الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : " الدرجة الثانية : معرفة الذات ، مع إسقاط التفريق بين الصفات والذات ، وهي تثبت بعلم الجمع ، وتصفو في ميدان الفناء ، وتستكمل بعلم البقاء ، وتشارف عين الجمع " .

نشرح كلامه ومراده أولا ، ثم نبين ما له وعليه فيه .

فكانت هذه الدرجة عنده أرفع مما قبلها ؛ لأن التي قبلها نظر في الصفات ، وهذه متعلقة بالذات بالجامعة للصفات ، وإن كانت الذات لا تخلو عن الصفات ، فهي قائمة بها ، ولا نقول : إن صفاتها عينها ولا غيرها ، لما في لفظ الغير من الإجمال والاشتباه ، فإن الغيرين قد يراد بهما ما جاز افتراقهما ذاتا أو زمانا ، أو مكانا ، وعلى هذا : فليست الصفات مغايرة للذات ، وقد يراد بالغيرين : ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر ، فيفترقان في الوجود الذهني ، لا في الوجود الخارجي ، فالصفات غير الذات بهذا الاعتبار ؛ لأنه قد يقع الشعور بالذات حال ما يغفل عن صفاتها ، فتتجرد عن صفاتها في شعور العبد ، لا في نفس الأمر .

[ ص: 337 ] وقوله " مع إسقاط التفريق بين الصفات والذات " التفريق بين الصفات والذات في الوجود مستحيل ، وهو ممكن في الشهود بأن يشهد الصفة ويذهل عن شهود الموصوف ، أو يشهد الموصوف ويذهل عن شهود الصفة ، فتجريد الذات أو الصفات إنما يمكن في الذهن ، فالمعرفة في هذه الدرجة تعلقت بالذات والصفات جميعا ، فلم يفرق العلم والشهود بينهما ، ولا ريب أن ذلك أكمل من شهود مجرد الصفة ، أو مجرد الذات .

ولا يريد الشيخ أنك تسقط التفريق بين الذات والصفات في الخارج والعلم .

بحيث تكون الصفات هي نفس الذات ، فهذا لا يقوله الشيخ ، وإن كان كثير من أرباب الكلام يقولون : إن الصفات هي الذات ، فليس مرادهم أن الذات نفسها صفة ، فهذا لا يقوله عاقل ، وإنما مرادهم أن صفاتها ليست شيئا غيرها .

فإن أراد هؤلاء أن مفهوم الصفة هو مفهوم الذات : فهذا مكابرة ، وإن أرادوا أنه ليس هاهنا أشياء غير الذات انضمت إليها وقامت بها فهذا حق .

والتحقيق : أن صفات الرب - جل جلاله - داخلة في مسمى اسمه ، فليس اسمه الله ، والرب ، والإله أسماء لذات مجردة ، لا صفة لها البتة ، فإن هذه الذات المجردة وجودها مستحيل ، وإنما يفرضها الذهن فرض الممتنعات ، ثم يحكم عليها ، واسم " الله " سبحانه ، " والرب ، والإله " - اسم لذات لها جميع صفات الكمال ونعوت الجلال ، كالعلم ، والقدرة ، والحياة ، والإرادة ، والكلام ، والسمع ، والبصر ، والبقاء ، والقدم ، وسائر الكمال الذي يستحقه الله لذاته ، فصفاته داخلة في مسمى اسمه ، فتجريد الصفات عن الذات ، والذات عن الصفات فرض وخيال ذهني لا حقيقة له ، وهو أمر اعتباري لا فائدة فيه ، ولا يترتب عليه معرفة ، ولا إيمان ، ولا هو علم في نفسه ، وبهذا أجاب السلف الجهمية لما استدلوا على خلق القرآن ، بقوله تعالى الله خالق كل شيء قالوا : والقرآن شيء .

فأجابهم السلف بأن القرآن كلامه ، وكلامه من صفاته ، وصفاته داخلة في مسمى اسمه - كعلمه وقدرته وحياته ، وسمعه وبصره ، ووجهه ويديه - فليس الله اسما لذات لا نعت لها ، ولا صفة ، ولا فعل ، ولا وجه ، ولا يدين ، ذلك إله معدوم مفروض في الأذهان ، لا وجود له في الأعيان ، كإله الجهمية ، الذي فرضوه غير خارج عن العالم ولا داخل فيه ، ولا متصل به ولا منفصل عنه ، ولا محايث له ولا مباين ، وكإله الفلاسفة [ ص: 338 ] الذي فرضوه وجودا مطلقا لا يتخصص بصفة ولا نعت ، ولا له مشيئة ولا قدرة ، ولا إرادة ولا كلام ، وكإله الاتحادية الذي فرضوه وجودا ساريا في الموجودات ظاهرا فيها ، هو عين وجودها ، وكإله النصارى الذي فرضوه قد اتخذ صاحبة وولدا ، وتدرع بناسوت ولده ، واتخذ منه حجابا ، فكل هذه الآلهة مما عملته أيدي أفكارها ، وإله العالمين الحق : هو الذي دعت إليه الرسل وعرفوه بأسمائه وصفاته وأفعاله فوق سماواته على عرشه ، بائن من خلقه ، موصوف بكل كمال ، منزه عن كل نقص ، لا مثال له ، ولا شريك ، ولا ظهير ، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم غني بذاته عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فقير إليه بذاته .

قوله " وهي تثبت بعلم الجمع ، وتصفو في ميدان الفناء " يعني : أن هذه المعرفة الخاصة تثبت بعلم الجمع ، ولم يقل بحال الجمع ، ولا بعينه ، ولا مقامه فإن علمه أولا : هو سبب ثبوتها ، فإن هذه المعرفة لا تنال إلا بالعلم ، فهو شرط فيها ، وسيأتي الكلام - إن شاء الله تعالى - في الجمع عن قريب .

فإذا علم العبد انفراد الرب سبحانه بالأزل والبقاء والفعل ، وعجز من سواه عن القدرة على إيجاد ذرة أو جزء من ذرة ، وأنه لا وجود له من نفسه ، فوجوده ليس له ، ولا به ولا منه ، وتوالى هذا العلم عن القلب يسقط ذكر غيره سبحانه عن البال والذكر ، كما سقط غناه وربوبيته وملكه وقدرته ، فصار الرب سبحانه وحده هو المعبود والمشهود والمذكور ، كما كان وحده هو الخالق المالك ، الغني الموجود بنفسه أزلا وأبدا ، وأما ما سواه فوجوده - وتوابع وجوده - عارية ليست له ، وكلما فني العبد عن ذكر غيره وشهوده صفت هذه المعرفة في قلبه ، فلهذا قال : " وتصفو في ميدان الفناء " استعار الشيخ للفناء ميدانا وأضافه إليه لاتساع مجاله ؛ لأن صاحبه قد انقطع التفاته إلى ضيق الأغيار ، وانجذبت روحه وقلبه إلى الواحد القهار ، فهي تجول في ميدان أوسع من السماوات والأرض ، بعد أن كانت مسجونة في سجون المخلوقات ، فإذا استمر له عكوف قلبه على الحق سبحانه ، ونظر قلبه إليه كأنه يراه ، ورؤية تفرده بالخلق والأمر ، والنفع والضر ، والعطاء والمنع - كملت وتمت في هذه الدرجة معرفته ، واستكملت بهذا البقاء الذي أوصله إليه الفناء ، وشارفت عين الجمع بعد علمه ، فغاب العارف عن معرفته بمعروفه ، وعن ذكره بمذكوره ، وعن محبته وإرادته بمراده ومحبوبه ، فلذلك قال : [ ص: 339 ] " وتستكمل بعلم البقاء ، وتشارف عين الجمع " .

ولهذه المعرفة ثلاثة أركان ، أشار إليها الشيخ بقوله : إرسال الصفات على الشواهد ، وإرسال الوسائط على المدارج ، وإرسال العبارات على المعالم .

شواهد الصفات هي التي تشهد بها ، وتدل عليها من الكتاب والسنة ، وشهادة العقل والفكرة وآثار الصنعة ، فإذا تمكن العبد في التوحيد علم أن الحق سبحانه هو الذي علمه صفات نفسه بنفسه ، لم يعرفها العبد من ذاته ، ولا بغير تعريف الحق له ، بما أجراه له سبحانه على قلبه من معرفة تلك الشواهد ، والانتقال منها إلى المشهود المدلول عليه ، فهو سبحانه الذي شهد لنفسه في الحقيقة ، إذ تلك الشواهد مصدرها منه ، فشهد لنفسه بنفسه ، بما قاله وفعله وجعله شاهدا لمعرفته ، فهو الأول والآخر ، والعبد آلة محضة ، ومنفعل ومحل لجريان الشواهد ، وآثارها وأحكامها عليه ، ليس له من الأمر شيء ، فهذا معنى إرسال الصفات على الشواهد فإذا أرسلها عليها تبين له أن الحكم للصفات دون الشواهد ، بل الشواهد هي آثار الصفات ، فهذا وجه .

ووجه ثان ، أيضا وهو : أن الشواهد بوارق وتجليات تبدو للشاهد ، فإذا أرسل الصفات على تلك الشواهد توارى حكم تلك البوارق والتجليات في الصفات ، وكان الحكم للصفات ، فحينئذ يترقى العبد إلى شهود الذات شهودا علميا عرفانيا كما تقدم .

قوله " وإرسال الوسائط على المدارج " " الوسائط " : هي الأسباب المتوسطة بين الرب والعبد التي بها تظهر المعرفة وتوابعها ، " والمدارج " : هي المنازل والمقامات التي يترقى العبد فيها إلى المقصود ، وقد تكون المدارج الطرق التي يسلكها إليه ويدرج فيها ، فإرسال الوسائط التي من الرب على المدارج التي هي منازل السير وطرقه توجب كون الحكم لها دون المدارج ، فيغيب عن شهود المدارج بالوسائط ، وقد غاب عن شهود الوسائط بالصفات ، فيترقى حينئذ إلى شهود الذات .

وحقيقة الأمر : أن يعلم أن الرب سبحانه ما أطلعه على معرفته إلا بشواهد منه سبحانه ، وبوسائط ليست من العبد ، فهو قادر على قبض تلك الشواهد والوسائط ، وعلى إجرائها على غيره ، فإن الأمر كله له ، وتلك الوسائط لا توجب بنفسها شيئا ، قال الله تعالى لرسوله : ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك [ ص: 340 ] وقال للأمة على لسانه قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به وقال تعالى : قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ويعلم العبد أن ما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله من شواهد معرفته ، والإيمان به : هي معالم يهتدي بها عباده إليه ، ويعرفون بها كماله وجلاله وعظمته ، فإذا تيقنوا صدقه ولم يشكوا فيه ، وتفطنوا لآثار أسمائه وصفاته في أنفسهم وفي سواهم ؛ انضم شاهد العقل والفطرة إلى شاهد الوحي والشرع ، فانتقلوا حينئذ من الخبر إلى العيان ، فالعبارات معالم على الحقائق المطلوبة ، والمعالم هي الأمارات التي يعلم بها المطلوب ، فإذا أوصل العارف كل معنى مما تقدم ذكره على مقصوده ، وصرف همته إلى مجريه وناصبه ومصدره ؛ اجتمع همه عليه ، وتمكن في معرفة الذات التي لها صفات الكمال ، ونعوت الجلال .

ومقصوده : أن يبين في هذه الأركان الثلاثة حال صاحب معرفة الذات ، وكيف تترتب الأشياء في نظره ، ويترقى فيها إلى المقصود ؟

مثال ذلك : أن الشواهد أرسلته إلى الصفات بإرسالها عليها ، فانتقل من مشاهدتها إلى مشاهدة الصفات ، والوسائط التي كان يراها آية على المدارج ، انتقل فانتقل منها إلى المدارج ولم يلقها ، وإنما تعلق بما هي آية له ، والعبارات التي كانت عنده ألفاظا خارجة عن المعبر عنه صارت أمارات توصله إلى الحقيقة المعبر عنها ، فبهذه الأركان الثلاثة يصير بها من أهل معرفة الذات عنده .

قوله " وهذه معرفة الخاصة التي تؤنس من أفق الحقيقة " أي تدرك وتحس من ناحية الحقيقة ، و " الإيناس " الإدراك والإحساس ، قال الله تعالى : فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم وقال موسى : إني آنست نارا والمقصود : أن العارف إذا علق همه بأفق الحقيقة ، وأعرض عن الأسباب والوسائط - لا إعراض جحود وإنكار ، بل إعراض اشتغال ، ونظر إلى عين المقصود - أوصله ذلك إلى معرفة الذات الجامعة لصفات الكمال ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية