الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 574 ] المجلس الثاني :

          في ذكر الطهارة

          الحمد لله محكم المخلوق ومتقن الصنعة ، ومالك يوم الحشر والجزاء والرجفة ، المقدر ما شاء ، فمن ذا الذي يستطيع دفعه ، أراد فلم ينتفع العبد إن بذل جهده ووسعه ، وعلم إخلاص النية من مقصود السمعة ، وسمع فلم يمنع اختلاف اللغات سمعه ، وأبصر حتى جوف الجوف وجريان الدمعة ، وشرع فشهدت العقول بصحة الشرعة ، ومنع فمن ذا الذي يعطي ما قدر منعه ، صفاته كذاته وما يشبه الصانع صنعه ، الاستواء معلوم والكيف مجهول ، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة .

          أحمده حمدا يدوم ما دامت الأيام السبعة ، وأشهد أنه فالق الحب عن الطلعة ، وأصلي على رسوله محمد المبعوث بأفضل شرعة ، وعلى أبي بكر أول من جمع هذه الربعة ، وعلى عمر فتاح الأمصار فكم قلع قلعة ، وعلى عثمان الصابر على مضيض تلك الصرعة ، وعلى علي الذي مدائحه أنفق من كل سلعة ، وعلى عمه العباس أبي الخلفاء وأكرم بهذا البيت رفعة .

          أخبرنا أبو الحسن الأنصاري بسنده عن يحيى أن زيدا حدثه أن أبا سلام حدثه ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " . انفرد بإخراجه مسلم .

          اعلم أن الطهارة على أربعة أضرب :

          الضرب الأول : تطهير البدن عن نجس أو حدث أو فضلة من البدن . فأما طهارة الأنجاس ففي الصحيحين من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بقبرين فقال : " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير : أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول " .

          [ ص: 575 ] قال الخطابي : معناه أنهما لم يعذبا في أمر كان بكبير عليهما فعله أو يشق .

          وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " استنزهوا من البول ، فإن عامة عذاب القبر منه " .

          وأما طهارة الأحداث ففي التفريط فيها وعيد شديد . ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو ، قال : تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا قال فنادى بأعلى صوته ، مرتين أو ثلاثا : " ويل للأعقاب من النار " .

          وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله عز وجل أمر بعبد من عباده أن يضرب في قبره مائة جلدة ، فلم يزل يسأل ويسأل حتى صارت جلدة واحدة ، فامتلأ قبره عليه نارا ، فلما أفاق قال : لم جلدتموني ؟ قالوا : إنك صليت صلاة بغير طهور ، ومررت على مظلوم فلم تنصره " .

          وقد مدح إسباغ الوضوء ، أخبرنا هبة الله بن محمد بسنده ، عن جامع بن شداد قال : سمعت عمران بن أبان يحدث ، عن عثمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أتم الوضوء كما أمره الله عز وجل فالصلوات المكتوبات كفارة لما بينهن " .

          وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء أو نحو هذا ، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب " . انفرد بإخراج الحديثين مسلم .

          وأما غسل الجنابة فروى أبو داود من حديث علي عليه السلام أنه قال : من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا من النار قال عليه السلام : فمن ثم عاديت رأسي . وكان يجز رأسه .

          وأما الفضلات فنوعان : أوساخ تعتري البراجم والأسنان . قال مجاهد : أبطأ الملك [ ص: 576 ] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أتاه فقال لعلي أبطأت ؟ قال : قد فعلت ، قال : وما لي لا أفعل وأنتم لا تتسوكون ، ولا تقصون أظفاركم ، ولا تنقون براجمكم !

          قال ابن الأنباري : البراجم : الفصوص التي في فصول ظهور الأصابع تبدو إذا جمعت وتغمض إذا بسطت ، والرواجب : ما بين البراجم ، بين كل برجمتين راجبة .

          أخبرنا عبد الأول بسنده عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لولا أن أشق على أمتي ، أو على الناس ، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " . أخرجاه في الصحيحين .

          وأخرجا من حديث حذيفة قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشوص فاه بالسواك " .

          قال أبو عبيد : الشوص والموص : الغسل . وقال ابن الأعرابي : الشوص : الدلك والموص : الغسل .

          أخبرنا علي بن عبد الله ، وأحمد بن الحسين ، وعبد الرحمن بن محمد بسندهم ، عن معاوية بن يحيى ، عن الزهري ، عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تفضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعين ضعفا ، ويفضل الذكر الخفي على غيره من الذكر بسبعين ضعفا " .

          وأما الأجزاء : فقص الشارب ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وتقليم الأظافر .

          والضرب الثاني : تطهير الجوارح عن الآثام . قال الله عز وجل : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا .

          [ ص: 577 ] واعلم أن الجوارح كالسواقي توصل إلى القلب الصافي والكدر ، فمن كفها عن الشر جلت معدة القلب بما فيها من الأخلاط فأذابتها وكفى بذلك حمية ، فإذا جاء الدواء صادف محلا قابلا .

          ومن أطلقها في الذنوب أوصلت إلى القلب وسخ الخطايا وظلم المعاصي ، فلو وضع الدواء كان بينه وبين القلب حجاب ، فلا تكاد الجوارح تسلم من الخطايا إلا بالعزلة ، فمن أمكنه فما أحسنه ، ومن لم يمكنه تحفظ في مخالطته للخلق تحفظ المجاهد في الحرب .

          والضرب الثالث : تطهير القلب عن الأخلاق المذمومة من الحرص ، والحقد ، والحسد ، والكبر وغير ذلك ، ولا يمكن معالجته من أدوائه بدوائه حتى تقع الحمية التي وصفناها في كف الجوارح ، ثم يعالج كل داء بدوائه . وكم من متعبد يبالغ في كثرة الصلاة والصوم ولا يعاني صلاح القلب ، وقد يكون عنده الكبر ، والرياء ، والنفاق ، والجهل بالعلم ولا يحس بذلك ، وقد يكون تطلعه إلى تقبيل يده وإجابة دعائه ، وهذه آفات لا دواء لها إلا الرياضة بالعلم ليقع التهذيب بإصلاح دائه ، وإنما تنفع العبادة وتظهر آثارها وتبين لذاتها مع إصلاح أمراض القلب .

          أخبرنا أبو بكر بن حبيب بسنده عن عبد الرحيم بن يحيى الديلي ، قال : حدثني عثمان بن عمارة ، فقال : وردت الحجرة مرة فإذا أنا بمحمد بن ثوبان ، وإبراهيم بن أدهم ، وعباد المقرئ وهم يتكلمون بكلام لا أعقله ، فقلت لهم : يرحمكم الله ، إني شاب كما ترون أصوم النهار وأقوم الليل وأحج سنة وأغزو سنة ، ما أرى في نفسي زيادة . فشغل القوم عني حتى ظننت أنهم لم يفهموا كلامي ، ثم حان من واحد منهم التفاتة ، فقال : يا غلام إن هم القوم لم يكن في كثرة الصلاة والصيام إنما كان هم القوم في نفاذ الأبصار حتى أبصروا .

          الضرب الرابع : تطهير السر عما سوى الله عز وجل . وهذه المرتبة العليا ، ولم تحصل إلا لمن تجلت له أوصاف الحبيب فدخل في دائرة المحبة .

          أخبرنا عمر بن ظفر بسنده عن سعيد بن عبد العزيز قال : أخبرنا أحمد بن أبي الحواري ، قال : سأل محمود أبا سليمان وأنا حاضر : ما أقرب ما يتقرب به إلى الله عز وجل ، فبكى أبو سليمان ثم قال : مثلي يسأل عن هذا ! أقرب ما يتقرب به إليه أن يطلع على قلبك ، وأنت لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو .

          قال ابن جهضم : وحدثنا عبد الجبار بن بشران ، قال : سمعت سهلا يقول : من نظر إلى الله عز وجل قريبا منه بعد عن قلبه كل شيء سوى الله عز وجل ، ومن طلب مرضاته أرضاه الله عز وجل ، ومن أسلم قلبه إليه تولى الله جوارحه .

          [ ص: 578 ] قال ابن جهضم : وحدثني أحمد بن علي ، قال : حدثني عباس بن عبد الله الهاشمي ، قال : سمعت سهل بن عبد الله يقول : ما من ساعة إلا والله مطلع على قلوب العباد ، فأي قلب رأى فيه غيره سلط عليه إبليس .

          قال ابن جهضم : وحدثني عمر بن يحيى قال : سئل الشبلي عن قوله عز وجل قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم فقال : أبصار الرؤوس عما حرم الله ، وأبصار القلوب عما سوى الله عز وجل .

          أخبرنا أبو بكر بن حبيب بسنده ، عن علي بن عبد العزيز قال : سمعت أحمد بن أبي الحواري ، يقول : بات أبو سليمان ذات ليلة فلما انتصف الليل قام ليتوضأ فلما أدخل يده في الإناء بقي على حاله حتى انفجر الصبح ، وكان وقت الإقامة فخشيت أن تفوت صلاته ، فقلت : الصلاة يرحمك الله فقال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : يا أحمد أدخلت يدي في الإناء فعارضني عارض من سري : هب أنك غسلت بالماء ما ظهر منك ، فبماذا تغسل قلبك ؟ فبقيت متفكرا حتى قلت : بالهموم والأحزان فيما يفوتني من الأنس بالله عز وجل .

          يا هذا إذا توضأت بغير نية قيل للماء : ابذل له البلل لا الطهارة ، فإذا نويت قيل له طهارة الظاهر ، فإذا صفا قلبك فقد حصلت طهارتك حقيقة !

          التالي السابق


          الخدمات العلمية