذلك أقوال :

                                                                                                                                                                                                        أحدها وهو قول الشافعي أنه على الفور ، وعنه يمتد خيارها ثلاثا ، وقيل بقيامها من مجلس الحاكم وقيل من مجلسها وهما عن أهل الرأي ، وقيل يمتد أبدا وهو قول مالك والأوزاعي وأحمد وأحد أقوال الشافعي ، واتفقوا على أنه إن مكنته من وطئها سقط خيارها ، وتمسك من قال به بما جاء في بعض طرقه وهو عند أبي داود من طريق ابن إسحاق بأسانيد عن عائشة أن بريرة أعتقت فذكر الحديث وفي آخره " إن قربك فلا خيار لك " وروى مالك بسند صحيح عن حفصة أنها أفتت بذلك ، وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر مثله ، قال ابن عبد البر : لا أعلم لهما مخالفا من الصحابة ، وقال به جمع من التابعين منهم الفقهاء السبعة ، واختلف فيما لو وطئها قبل علمها بأن لها الخيار هل يسقط أو لا ؟ على قولين للعلماء أصحهما عند الحنابلة لا فرق ، وعند الشافعية تعذر بالجهل ، وفي رواية الدارقطني : إن وطئك فلا خيار لك ، ويؤخذ من هذه الزيادة أن المرأة إذا وجدت بزوجها عيبا ثم مكنته من الوطء بطل خيارها . وفيه أن الخيار فسخ لا يملك الزوج فيه رجعة ، وتمسك من قال له الرجعة بقول النبي صلى الله عليه وسلم " لو راجعتيه " ولا حجة فيه وإلا لما كان لها اختيار فتعين حمل المراجعة في الحديث على معناها [ ص: 324 ] اللغوي والمراد رجوعها إلى عصمته ، ومنه قوله تعالى فلا جناح عليهما أن يتراجعا مع أنها في المطلق ثلاثا . وفيه إبطال قول من زعم استحالة أن يحب أحد الشخصين الآخر والآخر يبغضه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا " ؟ نعم يؤخذ منه أن ذلك هو الأكثر الأغلب ، ومن ثم وقع التعجب لأنه على خلاف المعتاد ، وجوز الشيخأبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به أن يكون ذلك مما ظهر من كثرة استمالة مغيث لها بأنواع من الاستمالات كإظهاره حبها وتردده خلفها وبكائه عليها مع ما ينضم إلى ذلك من استمالته لها بالقول الحسن والوعد الجميل ، والعادة في مثل ذلك أن يميل القلب ولو كان نافرا فلما خالفت العادة وقع التعجب ، ولا يلزم منه ما قال الأولون . وفيه أن المرء إذا خير بين مباحين فآثر ما ينفعه لم يلم ولو أضر ذلك برفيقه . وفيه اعتبار الكفاءة في الحرية . وفيه سقوط الكفاءة برضا المرأة التي لا ولي لها ، وأن من خير امرأته فاختارت فراقه وقع وانفسخ النكاح بينهما وقد تقدم ، وأنها لو اختارت البقاء معه لم ينقص عدد الطلاق . وكثر بعض من تكلم على حديث بريرة هنا في سرد تفاريع التخيير .

                                                                                                                                                                                                        وفيه أن المرأة إذا ثبت لها الخيار فقالت لا حاجة لي به ترتب على ذلك حكم الفراق ، كذا قيل وهو مبني على أن ذلك وقع قبل اختيارها الفراق ولم يقع إلا بهذا الكلام وفيه من النظر ما تقدم . وفيه جواز دخول النساء الأجانب بيت الرجل سواء كان فيه أم لا . وفيه أن المكاتبة لا يلحقها في العتق ولدها ولا زوجها . وفيه تحريم الصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم مطلقا ، وجواز التطوع منها على ما يلحق به في تحريم صدقة الفرض كأزواجه ومواليه ، وأن موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا تحرم عليهن الصدقة وإن حرمت على الأزواج ، وجواز أكل الغني ما تصدق به على الفقير إذا أهداه له وبالبيع أولى ، وجواز قبول الغني هدية الفقير . وفيه الفرق بين الصدقة والهدية في الحكم . وفيه نصح أهل الرجل له في الأمور كلها وجواز أكل الإنسان من طعام من يسر بأكله منه ولو لم يأذن له فيه بخصوصه ، وبأن الأمة إذا عتقت جاز لها التصرف بنفسها في أمورها ولا حجر لمعتقها عليها إذا كانت رشيدة ، وأنها تتصرف في كسبها دون إذن زوجها إن كان لها زوج .

                                                                                                                                                                                                        وفيه جواز الصدقة على من يمونه غيره لأن عائشة كانت تمون بريرة ولم ينكر عليها قبولها الصدقة ، وأن لمن أهدي لأهله شيء أن يشرك نفسه معهم في الإخبار عن ذلك لقوله " وهو لنا هـدية " وأن من حرمت عليه الصدقة جاز له أكل عينها إذا تغير حكمها ، وأنه يجوز للمرأة أن تدخل إلى بيت زوجها ما لا يملكه بغير علمه ، وأن تتصرف في بيته بالطبخ وغيره بآلاته ووقوده ، وجواز أكل المرء ما يجده في بيته إذا غلب الحل في العادة ، وأنه ينبغي تعريفه بما يخشى توقفه عنه ، واستحباب السؤال عما يستفاد به علم أو أدب أو بيان حكم أو رفع شبهة وقد يجب ، وسؤال الرجل عما لم يعهده في بيته ، وأن هدية الأدنى للأعلى لا تستلزم الإثابة مطلقا ، وقبول الهدية وإن نزر قدرها جبر للمهدي ، وأن الهدية تملك بوضعها في بيت المهدي له ولا يحتاج إلى التصريح بالقبول ، وأن لمن تصدق عليه بصدقة أن يتصرف فيها بما شاء ولا ينقص أجر المتصدق ، وأنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل إذا لم يكن فيه شبهة ، ولا عن الذبيحة إذا ذبحت بين المسلمين ، وأن من تصدق عليه قليل لا يتسخطه .

                                                                                                                                                                                                        وفيه مشاورة المرأة زوجها في التصرفات ، وسؤال العالم عن الأمور الدينية ، وإعلام العالم بالحكم لمن رآه يتعاطى أسبابه ولو لم يسأل ومشاورة المرأة إذا ثبت لها حكم التخيير في فراق زوجها أو الإقامة عنده ، وأن على الذي يشاور بذل النصيحة . وفيه جواز مخالفة المشير فيما يشير به في غير الواجب ، واستحباب شفاعة الحاكم في الرفق بالخصم حيث لا ضرر ولا إلزام ، ولا لوم على من خالف ولا غضب ولو عظم قدر الشافع ، وترجم له النسائي " شفاعة الحاكم في الخصوم قبل فصل الحكم ولا يجب على المشفوع عنده القبول " ، ويؤخذ منه أن التصميم في الشفاعة لا يسوغ فيما تشق الإجابة فيه على المسئول بل يكون على وجه العرض والترغيب . وفيه جواز الشفاعة قبل أن يسألها المشفوع له لأنه لم ينقل أن مغيثا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع له ، كذا قيل ، وقد [ ص: 325 ] قدمت أن في بعض الطرق أن العباس هو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فيحتمل أن يكون مغيث سأل العباس في ذلك ويحتمل أن يكون العباس ابتدأ ذلك من قبل نفسه شفقة منه على مغيث ، ويؤخذ منه استحباب إدخال السرور على قلب المؤمن . وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به : فيه أن الشافع يؤجر ولو لم تحصل إجابته ، وأن المشفوع عنده إذا كان دون قدر الشافع لم تمتنع الشفاعة ، قال : وفيه تنبيه الصاحب صاحبه على الاعتبار بآيات الله وأحكامه لتعجيب النبي صلى الله عليه وسلم العباس من حب مغيث بريرة ، قال : ويؤخذ منه أن نظره صلى الله عليه وسلم كان كله بحضور وفكر ، وأن كل ما خالف العادة يتعجب منه ويعتبر به . وفيه حسن أدب بريرة لأنها لم تفصح برد الشفاعة وإنما قالت " لا حاجة لي فيه " . وفيه أن فرط الحب يذهب الحياء لما ذكر من حال مغيث وغلبة الوجد عليه حتى لم يستطع كتمان حبها ، وفي ترك النكير عليه بيان جواز قبول عذر من كان في مثل حاله ممن يقع منه ما لا يليق بمنصبه إذا وقع بغير اختياره ، ويستنبط من هذا معذرة أهل المحبة في الله إذا حصل لهم الوجد من سماع ما يفهمون منه الإشارة أن أحوالهم حيث يظهر منهم ما لا يصدر عن اختيار من الرقص ونحوه .

                                                                                                                                                                                                        وفيه استحباب الإصلاح بين المتنافرين سواء كانا زوجين أم لا ، وتأكيد الحرمة بين الزوجين إذا كان بينهما ولد لقوله صلى الله عليه وسلم " إنه أبو ولدك " ويؤخذ منه أن الشافع يذكر للمشفوع عنده ما يبعث إلى قبوله من مقتضى الشفاعة والحامل عليها ، وفيه جواز شراء الأمة دون ولدها وأن الولد يثبت بالفراش والحكم بظاهر الأمر في ذلك . قلت : ولم أقف على تسمية أحد من أولاد بريرة ، والكلام محتمل لأن يريد به أنه أبو ولدها بالقوة لكنه خلاف الظاهر . وفيه جواز نسبة الولد إلى أمه . وفيه أن المرأة الثيب لا إجبار عليها ولو كانت معتوقة ، وجواز خطبة الكبير والشريف لمن هو دونه . وفيه حسن الأدب في المخاطبة حتى من الأعلى مع الأدنى ، وحسن التلطف في الشفاعة . وفيه أن للعبد أن يخطب مطلقته بغير إذن سيد ، وأن خطبة المعتدة لا تحرم على الأجنبي إذا خطبها لمطلقها ، وأن فسخ النكاح لا رجعة فيه إلا بنكاح جديد ، وأن الحب والبغض بين الزوجين لا لوم فيه على واحد منهما لأنه بغير اختيار ، وجواز بكاء المحب على فراق حبيبه وعلى ما يفوته من الأمور الدنيوية ومن الدينية بطريق الأولى ، وأنه لا عار على الرجل في إظهار حبه لزوجته ، وأن المرأة إذا أبغضت الزوج لم يكن لوليها إكراهها على عشرته ، وإذا أحبته لم يكن لوليها التفريق بينهما ، وجواز ميل الرجل إلى امرأة يطمع في تزويجها أو رجعتها ، وجواز كلام الرجل لمطلقته في الطرق واستعطافه لها واتباعها أين سلكت كذلك ، ولا يخفى أن محل الجواز عند أمن الفتنة ، وجواز الإخبار عما يظهر من حال المرء وإن لم تفصح به لقوله صلى الله عليه وسلم للعباس ما قال .

                                                                                                                                                                                                        وفيه جواز رد الشافع المنة على المشفوع إليه بقبول شفاعته ، لأن قول بريرة للنبي صلى الله عليه وسلم " أتأمرني " ظاهر في أنه لو قال " نعم " لقبلت شفاعته ، فلما قال " لا " علم أنه رد عليها ما فهم من المنة في امتثال الأمر ، كذا قيل وهو متكلف ، بل يؤخذ منه أن بريرة علمت أن أمره واجب الامتثال ، فلما عرض عليها ما عرض استفصلت هل هو أمر فيجب عليها امتثاله ، أو مشورة فتتخير فيها ؟ وفيه أن كلام الحاكم بين الخصوم في مشورة وشفاعة ونحوهما ليس حكما . وفيه أنه يجوز لمن سئل قضاء حاجة أن يشترط على الطالب ما يعود عليه نفعه ، لأن عائشة شرطت أن يكون لها الولاء إذا أدت الثمن دفعة واحدة . وفيه جواز أداء الدين على المدين ، وأنه يبرأ بأداء غيره عنه ، وإفتاء الرجل زوجته فيما لها حظ وغرض إذا كان حقا ، وجواز حكم الحاكم لزوجته بالحق ، وجواز قول مشتري الرقيق اشتريته لأعتقه ترغيبا للبائع في تسهيل البيع ، وجواز المعاملة بالدراهم والدنانير عددا إذا كان قدرها بالكتابة معلوما لقولها " أعدها " ولقولها " تسع أواق " ويستنبط منه جواز بيع المعاطاة . وفيه جواز عقد البيع بالكتابة لقوله " خذيها " ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في حديث الهجرة " قد أخذتها بالثمن " . وفيه أن حق الله مقدم على حق الآدمي لقوله " شرط الله أحق وأوثق " ومثله الحديث الآخر " دين الله أحق أن يقضى " وفيه جواز الاشتراك في الرقيق لتكرر ذكر أهل بريرة في الحديث ، وفي رواية " كانت لناس [ ص: 326 ] من الأنصار " ويحتمل مع ذلك الوحدة وإطلاق ما في الخبر على المجاز . وفيه أن الأيدي ظاهرة في الملك ، وأن مشتري السلعة لا يسأل عن أصلها إذا لم تكن ريبة . وفيه استحباب إظهار أحكام العقد للعالم بها إذا كان العاقد يجهلها . وفيه أن حكم الحاكم لا يغير الحكم الشرعي فلا يحل حراما ولا عكسه . وفيه قبول خبر الواحد الثقة وخبر العبد والأمة وروايتهما . وفيه أن البيان بالفعل أقوى من القول ، وجواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة والمبادرة إليه عند الحاجة ، وفيه أن الحاجة إذا اقتضت بيان حكم عام وجب إعلانه أو ندب بحسب الحال . وفيه جواز الرواية بالمعنى والاختصار من الحديث ، والاقتصار على بعضه بحسب الحاجة ، فإن الواقعة واحدة وقد رويت بألفاظ مختلفة وزاد بعض الرواة ما لم يذكر الآخر ولم يقدح ذلك في صحته عند أحد العلماء .

                                                                                                                                                                                                        وفيه أن العدة بالنساء لما تقدم من حديث ابن عباس أنها أمرت أن تعتد عدة الحرة ، ولو كان بالرجال لأمرت أن تعتد بعدة الإماء . وفيه أن عدة الأمة إذا عتقت تحت عبد فاختارت نفسها ثلاثة قروء ، وأما ما وقع في بعض طرقه " تعتد بحيضة " فهو مرجوح ، ويحتمل أن أصله " تعتد بحيض " فيكون المراد جنس ما تستبرئ به رحمها لا الوحدة وفيه تسمية الأحكام سننا وإن كان بعضها واجبا ، وأن تسمية ما دون الواجب سنة اصطلاح حادث . وفيه جواز جبر السيد أمته على تزويج من لا تختاره إما لسوء خلقه أو خلقه وهي بالضد من ذلك ، فقد قيل إن بريرة كانت جميلة غير سوداء بخلاف زوجها وقد زوجت منه وظهر عدم اختيارها لذلك بعد عتقها . وفيه أن أحد الزوجين قد يبغض الآخر ولا يظهر له ذلك ، ويحتمل أن تكون بريرة مع بغضها مغيثا كانت تصير على حكم الله عليها في ذلك ولا تعامله بما يقضيه البغض إلى أن فرج الله عنها . وفيه تنبيه صاحب الحق على ما وجب له إذا جهله ، واستقلال المكاتب بتعجيز نفسه ، وإطلاق الأهل على السادة وإطلاق العبيد على الأرقاء ، وجواز تسمية العبد مغيثا ، وأن مال الكتابة لا حد لأكثره وأن للمعتق أن يقبل الهدية من معتقه ولا يقدح ذلك في ثواب العتق ، وجواز الهدية لأهل الرجل بغير استئذانه ، وقبول المرأة ذلك حيث لا ريبة وفيه سؤال الرجل عما لم يعهده في بيته ، ولا يرد على هذا ما تقدم في قصة أم زرع حيث وقع في سياق المدح " ولا يسأل عما عهد " لأن معناه كما تقدم ولا يسأل عن شيء عهده وفات فلا يقول لأهله أين ذهب ؟ وهنا سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء رآه وعاينه ثم أحضر له غيره فسأل عن سبب ذلك لأنه يعلم أنهم لا يتركون إحضاره له شحا عليه بل لتوهم تحريمه ، فأراد أن يبين لهم الجواز .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن دقيق العيد : فيه دلالة على تبسيط الإنسان في السؤال عن أحوال منزله وما عهده فيه قبل والأول أظهر ، وعندي أنه مبني على خلاف ما انبنى عليه الأول ، لأن الأول بني على أنه علم حقيقة الأمر في اللحم وأنه مما تصدق به على بريرة ، والثاني بني على أنه لم يتحقق من أين هو فجائز أن يكون مما أهدي لأهل بيته من بعض إلزامها كأقاربها مثلا ولم يتعين الأول . وفيه أنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل إليه إذا لم يظن تحريمه أو تظهر فيه شبهة ، إذ لم يسأل صلى الله عليه وسلم عمن تصدق على بريرة ولا عن حاله ، كذا قيل ، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أرسل إلى بريرة بالصدقة فلم يتم هذا .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية