الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قال : الدرجة الثالثة : دهشة المحب عند صولة الاتصال على لطف العطية ، وصولة نور القرب على نور العطف ، وصولة شوق العيان على شوق الخبر .

الاتصال عنده على ثلاثة مراتب : اتصال الاعتصام ، واتصال الشهود ، واتصال الوجود ، كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله . وبيان ما فيه من حق وباطل ، يجل عنه جناب الحق تعالى .

[ ص: 78 ] و " العطية " هاهنا : هي الواردات التي ترد في لطف وخفاء على قلب العبد من قبل الحق تعالى . وهي ألطاف يعامل المحبوب بها محبه ، وتوجب قربا خالصا هو المسمى بالاتصال . فيصول ذلك القرب على لطف العطية . فيغيب العبد عنها وعن شهودها . وينسيه إياها . لما أوجبه له ذلك القرب من الدهش .

وقد يكون سبب ذلك : تواتر أنواع العطايا عليه ، حتى يدهشه كثرتها وتنوعها . فتوجب له كثرتها دهشة ، تمنعه من مطالعتها ، مع انضمام ذلك إلى صولة القرب . وهي واردات وأنوار يتصل بعضها ببعض . تمحو ظلم نفسه ورسمه .

وأما صولة نور القرب على نور العطف فهو قريب من هذا . أو هو بعينه وإنما كرر المعنى بلفظ آخر . فإن لطف العطية كله نور عطف ، والاتصال هو القرب نفسه . تعالى الله عن غير ذلك من اتصال يتوهمه ملاحدة الطريق وزنادقتهم .

وأما صولة شوق العيان على شوق الخبر .

فمراده بها : أن المريد في أول الأمر سالك على شوق الخبر في مقام الإيمان . فإذا ترقى عنه إلى مقام الإحسان ، وتمكن منه : بقي شوقه بشوق العيان . فصال هذا الشوق على الشوق الأول . فإن كان هذا مراده ، وإلا فالعيان في الدنيا لا سبيل للبشر إليه ألبتة .

ومن زعم خلاف ذلك فأحسن أحواله : أن يكون ملبوسا عليه وليس فوق الإحسان للصديقين مرتبة إلا بقاؤهم فيه . فإن سمي ذلك عيانا فالتسمية الشرعية المخلصة التي لا لبس فيها أولى وأحرى .

وأكثر آفات الناس من الألفاظ . ولا سيما في هذه المواضع التي يعز فيها تصور الحق على ما هو عليه ، والتعبير المطابق ، فيتولد من ضعف التصور ، وقصور التعبير : نوع تخبيط . ويتزايد على ألسنة السامعين له وقلوبهم ، بحسب قصورهم ، وبعدهم من العلم . فتفاقم الخطب ، وعظم الأمر . والتبس طريق أولياء الله الصادقين بطرائق الزنادقة الملحدين . وعز المفرق بينهما . فدخل على الدين من الفساد من ذلك ما لا يعلمه إلا الله . وأشير إلى أعظم الخلق كفرا بالله عز وجل وإلحادا في دينه : بأنه من شيوخ التحقيق والمعرفة والسلوك .

ولولا ضمان الله بحفظ دينه ، وتكفله بأن يقيم له من يجدد أعلامه ، ويحيي منه ما أماته المبطلون . وينعش ما أخمله الجاهلون : لهدمت أركانه ، وتداعى بنيانه ، ولكن الله ذو فضل على العالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية