الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين

أي : قال موسى لأخيه عند العزم على الصعود إلى الجبل للمناجاة فإنه صعد وحده ومعه غلامه يوشع بن نون .

ومعنى اخلفني كن خلفا عني وخليفة ، وهو الذي يتولى عمل غيره عند فقده فتنتهي تلك الخلافة عند حضور المستخلف ، فالخلافة وكالة ، وفعل خلف مشتق من الخلف بسكون اللام وهو ضد الأمام ؛ لأن الخليفة يقوم بعمل من خلفه عند مغيبه ، والغائب يجعل مكانه وراءه .

وقد جمع له في وصيته ملاك السياسة بقوله وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين فإن سياسة الأمة تدور حول محور الإصلاح ، وهو جعل الشيء صالحا ، فجميع تصرفات الأمة وأحوالها يجب أن تكون صالحة ، وذلك بأن تكون الأعمال عائدة [ ص: 88 ] بالخير والصلاح لفاعلها ولغيره ، فإن عادت بالصلاح عليه وبضده على غيره لم تعتبر صلاحا ، ولا تلبث أن تئول فسادا على من لاحت عنده صلاحا ، ثم إذا تردد فعل بين كونه خيرا من جهة وشرا من جهة أخرى وجب اعتبار أقوى حالتيه فاعتبر بها إن تعذر العدول عنه إلى غيره مما هو أوفر صلاحا ، وإن استوى جهتاه ألغي إن أمكن إلغاؤه وإلا تخير ، وهذا أمر لهارون جامع لما يتعين عليه عمله من أعماله في سياسة الأمة .

وقوله ولا تتبع سبيل المفسدين تحذير من الفساد بأبلغ صيغة لأنها جامعة بين نهي - والنهي عن فعل تنصرف صيغته أول وهلة إلى فساد المنهي عنه - وبين تعليق النهي باتباع سبيل المفسدين .

والإتباع أصله المشي على حلف ماش ، وهو هنا مستعار للمشاركة في عمل المفسد ، فإن الطريق مستعار للعمل المؤدي إلى الفساد والمفسد من كان الفساد صفته ، فلما تعلق النهي بسلوك طريق المفسدين كان تحذيرا من كل ما يستروح منه مآل إلى فساد ؛ لأن المفسدين قد يعملون عملا لا فساد فيه ، فنهي عن المشاركة في عمل من عرف بالفساد ؛ لأن صدوره عن المعروف بالفساد كاف في توقع إفضائه إلى فساد . ففي هذا النهي سد ذريعة الفساد ، وسد ذرائع الفساد من أصول الإسلام ، وقد عني بها مالك بن أنس وكررها في كتابه واشتهرت هذه القاعدة في أصول مذهبه .

فلا جرم أن كان قوله - تعالى - ولا تتبع سبيل المفسدين جامعا للنهي عن ثلاث مراتب من مراتب الإفضاء إلى الفساد وهو العمل المعروف بالانتساب إلى المفسد ، وعمل المفسد وإن لم يكن مما اعتاده ، وتجنب الاقتراب من المفسد ومخالطته .

وقد أجرى الله على لسان رسوله موسى ، أو أعلمه ، ما يقتضي أن في رعية هارون مفسدين ، وأنه يوشك إن سلكوا سبيل الفساد أن يسايرهم عليه لما يعلم في نفس هارون من اللين في سياسته ، وللاحتياط من حدوث العصيان في قومه ، كما حكى الله عنه في قوله إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني وقوله إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل .

[ ص: 89 ] فليست جملة ولا تتبع سبيل المفسدين مجرد تأكيد لمضمون جملة ( وأصلح ) تأكيدا للشيء بنفي ضده مثل قوله أموات غير أحياء لأنها لو كان ذلك هو المقصد منها لجردت من حرف العطف ، ولاقتصر على النهي عن الإفساد فقيل وأصلح لا تفسد ، نعم يحصل من معانيها ما فيه تأكيد لمضمون جملة ( وأصلح ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية