فصل [ منزلة الإشفاق ]
القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر ، فالمحبة رأسه ،
nindex.php?page=treesubj&link=29486والخوف والرجاء جناحاه ، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران ، ومتى قطع الرأس مات الطائر ، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر ، ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء ، وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف ، هذه طريقة
أبي سليمان وغيره ، قال : ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف ، فإن غلب عليه الرجاء فسد .
وقال غيره : أكمل الأحوال : اعتدال الرجاء والخوف ، وغلبة الحب ، فالمحبة هي المركب . والرجاء حاد ، والخوف سائق ، والله الموصل بمنه وكرمه .
فصل .
منزلة الإشفاق
nindex.php?page=treesubj&link=29411_28972ومن منازل nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإشفاق
قال الله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=49الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون وقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=25وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=26قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=27فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم .
[ ص: 514 ] الإشفاق رقة الخوف ، وهو خوف برحمة من الخائف لمن يخاف عليه ، فنسبته إلى الخوف نسبة الرأفة إلى الرحمة ، فإنها ألطف الرحمة وأرقها ، ولهذا قال صاحب المنازل :
الإشفاق : دوام الحذر ، مقرونا بالترحم ، وهو على ثلاث درجات ، الأولى : إشفاق على النفس أن تجمح إلى العناد .
أي تسرع وتذهب إلى طريق الهوى والعصيان ، ومعاندة العبودية .
وإشفاق على العمل : أن يصير إلى الضياع .
أي يخاف على عمله أن يكون من الأعمال التي قال الله فيها
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=23وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وهي الأعمال التي كانت لغير الله ، وعلى غير أمره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويخاف أيضا أن يضيع عمله في المستقبل ، إما بتركه ، وإما بمعاصي تفرقه وتحبطه ، فيذهب ضائعا ، ويكون حال صاحبه كالحال التي قال الله تعالى عن أصحابها
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=266أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات الآية قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه للصحابة رضي الله عنهم : فيمن ترون هذه الآية نزلت ؟ فقالوا : الله أعلم ، فغضب
عمر ، وقال : قولوا : نعلم ، أو لا نعلم ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، قال : يا ابن أخي قل ، ولا تحقرن نفسك ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : ضربت مثلا لعمل ، قال
عمر : أي عمل ؟ قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : لعمل ، قال
عمر : لرجل غني يعمل بطاعة الله ، فبعث الله إليه الشيطان ، فعمل بالمعاصي حتى أغرق جميع أعماله .
قال : وإشفاق على الخليقة لمعرفة معاذيرها .
هذا قد يوهم نوع تناقض ، فإنه كيف يشفق مع معرفة العذر ؟ وليس بمتناقض ، فإن الإشفاق كما تقدم خوف مقرون برحمة ، فيشفق عليهم من جهة مخالفة الأمر والنهي ، مع نوع رحمة ، بملاحظة جريان القدر عليهم .
قال : الدرجة الثانية : إشفاق على الوقت أن يشوبه تفرق .
[ ص: 515 ] أي يحذر على وقته أن يخالطه ما يفرقه عن الحضور مع الله عز وجل .
قال : وعلى القلب أن يزاحمه عارض .
والعارض المزاحم إما فترة ، وإما شبهة ، وإما شهوة ، وكل سبب يعوق السالك .
قال : وعلى اليقين أن يداخله سبب
هو الطمأنينة إلى من بيده الأسباب كلها ، فمتى داخل يقينه ركون إلى سبب وتعلق به ، واطمأن إليه قدح ذلك في يقينه ، وليس المراد قطع الأسباب عن أن تكون أسبابا ، والإعراض عنها فإن هذا زندقة وكفر ومحال ، فإن الرسول سبب في حصول الهداية والإيمان ، والأعمال الصالحة سبب لحصول النجاة ودخول الجنة ، والكفر سبب لدخول النار ، والأسباب المشاهدة أسباب لمسبباتها ولكن الذي يريد أن يحذر منه إضافة يقينه إلى سبب غير الله ، ولا يتعلق بالأسباب بل يفنى بالمسبب عنها .
والشيخ ممن يبالغ في إنكار الأسباب ، لا يرى وراء الفناء في توحيد الربوبية غاية ، وكلامه في الدرجة الثالثة في معظم الأبواب يرجع إلى هذين الأصلين ، وقد عرفت ما فيهما ، وأن الصواب خلافهما ، وهو إثبات الأسباب والقوى ، وأن الفناء في توحيد الربوبية ليس هو غاية الطريق ، بل فوقه ما هو أجل منه وأعلى وأشرف .
ومن هاتين القاعدتين عرض في كتابه من الأمور التي أنكرت عليه ما عرض .
قال : الدرجة الثالثة : إشفاق يصون سعيه عن العجب ، ويكف صاحبه عن مخاصمة الخلق ، ويحمل المريد على حفظ الجد .
الأول يتعلق بالعمل ، والثاني بالخلق ، والثالث بالإرادة ، وكل منها له ما يفسده .
فالعجب : يفسد العمل كما يفسده الرياء ، فيشفق على سعيه من هذا المفسد شفقة تصونه عنه .
والمخاصمة للخلق مفسدة للخلق ، فيشفق على خلقه من هذا المفسد شفقة تصونه عنه .
والإرادة يفسدها عدم الجد ، وهو الهزل واللعب ، فيشفق على إرادته مما يفسدها .
[ ص: 516 ] فإذا صح له عمله وخلقه وإرادته استقام سلوكه وقلبه وحاله ، والله المستعان .
فَصْلٌ [ مَنْزِلَةُ الْإِشْفَاقِ ]
الْقَلْبُ فِي سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِرِ ، فَالْمَحَبَّةُ رَأْسُهُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=29486وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ جَنَاحَاهُ ، فَمَتَى سَلِمَ الرَّأْسُ وَالْجَنَاحَانِ فَالطَّائِرُ جَيِّدُ الطَّيَرَانِ ، وَمَتَى قُطِعَ الرَّأْسُ مَاتَ الطَّائِرُ ، وَمَتَى فُقِدَ الْجَنَاحَانِ فَهُوَ عُرْضَةٌ لِكُلِّ صَائِدٍ وَكَاسِرٍ ، وَلَكِنَّ السَّلَفَ اسْتَحَبُّوا أَنْ يَقْوَى فِي الصِّحَّةِ جَنَاحُ الْخَوْفِ عَلَى جَنَاحِ الرَّجَاءِ ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا يَقْوَى جَنَاحُ الرَّجَاءِ عَلَى جَنَاحِ الْخَوْفِ ، هَذِهِ طَرِيقَةُ
أَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِ ، قَالَ : يَنْبَغِي لِلْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْخَوْفَ ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ فَسَدَ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ : اعْتِدَالُ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ ، وَغَلَبَةُ الْحُبِّ ، فَالْمَحَبَّةُ هِيَ الْمَرْكَبُ . وَالرَّجَاءُ حَادٍ ، وَالْخَوْفُ سَائِقٌ ، وَاللَّهُ الْمُوَصِّلُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .
فَصْلٌ .
مَنْزِلَةُ الْإِشْفَاقِ
nindex.php?page=treesubj&link=29411_28972وَمِنْ مَنَازِلِ nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مَنْزِلَةُ الْإِشْفَاقِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=49الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ وَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=25وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=26قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=27فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ .
[ ص: 514 ] الْإِشْفَاقُ رِقَّةُ الْخَوْفِ ، وَهُوَ خَوْفٌ بِرَحْمَةٍ مِنَ الْخَائِفِ لِمَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ ، فَنِسْبَتُهُ إِلَى الْخَوْفِ نِسْبَةُ الرَّأْفَةِ إِلَى الرَّحْمَةِ ، فَإِنَّهَا أَلْطَفُ الرَّحْمَةِ وَأَرَقُّهَا ، وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ :
الْإِشْفَاقُ : دَوَامُ الْحَذَرِ ، مَقْرُونًا بِالتَّرَحُّمِ ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ ، الْأُولَى : إِشْفَاقٌ عَلَى النَّفْسِ أَنْ تَجْمَحَ إِلَى الْعِنَادِ .
أَيْ تُسْرِعَ وَتَذْهَبَ إِلَى طَرِيقِ الْهَوَى وَالْعِصْيَانِ ، وَمُعَانَدَةِ الْعُبُودِيَّةِ .
وَإِشْفَاقٌ عَلَى الْعَمَلِ : أَنْ يَصِيرَ إِلَى الضَّيَاعِ .
أَيْ يَخَافُ عَلَى عَمَلِهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=23وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا وَهِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَعَلَى غَيْرِ أَمْرِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَخَافُ أَيْضًا أَنْ يَضِيعَ عَمَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، إِمَّا بِتَرْكِهِ ، وَإِمَّا بِمَعَاصِي تُفَرِّقُهُ وَتُحْبِطُهُ ، فَيَذْهَبُ ضَائِعًا ، وَيَكُونُ حَالُ صَاحِبِهِ كَالْحَالِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِهَا
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=266أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ الْآيَةَ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : فِيمَنْ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ ؟ فَقَالُوا : اللَّهُ أَعْلَمُ ، فَغَضِبَ
عُمَرُ ، وَقَالَ : قُولُوا : نَعْلَمُ ، أَوْ لَا نَعْلَمُ ، فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ : يَا ابْنَ أَخِي قُلْ ، وَلَا تَحْقِرَنَّ نَفْسَكَ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ ، قَالَ
عُمَرُ : أَيُّ عَمَلٍ ؟ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : لِعَمَلٍ ، قَالَ
عُمَرُ : لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ الشَّيْطَانَ ، فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ .
قَالَ : وَإِشْفَاقٌ عَلَى الْخَلِيقَةِ لِمَعْرِفَةِ مَعَاذِيرِهَا .
هَذَا قَدْ يُوهِمُ نَوْعَ تَنَاقُضٍ ، فَإِنَّهُ كَيْفَ يُشْفِقُ مَعَ مَعْرِفَةِ الْعُذْرِ ؟ وَلَيْسَ بِمُتَنَاقِضٍ ، فَإِنَّ الْإِشْفَاقَ كَمَا تَقَدَّمَ خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِرَحْمَةٍ ، فَيُشْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، مَعَ نَوْعِ رَحْمَةٍ ، بِمُلَاحَظَةِ جَرَيَانِ الْقَدَرِ عَلَيْهِمْ .
قَالَ : الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ : إِشْفَاقٌ عَلَى الْوَقْتِ أَنْ يَشُوبَهُ تَفَرُّقٌ .
[ ص: 515 ] أَيْ يَحْذَرُ عَلَى وَقْتِهِ أَنْ يُخَالِطَهُ مَا يُفَرِّقُهُ عَنِ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
قَالَ : وَعَلَى الْقَلْبِ أَنْ يُزَاحِمَهُ عَارِضٌ .
وَالْعَارِضُ الْمُزَاحِمُ إِمَّا فَتْرَةٌ ، وَإِمَّا شُبْهَةٌ ، وَإِمَّا شَهْوَةٌ ، وَكُلُّ سَبَبٍ يَعُوقُ السَّالِكَ .
قَالَ : وَعَلَى الْيَقِينِ أَنْ يُدَاخِلَهُ سَبَبٌ
هُوَ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ الْأَسْبَابُ كُلُّهَا ، فَمَتَى دَاخَلَ يَقِينَهُ رُكُونٌ إِلَى سَبَبٍ وَتَعَلُّقٌ بِهِ ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ قَدَحَ ذَلِكَ فِي يَقِينِهِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ قَطْعَ الْأَسْبَابِ عَنْ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا فَإِنَّ هَذَا زَنْدَقَةٌ وَكُفْرٌ وَمُحَالٌ ، فَإِنَّ الرَّسُولَ سَبَبٌ فِي حُصُولِ الْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ ، وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ النَّجَاةِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ ، وَالْكُفْرَ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ ، وَالْأَسْبَابَ الْمُشَاهَدَةَ أَسْبَابٌ لِمُسَبَّبَاتِهَا وَلَكِنَّ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَحَذَرَ مِنْهُ إِضَافَةَ يَقِينِهِ إِلَى سَبَبٍ غَيْرِ اللَّهِ ، وَلَا يَتَعَلَّقَ بِالْأَسْبَابِ بَلْ يَفْنَى بِالْمُسَبَّبِ عَنْهَا .
وَالشَّيْخُ مِمَّنْ يُبَالِغُ فِي إِنْكَارِ الْأَسْبَابِ ، لَا يَرَى وَرَاءَ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ غَايَةً ، وَكَلَامُهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ فِي مُعْظَمِ الْأَبْوَابِ يَرْجِعُ إِلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِمَا ، وَأَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُهُمَا ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْأَسْبَابِ وَالْقُوَى ، وَأَنَّ الْفَنَاءَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَيْسَ هُوَ غَايَةَ الطَّرِيقِ ، بَلْ فَوْقَهُ مَا هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ وَأَعْلَى وَأَشْرَفُ .
وَمِنْ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ عَرَضَ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ مَا عَرَضَ .
قَالَ : الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ : إِشْفَاقٌ يَصُونُ سَعْيَهُ عَنِ الْعُجْبِ ، وَيَكُفُّ صَاحِبَهُ عَنْ مُخَاصَمَةِ الْخَلْقِ ، وَيَحْمِلُ الْمُرِيدَ عَلَى حِفْظِ الْجِدِّ .
الْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ ، وَالثَّانِي بِالْخُلُقِ ، وَالثَّالِثُ بِالْإِرَادَةِ ، وَكُلٌّ مِنْهَا لَهُ مَا يُفْسِدُهُ .
فَالْعُجْبُ : يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُهُ الرِّيَاءُ ، فَيُشْفِقُ عَلَى سَعْيِهِ مِنْ هَذَا الْمُفْسِدِ شَفَقَةً تَصُونُهُ عَنْهُ .
وَالْمُخَاصَمَةُ لِلْخَلْقِ مُفْسِدَةٌ لِلْخُلُقِ ، فَيُشْفِقُ عَلَى خُلُقِهِ مِنْ هَذَا الْمُفْسِدِ شَفَقَةً تَصُونُهُ عَنْهُ .
وَالْإِرَادَةُ يُفْسِدُهَا عَدَمُ الْجِدِّ ، وَهُوَ الْهَزْلُ وَاللَّعِبُ ، فَيُشْفِقُ عَلَى إِرَادَتِهِ مِمَّا يُفْسِدُهَا .
[ ص: 516 ] فَإِذَا صَحَّ لَهُ عَمَلُهُ وَخُلُقُهُ وَإِرَادَتُهُ اسْتَقَامَ سُلُوكُهُ وَقَلْبُهُ وَحَالُهُ ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .