الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 166 ] نتيجة ما تقدم .

                          علم مما تقدم أن المسائل الدينية المحضة ، وهي : العقائد والعبادات والحظر والإباحة الدينيان ، تؤخذ من نصوص القرآن ، وبيان السنة لها بالقول أو العمل على الوجه الذي كان عليه الصدر الأول من الصحابة ، فما أجمعوا عليه فلا عذر لأحد في مخالفته . وما اختلفوا فيه ينظر في دلائله ، ويرجح بعضه على بعض ، كما يأتي تفصيله في القسم الثالث من أقسام أحكام المعاملات ، ولا يلتفت فيه إلى الشذوذ ، ولا يجوز بحال من الأحوال إحداث عبادة جديدة أو الإتيان بعبادة مأثورة على غير الوجه الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وجمهور أصحابه رضي الله عنه لا بقياس ولا بدعوى إجماع لمن بعدهم ولا لمصلحة ، ولا لغير ذلك من العلل والنظريات; لأن الله تعالى قد أكمل الدين أصوله وفروعه بكتابه وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونهانا عن السؤال المقتضي لزيادة التكاليف ، وأخبرنا أن ما سكت عنه فهو عفو منه سبحانه ، فمن زاد على ذلك شيئا كان مراغما لنص القرآن أو طاعنا في بيان الرسول صلى الله عليه وسلم أو زاعما أنه أكمل منه علما وعملا بالدين كما قال الإمام مالك لمن أراد الإحرام بالحج من المسجد النبوي وقد تقدم .

                          [ ص: 167 ] وأما الأمور الدنيوية ، من حلال وحرام وسياسة وقضاء وآداب فهي تنقسم بحسب الأدلة إلى ستة أقسام :

                          الأول : ما فيه نص محكم قطعي الرواية والدلالة لغة ، وارد مورد التكليف الشرعي العام فالواجب أن يعمل به ولا مجال للاجتهاد فيه ما لم يعارضه ما هو أرجح منه من النصوص الخاصة بموضوعه أو العامة كنفي الحرج ونفي الضرر والضرار ، وكون الضرورات تبيح المحظورات بنص قوله تعالى : ( إلا ما اضطررتم إليه ) ( 6 : 119 ) وكونها تقدر بقدرها وتزول بزوال مقتضيها .

                          الثاني : ما يدل عليه نص صحيح بعمومه أو تعليله أو مفهومه دلالة واضحة أجمع عليها أهل الصدر الأول أو عمل بها جمهورهم ، وعرف شذوذ من خالف منهم ، فالواجب في هذا عين الواجب فيما قبله بشرطه عند من عرفه .

                          الثالث : ما ورد فيه نص تكليفي غير قطعي الدلالة ، أو حديث غير واه ولا صحيح ، فاختلف فيه الصحابة أو غيرهم من علماء السلف وأئمة الفقه للاختلاف في صحة روايته أو صراحة دلالته . فمثل هذا يعمل فيه كل مكلف باجتهاد نفسه ، ويعذر كل من خالفه فيما ظهر له أنه الحق لا يعيبه ولا ينتقده ، كما اختلف السلف في بعض أحكام الطهارة والنجاسة ، ولم يعب أحدهم مخالفه فيه ، ولم يمتنع من الصلاة معه لا إماما ولا مقتديا ، وكما فهم بعض الصحابة من آية البقرة في الخمر تحريمها وبعضهم عدم تحريمها ، فعمل كل بما ظهر له ولم يعترض على غيره .

                          ومثله ما يستنبطه بعض العلماء من الكتاب والسنة في كل زمان ، فمن ظهر له أن ذلك من الدين وأن كلام الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم دالة عليه عمل به ، ومن لم يظهر له ذلك فلا يكلفه تقليدا لمن استنبطه . وقد نقل عن أشهر المجتهدين من الفقهاء أنه لا يجوز لأحد أن يقلدهم وأن يأخذ بشيء من أقوالهم إلا إذا عرف مأخذه وظهر له صحة دليله ، وعند ذلك يكون متبعا لما أنزل الله لا لآراء الناس ، فلا يكون مخالفا لقوله تعالى : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ) ( 7 : 3 ) .

                          وأما ما يتعلق بالأمور العامة من هذا القسم كالأحكام القضائية والسياسية فينبغي أن ينظر أولو الأمر ويتشاوروا فيه من حيث تصحيح النقل ، ومن حيث طريق الدلالة على الحكم ، فإذا ظهر لهم ما يقتضي إلحاقه بأحد الأقسام السابقة ألحقوه به فكان له حكمه ، وإلا كان كالمسكوت عنه .

                          الرابع : ما ورد فيه نص غير وارد مورد التكليف كالأحاديث المتعلقة بالعادات [ ص: 168 ] من الأكل والشرب والطب ونحو ذلك العام - وهو ما يسميه العلماء إرشادا لا تشريعا - وكذا ما كان من قبيل الفتاوى الشخصية فلم يعمل به الجمهور لعدم الأمر بتبليغه ، فالأولى والأفضل للمسلم أن يعمل بها ما لم يمنع من ذلك مانع من الشرع أو المصلحة والمنفعة العامة أو الخاصة; لأن المبالغة في الاتباع حتى في العادات مما يقوي الأمة ، ويمكن الرابطة والوحدة بين المسلمين ، ولا ينبغي لحكام المسلمين في مثل هذا أن يجبروا أحدا على فعله ولا على تركه ، وإنما يحسن أن يكونوا قدوة صالحة في مثله .

                          الخامس : ما سكت عنه الشارع فلم يرد عنه فيه ما يقتضي فعلا ولا تركا فهو الذي عفا الله تعالى عنه رحمة منه وتخفيفا على عباده . فليس لأحد من عباد الله تعالى أن يكلف عبدا من عبيده تعالى فعل شيء أو ترك شيء بغير إذن منه سبحانه ، وإن ما أمرنا الله تعالى به من طاعة أولي الأمر منا خاص بأمر الدنيا ومصالحها ومشروط فيه ألا يكون في معصية الله تعالى ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان في الصحيحين وأبو داود والنسائي من حديث علي كرم الله وجهه : " لا طاعة لأحد في معصية الله ، إنما الطاعة في المعروف " وأما أمر الدين فقد تم وكمل . وهو تعالى شارع الدين كما قال : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ) ( 42 : 13 ) إلخ . وكما قال : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ) ( 45 : 18 ) والرسول صلى الله عليه وسلم هو مبلغ الدين كما قال تعالى : ( إن عليك إلا البلاغ ) ( 42 : 48 ) ومبينه كما قال : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) ( 16 : 44 ) فليس لأولي الأمر من المسلمين سلطان على أحد في أمر الدين المحض بزيادة على مدلول النصوص ولا نقصان منها ، ومن ادعى ذلك أو ادعي له فقد جعل نفسه أو جعل شريكا لله تعالى أو اتخذ ربا من دونه ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) ( 42 : 21 ) .

                          وقد مر تفصيل القول في كل مسألة من هذه المسائل حتى إن فيما أثبتناه هنا تكرارا وإعادة لبعض ما تقدم " وفي الإعادة إفادة " كما قيل ولا سيما إذا اختلف الأسلوب وتنوع التعبير .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية